كيف تعامل المسلمون مع غير المسلمين عبر التاريخ؟ وكيف يتعامل المسلمون اليوم مع غير المسلمين في مجتمعاتهم؟ هذان سؤالان معقدان وكبيران للغاية، وهناك فارق جوهري بينهما أو بالأحرى بين الحقبتين الزمنيتين التي يعبران عنها.
عبر التاريخ كان المسلمون سادة في أراضيهم، يعيشون في ظل أنظمتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية الذي بنوها وحكموها بأنفسهم، أما اليوم وبعد قرون من مقاومة المد الإمبريالي الغربي لا يزال المسلمون فاقدين للاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي على نحو غالب.
أهل الذمة: تمييز ديني أم وصف قانوني؟
سمى المسلمونُ غيرَ المسلمينَ غيرَ المحاربينَ أهل الذمة، وعلى أهل الذمة دفع الجزية للمسلمين في مقابل الدفاع عنهم، وسبب وضع الجزية قول الله تعالى: “قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَٰغِرُونَ”(التوبة: ٢٩)[1]. وأجمع الفقهاء على أن “الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس”[2]، غير أنهم اختلفوا فيمن تؤخذ الجزية من غيرهم[3]، فقال الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد: “تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم، ولا تؤخذ من عبدة الأوثان من العرب”[4]، ويرى أهل هذا الرأي عموما أن “الجزية تؤخذ من كل كافر ولم يستثن منه كافرا من كافر”[5].
في المقابل هناك “المخصصون بالجزية لأهل الكتاب وقالوا: المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إعدام الكفر والشرك من الأرض، وأن يكون الدين كله لله ومقتضى هذا ألا يقر كافر على كفره، ولكن جاء النص بإقرار أهل الكتاب إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فاقتصرنا بها عليهم، وأخذنا في عموم الكفار بالنصوص الدالة على قتالهم إلى أن يكون الدين كله لله”[6]، وفضلا عن ذلك قالوا: “ولا يصح إلحاق عبدة الأوثان بأهل الكتاب، لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب”[7]، وقد انعكس هذا الخلاف على بقية المسائل مثل حل الذبائح وجواز الزواج وغير ذلك.
هذا وتُدفع الجزية مقابل الحماية، فإذا شارك أهل الذمة في الحماية فلا جزية عليهم بل يشاركون في الغنيمة والفيء حال اشتراكهم في القتال مع المسلمين، كما أنه وفقا للاجتهادات الجديدة لمفكرين مثل محمد سليم العوا، وطارق البشري، وفهمي هويدي، ومحمد عمارة، فإن مناط حكم أهل الذمة اليوم لم يعد موجودًا بل صار أهل الذمة مواطنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، ويلخص هذا الموقف عنوان كتاب فهمي هويدي: “مواطنون لا ذميون”[8].
ومع اتساع عالم المسلمين بعد الفتوح امتد مفهوم أهل الذمة ليشمل غير أهل الكتاب كما في العراق والهند خصوصا، وفي مبسوط الإمام أبي الحسن الشيباني تحدث عن مبدأ “نترك أهل الذمة وما يدينون” وعليه تسامح مع عرف الزرادشتيين المزدكيين بزواج الأخ من أخته أو أمه وقبل باحتكامهم للقاضي المسلم[9]، متبعا في ذلك الإمام أبي حنيفة[10].
وكذلك تسامح الإمام مالك مع سلوك غير المسلمين حيث قال بوضوح أنه ليس للسيد المسلم أن يمنع عبده من ممارسة ما يحله دينه حتى لو خالف الشرع، فذكر في المدونة (المجلد ٣، ص ٩٩): “وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ النَّصْرَانِيَّ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ يَأْكُلَ الْخِنْزِيرَ أَوْ يَبِيعَهَا أَوْ يَبْتَاعَهَا أَوْ يَأْتِيَ الْكَنِيسَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِهِمْ”، وقال ابن قدامة في المغني: “فصل في ميراث المجوس ومن جرى مجراهم ممن ينكح ذوات المحارم إذا أسلموا وتحاكموا إلينا لا نعلم بين علماء المسلمين خلافًا في أنهم لا يرثون بنكاح ذوات المحارم، فأما غيره من الأنكحة؛ فكل نكاح اعتقدوا صحته وأقروا عليه بعد إسلامهم توارثوا به، سواء وجد بشروطه المعتبرة في نكاح المسلمين أم لم يوجد، وما لا يقرون عليه بعد إسلامهم لا يتوارثون به، والمجوس وغيرهم في هذا سواء”[11].
حول العلاقة بين المسلمين واللادينيين
الأصل أن الإسلام لا يُكره أحدا على اعتناق شيء ما، ولا يُمانع من حيث الأصل اعتناق أحد أي شيء[12]، ولكن في ظل الكيان السياسي الذي يحكمه المسلمون هل يسمح المسلمون لغيرهم بالظهور والدعوة لما يخالف عقائدهم التي تخالف النظام العام للأمة والمجتمع؟ وسؤال التنوع اليوم يشمل أساسا غير الدينيين بدرجاتهم المتنوعة من العلمانية إلى الإلحاد، لا سيما أن حماية أهل الذمة كان يقع تحت بند حماية الدين، غير أن حماية اللادينيين أمر فيه “تهديد” للدين، فهل يطالب المسلمون اليوم بمجال عام وتعددي أم يتحكمون في أطر المجال العام؟ وما وضع غير المسلمين في المجتمع المسلم من حيث حرية فكرهم وبيان دينهم، وتعبيرهم عن عقائدهم وأفكارهم، وممارسة شعائرهم وعاداتهم كما يتصورونها.
يتناول وصفي أبو زيد الإجابة الفقهية على هذا السؤال[13] مميزا بين البيان والدعوة، والدعوة وفقا له هي “إظهار محاسن الشيء والكشف عن معالمه وكلياته وحقائقه دون استخدام وسائل معينة بقصد الحشد لهذه المحاسن والعمل على توليد وسائل لإقناع الناس بها، فهو بيان، مجرد بيان”. بينما الدعوة “لا تقتصر على البيان فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى الترغيب في اعتناق هذه الحقائق، والاقتناع بهذه المحاسن، عقيدة وإيمانا يحمل صاحبه علي الدعوة له والدفاع عنه، فضلا عن الإيمان به”.
ويوضح أبو زيد أن ثمة ثلاثة اتجاهات حيال هذه القضية، يرى الاتجاه الأول منع قيام غير المسلمين ببيان دينهم وعقائدهم، وقال الحنابلة بالمنع على الإطلاق، وللحنفية تفصيل في الأمر، وتوسط الشافعية بين الاثنين.
أما الاتجاه الثاني فيرى جواز بيان عقائدهم ودينهم بضوابط هي ألا يكون في ذلك خطر على المجتمع وحين تؤمن الفتنة، ومن ذلك أبو الأعلى المودودي وأمين أحسن إصلاحي وعبد الكريم زيدان ويوسف القرضاوي وراشد الغنوشي وغيرهم.
بينما يرى الاتجاه الثالث جواز بيان غير المسلمين لدينهم والدعوة لعقائدهم مع توفر حق الإقناع والاقتناع بين طرفين واعيين، وصاحب هذا الرأي هو إسماعيل راجي الفاروقي.
ويرى وصفي أبو زيد أن الرأي الأول له ظروفه التاريخية والاجتماعية التي تغيرت مما استدعي الرأي الثاني ولكنه غير كافٍ ولا يوفِ المسألة حقها، ومن ثم يرجح أبو زيد الرأي الثالث قائلا: “والذي نطمئن إليه أن بيان غير المسلمين لدينهم ومعتقداتهم بالحوار الناجع المبني على الحجة والدليل والبرهان، والصادر من أهله، وفي مكانه اللائق به، وبين جمهوره المستوعب له، أو أفراده القادرين عليه؛ إقناعا أو اقتناعا، هو الذي نرجحه ونبيحه بضوابطه وشروطه؛ لأنه ليس هناك من يمنعه، بل هناك من الأدلة ما يمكن أن يوصف بالتواتر مؤيدا له، وهو ما كون في النهاية ما نسميه بالحرية الدينية، أو حرية الاعتقاد”[14]، وقدم أبو زيد أدلة نصية من القرآن والسنة وأخرى عقلية اجتهادية ترجح الرأي الذي اختاره.
أما من الناحية السياسية والتاريخية، ففي بحثه عن التنوع الديني في الإسلام[15] يذهب محمد ضياء الحق إلى اعتراف الإسلام بغير المسلمين كأعضاء في الدولة الإسلامية، والتشريع الفعال فيما يتعلق بحقوقهم ورفاهيتهم، موضحًا أن الإسلام لديه القدرة على التوفيق والتسوية، قانونيا وتاريخيا حين يتعلق الأمر بالتعايش السلمي بين أبناء الأديان المختلفة، بل ويجادل بأن غير المسلمين تلقوا، بدرجة ما، معاملة تفضيلية في ظل القانون الإسلامي، إذ أباح الفقهاء مثل الماوردي والفراء تولي غير المسلمين للوزارة.
ويشير ريتشارد خوري إلى أن الأمر تطلب ستة قرون كاملة كي تتحول الأغلبية المسيحية في الشرق الأدنى من المسيحية إلى الإسلام، وهو ما يعكس ثقة المسلمين بأنفسهم وعدم استخدامهم للعنف والأساليب القسرية لأسلمة مجتمعاتهم، وكذلك لم يبدأ أقباط مصر في التكلم باللغة العربية إلا بعد ٣٥٠ عاما من الفتح الإسلامي[16].
كان المسلمون من القوة الذاتية لدرجة أنهم بدأوا واستمروا قرونا كأقلية في البلاد التي فتحوها، وقد اتسمت معاملة المسلمين لغيرهم بالانفتاح والعطاء في مقابل المصير البائس لغير المسيحيين في أوروبا بعد اعتناقها المسيحية.
يرى ضياء الحق أن مفهوم أهل الذمة تم استخدامه ليعكس بشكل خاطئ مكانة دونية لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، غير أن هذا المفهوم في الحقيقة (وهنا يستعير تعريف أحمد مصطفى الزرقا): “وصف قانوني يفترض وجوده في الإنسان كي يكون مستحقا للصفة القانونية الكاملة التي بموجبها يتمتع الشخص بالحقوق ويمارس الواجبات”، وبعد أن يصبح الشخص ذي صفة قانونية في شكل الذمة، يصبح لدى غير المسلمين القدرة على أن يصيروا مواطنين في الدولة الإسلامية وأن يتزاوجوا مع المسلمين، ويأكلوا من طعامهم، ويمارسوا شعائر دينهم بحرية كاملة، ويُعفى الذميون من الزكاة ومن القتال، وقد ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن كل غير المسلمين يتسع لهم وصف أهل الذمة.
السؤال اليوم إذا بشكل صريح: هل على المسلمين القبول بتواجد وحركة اللادينيين في المجال العام؟ الإجابة المتسقة مع روح الإسلام ومع النفسية الإسلامية السوية الواثقة من نفسها تقول نعم، وهكذا كان المجتمع الإسلامي على مر العصور، منفتحا على كل التيارات والأفكار المختلفة والتي أدت في بعض الأحيان إلى صدامات دموية بلا شك، وعلى المسلمين المؤمنين بدور الإسلام في الحياة والمجال العام أن يطوروا أنفسهم وقدراتهم للدخول في هذا المعترك، فالقمع والاضطهاد هروب من الواقع وتعمية على ضعف الحجة وفقر الخيال، قال ابن جبير: “ومن أعجب ما يحدث أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين، مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان منهم ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الآمنة على غاية، وتجار النصارى يؤدون في بلاد المسلمين ضريبة على سلعهم، والاتفاق بينهم الاعتدال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب”[17]، وإذا كان الحال كذلك مع المسيحيين فإنه أوجب في حالة اللادينيين، والاختلاف والتنوع والعيش المشترك سنة الله في خلقه علمها من علمها وجهلها من جهلها.
المصادر
[1]. ابن القيم، أحكام أهل الذمة، رمادي للنشر، ١٩٩٧، ص ٧٩.
[2]. ابن القيم، المرجع السابق، ص ص ٧٩-٨٠.
[3]. ابن القيم، المرجع السابق، ص ٨٧.
[4]. ابن القيم، المرجع السابق، ص ٨٧.
[5]. ابن القيم، المرجع السابق، ص ٨٩.
[6]. ابن القيم، المرجع السابق، ص ٩٥.
[7]. ابن القيم، المرجع السابق، ص ٩٥.
[8]. فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، دار الشروق، ٢٠٠٤.
[9]. Ahmad Atif Ahmad, Forgiveness and Tolerance, unpublished paper, 2022.
[10]. Ahmad, Ahmad Atif. “Fifty-Seven Tracts: Shaybānī’s (d. 189/805) Aṣl/Mabsūṭ, Twelve Centuries On.” American Journal of Islam and Society 38, no. 1-2 (2021).
[11]. Ahmad Atif Ahmad, Op. cit.
[12]. وصفي أبو زيد، الحرية الدينية ومقاصدها في الإسلام، دار السلام، ٢٠٠٩.
[13]. وصفي أبو زيد، بيان غير المسلمين لدينهم في مجتمع المسلمين بين الجواز والمنع، مجلة المسلم المعاصر، العدد ١٤٧، ٧ يناير ٢٠١٣.
[14]. وصفي أبو زيد، بيان غير المسلمين لدينهم، مرجع سابق.
[15]. Zia-Ul-Haq, Muhammad. “Religious diversity: an Islamic perspective.” Islamic Studies (2010): 493-519.
[16]. فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، مرجع سابق، ص ٦٤.
[17]. فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، مرجع سابق، ص ٥.
تعليقات علي هذا المقال