كان للأزمات العديدة التي تعرضت لها مجتمعاتنا في السنين الأخيرة أثرًا كبيرًا في أفرادها على مختلف المستويات، فقد أصبح الضغط النفسي والصدمات والاكتئاب وغيرها من الأمور التي تتعلق بالصحة النفسية جزءً من نقاشات يدور أغلبها في حلقات مغلقة مع بعض الاهتمام في نطاق الرأي العام.
لم يعد الاهتمام بالصحة النفسية اليوم أمرًا ثانويًا على الإطلاق، بل يفرضه الواقع بما فيه من تحديات، ورغم ذلك مازال هناك العديد من العقبات النفسية والعملية التي تقف بين المسلمين والاهتمام الجاد بالصحة النفسية، وأهم هذه العقبات حاجز نفسي يتعلق بالربط الدائم والقطعي بين الاضطرابات النفسية وبين الإيمان أحيانًا والهشاشة النفسية أحيانًا والإثنين معًا في أحيان أخرى.
يضع هذا الحاجز النفسي بطبيعة الحال مسافة بين المسلم ومحاولة فهم ومواجهة مشاكله النفسية المحتملة، كما أن الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي تضاعف حجم هذه المسافة، فحتى إن تجاوز الشخص هذا الحاجز النفسي سيجد نفسه تحت ضغط مجتمعي يغذي شعوره بالذنب والخجل ويحثه على كبت مشاكله وتغطيتها وانتظار الفرج، ناهيك عن غير ذلك من العقبات العملية التي من أهمها عدم توافر معالجين نفسيين متخصصين بشكل كاف وكثرة مدعي التخصص، وعدم الراحة لتوجهات المتخصصين المتوفرين، وارتفاع أسعار جلسات المتخصصين مما يجعل العلاج النفسي رفاهية لا يقدر عليها إلا المقتدرون ماديا.
ربما يختلف تحدي المسلمين المعاصرين مع المرض النفسي عن غيره من التحديات التي تواجههم على المستوى الأخلاقي والفقهي والتي يتم بحثها في هذا العدد من المجلة، وذلك لأن التناقض الذي قد يراه بعض المسلمين بين معتقداتهم وما يتعلق بالحديث عن الصحة النفسية في العصر الحالي هو في رأيي تناقض مبالغ فيه في أغلب الأحيان، وأظن أن الخطوة الأولى في التعامل مع هذه المسألة تكمن في الرجوع والنظر إلى كيفية تعامل المسلمين مع هذا الموضوع قبل مئات السنين وفي مختلف العصور، ورغم أن الرجوع للتراث وحده بالطبع ليس كافيا إلا أنه يساعد كثيرًا في تخطي الحاجز الفكري والنفسي الذي يقف في طريق التقدم في هذه المسألة.
الصحة النفسية في التراث الإسلامي
على عكس ما يظن الكثيرون، يتناول التراث الإسلامي الصحة النفسية بشكل جاد ومعقد، لدرجة تجعل القارئ له يرى بوضوح نقاط التقاء وتشابه مع ما تطرحه بعض النظريات الحديثة في علم النفس، ويمكن رؤية أن علماء المسلمين كانوا منذ مئات السنين رواد بعض الأفكار التي ظهرت لاحقًا كأساسيات لنظريات حديثة في علم النفس والعلاج النفسي، والفضل يرجع لمجموعة من العلماء المسلمين المعاصرين المهتمين بالبحث في أمور النفس في استخراج الكثير مما تركه التراث الإسلامي في هذا الموضوع وتسليط الضوء عليه، وذلك للعمل على الخروج مما وصفه الدكتور مالك بدري (رحمه الله) بالمأزق الذي وجد علماء النفس المسلمين أنفسهم فيه نتيجة هيمنة النظريات الغربية على مناهج دراسة وتطبيقات الصحة النفسية[1].
وينعكس هذا المأزق الخاص بعلماء النفس على عامة الناس في عدم ثقتهم فيما تقدمه هذه النظريات من مفاهيم أو أساليب علاجية أو نصائح عامة تخص الصحة النفسية، وعدم الثقة مفهوم لحساسية الموضوع وخصوصيته، وربما تكون حالة عدم الثقة أحد تفسيرات المفاهيم الإشكالية عن المرض النفسي أو الصحة النفسية التي نعاني منها في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، وما يتبع هذه المفاهيم الإشكالية من وصمة وعار تصاحب كل من يفكر في الإفصاح عن معاناته.
هناك الكثير مما يدل على اهتمام المسلمين على مدار التاريخ بموضوع الصحة النفسية والمرض النفسي على النطاق الفكري والعملي، إليك مثلاً ما قدمه أبو زيد البلخي من مساهمة لفهم طبيعة العلاقة بين الجسد والنفس، وأبو حامد الغزالي الذي أكد على وجود أمراض للقلوب ووضح أهمية التعامل معها وتزكية الروح منها، وهذه أمثلة ربما هي الأبرز والأشهر من مساهمات مجموعة كبيرة من العلماء مثل ابن سينا، وابن رشد، والكندي، وغيرهم.
أذكر هنا مثالاً من كتاب “مصالح الأبدان والأنفس” الذي كتبه أبو زيد البلخي قبل أكثر من ألف عام، حيث كان أهم ما وقف عليه البلخي في كتابه هو ارتباط الصحة النفسية بالصحة البدنية، فلم ير البلخي أن النفس والبدن منفصلان في تكوينهما وما يمكن أن يؤثر عليهما، وهذا الربط مهم للغاية لاعتبار أن للمرض النفسي جانب عضوي لا يجب إغفاله، وهذا ما تشير إليه الكثير من الدراسات الحديثة في هذا الموضوع، ويقول البلخي في ذلك: “كان (الإنسان) مركبًا من بدن ونفس صار يوجد له من قبل كل منهما صلاح وفساد وصحة ومرض، (لذلك) فإن إضافة مصالح الأنفس إلى تدبير مصالح الأبدان أمر صواب .. لاشتباك أسباب الأبدان بأسباب الأنفس”[2].
كان هذا مثالاً على المستوى الفكري، لكن هناك أيضًا دلائل على مستوى الواقع العملي، مثلاً كانت المستشفيات التي تم إنشاؤها في العصور الأولى من الإسلام تحتوي على أقسام للأمراض العقلية، من هذه المستشفيات ما أنشئ في بغداد في القرن الثامن وفي دمشق في القرن التاسع وفي القاهرة في القرن الثالث عشر الميلادي، وبقدر ما نعرف، لم تكن هذه الأقسام عبارة عن عنابر قبيحة منعزلة عن المجتمع كما يمكن للبعض أن يتصور خاصة مع كونها في هذه الحقب من التاريخ، بل كانت هذه الأقسام جزءً من الحياة اليومية للناس غير منفصلة عنهم وكان التركيز فيها على الجماليات من حدائق ونافورات، واهتمام براحة المرضى وأحوالهم، وذلك إيمانًا بتأثير هذه العوامل الإيجابي على مرحلة العلاج[3].
إذاً؛ تشير هذه الأمثلة إلى أن المسلمين لم يكونوا دائمًا في أزمة مع المرض النفسي، بل ربما كانوا في تصالح تام مع الأمر باعتباره مما قد يصيب الإنسان من ضر خلال فترة من حياته لأسباب مختلفة، ولكننا اليوم ما زلنا نواجه الكثير من المفاهيم المغلوطة والوصمات التي تتعلق بالمرض النفسي والصحة النفسية، ولعل هذا يرجع بنسبة كبيرة إلى ربط المرض النفسي بشكل مستمر وقاطع بضعف الإيمان والهشاشة النفسية.
هل ينتج المرض النفسي عن ضعف الإيمان؟
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال كما يفعل البعض بـ”نعم” أو “لا” قولاً واحدًا، وذلك لأن الاضطرابات النفسية معقدة للغاية في أنواعها وأسبابها، حتى إنه في أغلب الأحيان لا يمكن الإشارة إلى سبب واحد لتطور الأمراض النفسية، فهناك الكثير من الاحتمالات بداية من تكوين الشخص البيولوجي والجيني ومرورًا بشخصيته ونشأته، وصولاً إلى ما يعيشه من تجارب شخصية ومؤثرات خارجية من حوله، وعادة ما تكون الاضطرابات النفسية نتيجة مزيج من بعض أو كل هذه الأسباب وتفاعلها معًا.
هناك بلا شك علاقة بين الإيمان والصحة النفسية، ولكنها علاقة معقدة بتعقيد المرض النفسي، إذ لا شك أن الإيمان يقي المرء بعض المشاكل النفسية ويزيد من قدرته على تحمل الكثير من الضغوط والابتلاءات، بل ويمنحه سعادة واطمئنانًا يغنيه عن الكثير، وهذا ما تدعمه الدراسات الحديثة أيضًا، كما يمكن أن يكون ضعف الإيمان من العوامل التي تؤثر في احتمالية الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية كالاكتئاب مثلاً، ولكنه لا يمكن أن يكون العامل الوحيد، كما يمكن أيضًا للمرض النفسي أن يتجلى في أمر متعلق بالتدين، كالوسواس القهري الذي يصيب المرء فيعيد الوضوء أو الصلاة مرات ومرات، فهل نتهم هذا الشخص بضعف الإيمان؟
لا يعني إذاً وجود علاقة بين الإيمان والصحة النفسية أن المؤمن لا يمكن أن يصيبه في نفسه مرض، المرض النفسي ظاهرة بشرية، فلم الحاجة لنزع حق المؤمن في الشكوى مما قد يصيب الإنسان من سوء؟ وكما نتقبل جميعًا أن جسد المؤمن يمكن أن يمرض كغيره من البشر، وأن صحة الجسد مرتبطة بصحة النفس، فلماذا يصعب علينا تقبل أن نفس المؤمن قد تمرض، وأن المرض النفسي لا ينتج بالضرورة عن ضعف إيمان؟ حتى وإن كان إيمان هذا الشخص مهزوزًا، ألا يمكن أن يكون ضعف الإيمان نتيجة للمرض النفسي وليس العكس؟
الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي
أحد نتائج الربط القطعي المغلوط بين الإيمان والمرض النفسي أن المسلم يواجه وصمة اجتماعية في حال شكواه من أعراض مرض نفسي ما، فكأنما لم يكفه ما يعاني، بل كتب عليه في مجتمعاتنا (وغيرها من المجتمعات) أن يعاني أيضاً من الشعور بالذنب نتيجة الوصم العلني أو الضمني الملازم له بضعف الإيمان، وغالبًا ما يضاعف الشعور بالذنب من أعراض المرض وشدتها وهو ما يؤدي إلى تضاعف الإحساس بالذنب وهكذا، كالدائر في حلقة مفرغة.
وقد يواجه المرء الذي يعاني من مرض نفسي وصمة الهشاشة النفسية، وهناك من يرى أن الهشاشة النفسية حالة منتشرة في الأجيال الجديدة مقارنة بما قبله من الأجيال[4]، والمشكلة في أطروحة الهشاشة النفسية في رأيي أنها تتجاهل أو تقلل من أهمية مبدأ أساسي يتعلق باختلاف البشر وقدراتهم على تحمل مختلف الأمور والظروف، فيمكن لشخصين عاشا تجربة مماثلة أن يخرجا منها بآثار مختلفة تمامًا لاختلاف تكوينهم وشخصياتهم وتجاربهم.
ومن المهم أن نعرف أن أعراض الاضطرابات النفسية قد تتنوع باختلاف السياق الاجتماعي والثقافي، فهناك ما يشير إلى أن المجتمعات التي تزيد فيها وصمة الاضطرابات النفسية تزيد فيها نسبة الأعراض الجسدية أكثر من النفسية، وذلك لقبول الأعراض الجسدية والانتباه لها مجتمعيا في مقابل الأعراض النفسية.[5] لذا يجب ألا نظن أن كبت الأعراض النفسية يعفينا من أثر المرض النفسي، بل ربما يكلفنا هذا الكبت من صحتنا أكثر بكثير من مما قد يكلفنا مواجهة المرض النفسي.
خاتمة
يجب تقدير الجهود التي يبذلها بعض العلماء المسلمين المعاصرين من محاولات لتقريب المسافة بين العلوم الشرعية وعلم النفس، إلا أنه مازال هناك الكثير من التحديات في هذا المجال إذ لا يكفي الوقوف عند التراث وما قدمه من إسهامات، وأرى أن الوفاء الحقيقي للعلماء المسلمين ليس في تعظيم تراثهم وتجليله، بل في تقييم منهجيته ومساءلة نتائجه والتطوير من بعده من خلال الاشتباك مع الواقع وتحدياته.
المصادر
[1] Badri, M.B. (1979). The Dilemma of Muslim Psychologists. London: MWH London Publishers.
[2] البلخي أ. ز.، بدري م. عشوي م. (2003). مصالح الأبدان والأنفس. الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
[3] الحبيب ط. ب. ع. (1999). لمحة موجزة عن تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين. الرياض: دار المسلم للنشر والتوزيع
[4] عرفة إ. (2020) الهشاشة النفسية: لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟ الرياض: دار وقف دلائل للنشر
[5] Ciftci, A., Jones, N., & Corrigan, P. W. (2013). Mental health stigma in the Muslim community. Journal of Muslim Mental Health, 7(1).
تعليقات علي هذا المقال