في كتابه (علم السياسة: الأسس)[1] يتحدث الكاتب “ستيفن دي تانسي” عن الانقسام السياسي لبعض المناطق والأقاليم داخل نفس الدولة، وهو ما يسميه علماء السياسة بـانقسام الخطوط العمودية.
يتحدث ستيفن عن أنه كلما كانت هناك روابط اجتماعية واقتصادية بين مجموعة من الناس يعيشون في منطقة واحدة، ينشأ لديهم هوية إقليمية قد تكون في بعض الأحيان أقوى بكثير من الانتماء لهوية الوطن الأكبر الذي ينتمون إليه، وهو ما قد يسبب نزاعات إقليمية وسياسية ورياضية بين هذه الأقاليم وبين الدولة.
على حسب ما ذكر ستيفن، فإنه قوة هذه الهويات تتحدد بناءً على عدة عوامل: كالحجم النسبي لها، والقوة السياسية، والقوة الاقتصادية، فمثلاً قد تلعب مجموعة صغيرة دورًا غير مهم، لكنه مفيد مثل الصينيون والهنود الذين يديرون مطاعم الوجبات السريعة في مجتمعات غير مقسمة، في حين أنه يمكن لجماعة من نفس الحجم أن تمتلك قطعة أرض تعيش فيها وتزرعها، وهو ما قد يحقق لها شيئًا من الاكتفاء الذاتي، لكنه قد يعرضها في المقابل للضغط السياسي.
تشتهر إسبانيا على نطاق واسع بالكاثوليكية والتراث الروماني، وتنعكس جذور الأرستقراطية والفن والثورة في كرة القدم في البلاد أيضًا، فثقافة كرة القدم في إسبانيا هي ثقافة الفخر والسياسة والقومية والهوية، وينشأ هذا من التنوع الثقافي والتاريخ السياسي مع مجتمعات مثل مدريد، وكاتالونيا، وإقليم الباسك، والأندلس، وغاليسيا، وجزر الكناري.
إسبانيا لديها العديد من الانقسامات، وتمثل فرق كرة القدم الثقافة والفن والتاريخ الكامنين في هذه المناطق، بمرور الوقت؛ تفوق فريق واحد على وجه الخصوص على الآخرين في كونه صادقًا مع جذوره وهويته، هذا الفريق هو أتلتيك بيلباو المنتمي لإقليم الباسك، فما هي قصة هذا الفريق؟
إقليم الباسك: نزاع منذ قديم الأزل
الباسك هو أحد المجتمعات المستقلة التي تحدثنا عنها في المقدمة، يقع في شمال أسبانيا وجنوب غرب فرنسا، والباسك شعب فخور بثقافته ولغته وفريق كرة القدم الخاص به، سنركز اليوم على جزر الباسك في شمال إسبانيا وفريق كرة القدم الخاص بهم أتلتيك بيلباو.
في القرن الثامن عشر تم دمج مقاطعات الباسك، وألافا، وغويبوزكوا، وفيزكايا،في مملكة قشتالة الإسبانية التي تمتعت بقواعد قانونية مميزة، ومؤسسات سياسية مستقلة، في القرن التاسع عشر شعرت مقاطعات الباسك بالقيود المتزايدة بسبب المركزية الليبرالية المتزايدة في إسبانيا، ودعمت كارليست في الحروب الأهلية الإسبانية، هُزم الكارليون وبدأت الثورة الصناعية بالهجرات الجماعية للإسبان إلى بلاد الباسك، أدى هذا إلى تأسيس حزب الباسك القومي عام 1895، والذي نادى منذ تأسيسه باستقلال الإقليم عن إسبانيا.
لا تعد اللغة الإسبانية هي اللغة المنطوقة الأساسية في منطقة الباسك في إسبانيا، بدلًا من ذلك فإن اللغة السائدة تُسمى الباسكية أو البشكنشية، وذلك على عكس اللغة الجاليكية التي يمكن تصنيفها على أنها مزيج من البرتغالية والإسبانية، أو اللغة الكاتالونية التي يمكن اعتبارها تقاطعًا بين الفرنسية والإسبانية، لكن اللغة الباسكية ليس لها علاقة اشتقاقية مع اللغات المحيطة، ولا يُعرف إلا القليل عن أصولها الحقيقية، النظرية السائدة هي أن شكلًا بدائيًا من لغة الباسك كان موجودًا في أوروبا الغربية قبل وصول اللغات الهندوأوروبية إلى المنطقة.
خلال ديكتاتورية فرانكو في إسبانيا (1939-1975) عانت بلاد الباسك من الاضطهاد القاسي، على سبيل المثال، حُظرت لغة الباسك في جميع المناطق العامة، مما تسبب في زيادة الوعي بتراثهم العرقي، حيث وُلدت فكرة المقاومة المسلحة في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما تبددت الآمال في الزوال الفوري لنظام فرانكو، وانتشر الإحباط واليأس في عموم الإقليم.
في عام 1959 تم تأسيس حركة إيتا، واسمها اختصار لكلمات “Euskadi Ta Atasuna” أي بلاد الباسك والحرية، والتي نشأت من حركات الشباب التي أعربت عن مطالبات أكثر راديكالية تجاه استقلال الباسك[2].
خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بدأ القوميون الباسكيون في استخدام كرة القدم كوسيلة للترويج لأجندتهم السياسية، كان أتلتيك بيلباو هو الفريق الذي تم اختياره لتمثيل هذا الصراع من أجل إعلاء الهوية الباسكية، وبعد مرور عام على وفاة فرانكو، وضع حارس الفريق حينها “خوسيه أنخيل إريبار” علم الباسك في الملعب بفخر، وكان هذا أول عرض علني للعلم منذ ما يقرب من 40 عامًا.
خلال ذروة إيتا، تدخلت المجموعة أيضًا في شؤون كرة القدم بهدف جمع المال، وكان لها حادث شهير بابتزاز المدافع الفرنسي الدولي “بيسنتي ليزارازو”، ولاعبي كرة قدم آخرين من إقليم الباسك، زاعمين أنهم رفضوا هويتهم العرقية، وذلك لتمثيلهم المنتخبين الفرنسي أو الإسباني[3].
منذ عام 1968، قتلت إيتا أكثر من 800 شخص، وجرحت الآلاف، وقامت بعشرات عمليات الاختطاف، أكثر من 700 من أعضاء الجماعة مسجونون حاليًا في إسبانيا وفرنسا ودول أخرى.
أتليتك بيلباو: أكثر من مجرد نادي
تأسس النادي عام 1898 بالقرب من كنيسة “سان ماميس”، كان النادي أحد الأعضاء المؤسسين لدوري الدرجة الأولى منذ إنشائه في عام 1929، وهو واحد من 3 أندية فقط لم تهبط أبدًا من دوري الدرجة الأولى مع ريال مدريد وبرشلونة.
عمل أتلتيك بيلباو منذ تأسيسه لإعلاء الفخر القومي لشعوب منطقة الباسك، حيث كان يمثل ثقافة ثورية يتعين عليها محاربة قمع ديكتاتورية فرانكو، والترويج لعادات وتقاليد وقضايا الباسكيين وذلك من خلال كرة القدم.
أصبح النادي أداة للتعبير عن المشاعر السياسية ضد الحكومة الفاشية في العاصمة، كما عمل على إرساء أيديولوجية الباسكيين بكل السبل، بداية من شعار الفريق، وهو عبارة عن شجرة بلوط ترمز إلى الحرية التقليدية لشعب الباسك ككل.
كانت الأندية الأخرى في منطقة الباسك مثل ريال سوسيداد وأوساسونا وديبورتيفو ألافيس جزءً لا يتجزأ من الترويج للثقافة والمواهب المحلية، ولكن لم يُحقق أي منها الإنجاز الذي حققه بيلباو.
في 26 أبريل 1937، أثار قصف جوي لمدينة الباسك خلال الحرب الأهلية الإسبانية من قبل القوات النازية التي كانت حليفة للجنرال فرانكو جدلاً بسبب قصف المدنيين من قبل القوات الجوية العسكرية، ألهمت الحادثة لوحة بابلو بيكاسو الشهيرة المناهضة للحرب والتي تحمل الاسم نفسه، أثار هذا الحادث قومية الباسك على مستوى كبير.
في وقت لاحق من ذلك العام، اختار ممثلو مجتمع الباسك الفريق للمشاركة في جولة في المباريات بهدف جمع الأموال والحصول على الموارد لغرض الإغاثة، وجذب انتباه العالم إلى الوضع المروع في إسبانيا[4].
على الجانب الآخر؛ فإن لبيلباو تاريخ رياضي عظيم، حيثُ كان أول فريق إسباني لا يُقهر عندما فاز بلقب الدوري الإسباني بدون هزيمة في 1929-1930، فأضاف الأسود لقبين دوري آخرين في عامي 1931 و1934 تحت قيادة المدرب البريطاني “ويليام جاربوت”.
ومع ظهور “تيلمو زارا” بعد الحرب الأهلية، عاش بيلباو فترة ذهبية، حيث سجل زارا رقمًا قياسيًا للنادي بلغ 294 هدفًا في جميع المسابقات، في عام 1943 فاز النادي بالثنائية واحتفظ باللقب في عامي 1944 و1945، وبفضل خط أمامي من زارا ورافائيل إيريوندو وفينانسيو وأوغستين جاينزا فاز النادي بكأس ديل جنراليسيمو في عام 1950 في مدريد بعد فوزه على بلد الوليد 4-1 في النهائي.
تحت قيادة المدرب “فرديناند داوتشيك” فاز النادي بكأس الملك مرة 1956، أعقب ذلك فترة سيطرة واسعة النطاق من قبل ريال مدريد وبرشلونة في الخمسينيات والستينيات على الكرة الإسبانية.
عادت أيام مجد بيلباو عندما تولى “خافيير كليمنتي” منصب المدير الفني في عام 1981، وقبل ذلك بفترة وجيزة جاءت إحدى اللحظات الاحتفالية للنادي في ديسمبر 1976، في ديربي الباسك ضد ريال سوسيداد، حيث ظهر علم الباسك لأول مرة منذ وفاة الجنرال فرانكو.
قام النادي بتحدٍ مفاجيءٍ في الدوري في موسم 1997-1998 تحت قيادة “لويس فرنانديز” الذي تعاقد مع “جوزيبا إكستبيريا” من غريمه الشرس سوسيداد، وبفضله تأهل النادي لدوري أبطال أوروبا، أصبح الأرجنتيني “مارسيلو بيلسا” مدربًا للنادي في عام 2011 وبتشكيلته الثورية 3-3-3-1 جعل فريق إقليم الباسك أحد أكثر الأندية جاذبية في أوروبا، وكان قريبًا للغاية من تحقيق أول لقب أوروبي له عندما خسر في نهائي الدوري الأوروبي أمام غريمه أتلتيكو مدريد عام 2012.
بالرغم من كل ذلك التاريخ الكروي إلا أننا لم نسمع ذات مرة أن لاعبًا عربيًا أو من أمريكا الجنوبية أو من دول أوروبا نفسها يلعب ضمن صفوف بيلباو، فمن الغريب أن نادي بهذه العراقة لم يكن عامل جذب لنجوم عالميين، لكن السبب هي سياسة يفرضها النادي على نفسه في التعاقد مع اللاعبين، فما هي تلك السياسة؟
باسكيون حتى النخاع
ليس من المستغرب تمامًا مع تزايد عولمة كرة القدم وانتشارها ثقافيًا في كل مكان، أن يتم اكتشاف اللاعبين من جميع أنحاء العالم وإحضارهم إلى الفرق الأجنبية، فريق كرة القدم غالبًا ما يكون مزيجًا رائعًا من الخلفيات والثقافات والجنسيات، لكن هذا ليس هو الحال في أتلتيك بيلباو.
على الرغم من أنها ليست قاعدة رسمية مضمنة في أي شكل من أشكال دستور النادي المكتوب، إلا أن سياسة بيلباو في التعاقد مع اللاعبين قد تكون هي الأكثر شهرة، لدرجة أن اختيار إدارة النادي في اللعبة الشهيرة Football Manager يُنظر إليه على أنه تحدٍ فريد في حد ذاته.
مفاد هذه السياسة أنها تقيد أتلتيك بيلباو بالتعاقد مع لاعبين ينتمون فقط لإقليم الباسك، أو أولئك الذين كان أقاربهم من الإقليم، نتيجة لذلك، غالبًا ما يقتصر أتلتيك بيلباو على التعاقد مع مواهب شابة من أندية مثل ريال سوسيداد وديبورتيفو ألافيس وإيبار وأوساسونا.
تمتد السياسة إلى أكثر من قرن حتى عام 1912، وبالتالي فهي متجذرة بعمق في التقاليد والثقافة التي تجسد النادي نفسه، والجدير بالذكر أن ريال سوسيداد كان لديه سياسة مماثلة في الستينيات، حتى تم إسقاطها في نهاية المطاف عام 1989 بعد توقيع “جون الدريدج” الذي لم يكن مؤكدًا بالفعل نسبه لإقليم الباسك.
من الناحية الكروية، فإن سياسة الانتقالات التي يتبعها أتلتيك بيلباو تجعل مهمتهم في مقارعة برشلونة وريال مدريد وأتلتيكو مدريد أكثر صعوبة، إن مصادر مواهبهم محدودة للغاية، وهؤلاء اللاعبين الذين ينحدرون من أصول باسكية ويتطورون إلى مواهب رائعة للنادي غالبًا ما يتم خطفهم من قبل أندية أخرى.
ولطالما ظل الجدل الدائر حول طبيعة سياسة الانتقالات لأتلتيك بلباو قائماً، يعتقد البعض أن قومية الباسك تمثلها سياسة الإنتقالات هذه لإظهار الولاء لتقاليد الباسك في النادي، فمن خلال التوقيع فقط على اللاعبين الذين تنطبق عليهم القيود، يستطيع بيلباو تعزيز المواهب المحلية ورعايتها وتطويرها، ما يضمن بقاء إقليم الباسك ممثلا في كرة القدم محليًا وعالميًا.
ولطالما كانت هذه الخطة ناجحة بالنسبة للنادي فقد أنتجوا الكثير من المواهب على مر السنين، فنجوم عالميون منهم “إيمريك لابورت” لاعب مانشستر سيتي، ولاعب تشيلسي “كيبا أريزابالاجا”، كانوا ذات يوم طلاب في أكاديمية بيلباو، كما هو الحال مع معظم لاعبي الفريق الأول الحالي[5].
ثمة رأي معارض لهذه السياسة يتمثل في كونها ذات دلالات عنصرية واضحة، وبدلًا من اعتبارها مجرد تفضيل لأولئك المنحدرين من أصل الباسك، فهي تمييزية بشكل صارخ، هذا الرأي بالطبع، مفهوم إلى حد ما.
فهناك،وبشكل عام قضية تتعلق بالقومية في السياقات الاجتماعية والسياسية، بينما تسعى القومية والوطنية على حد سواء إلى توصيل شعور بالفخر في منطقة أو أمة، إلا أنهما يتجليان في كثير من الأحيان بطريقة يبدو أنها توحي ضمنيًا بالتفوق على ما هو أجنبي.
المجتمع الباسكي يحوي بداخله ما هو أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، حاولنا أن نستشف بعض الخطوط العريضة لمجتمعاتك هذه، وكيف لكرة القدم أن تلعب دورًا هامًا في السياسة الإقليمية والدولية كما فعل وسيفعل بيلباو دائمًا.
المصادر:
[1] كتاب علم السياسة: الأسس، ستيفن دي تانسي، ترجمة رشا جمال، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[2] Spain and The Pasque Country-A Case Study, By: Stefan Vedder
[3] Spanish Inquisition: Athletic Bilbao – Where Blood Runs Thicker Than Football
[4] Athletic Bilbao: The Pride Of The Basque country, By: EADF Feed
[5] Athletic Bilbao – where intelligent investment pays off, By: FirstPost.com
تعليقات علي هذا المقال