في أحيان كثيرة، تضيق بي الطرق، وتزدحم عليّ الأفكار، وأجد عقلي مشوشا بالقدر الكافي لصدم الحائط بقبضة يدي، لن ينكسر الحائط، لكني أخسر راحة أصابعي لأسبوع على الأقل، وفوق ذلك لا تنحل عقدتي ولا تنتهي مشكلتي، وأعود أفكر وتتأجج نار الحيرة في رأسي، ماذا أفعل في كذا وكذا؟
لن يكون من المبالغة أن أخبرك بأنني في هذه الحالة لا أرتاح إلا بإحضار ورقةٍ وقلم، أضعهما أمامي، تنساب المشكلات من رأسي إلى القلم، ومن القلم إلى الورقة، ومن الورقة إما إلى الحل، وإما إلى الفراغ، لكنها على كل حال تفرغ رأسي مما يشعلها، وتخفف عن صدري الثقَل الذي يحمله.
أشعر أن في كل قلمٍ وورقةٍ معاونًا خاصا، مدير أعمال، تجلس معه فيرتب لك ما اختلط عليك، وينسق لك الأدوار بين الزحام، ويوزع المهمات، ويستبعد الضجيج الذي بلا فائدة، ويقول لك تفضل، هذه أعمالك وأفكارك وواجباتك وجدولك، هذه الأولويات وتلك الثانويات، افعل هذا ولا تفعل هذا، ثم آخذ الورقة في جيبي، وأنطلق إلى ما أراد الله لي.
حتى في الذهاب إلى السوق، في التبضّع من المتجر، في أي مكانٍ، أحتاج إلى أن أرتب أموري قبلها عن طريق معاوني الخاص، الورقة والقلم، ويظن البعض أن “نوت“ التليفون تحل عوضا عن ذلك، وهي أسهل في المسح والتعديل والكتابة، لكنني لا أرى فيها الراحة التي أستشعرها وأنا أكتب المهمات، حتى ولو كنت أكتب “كيلو طماطم، كيلو خيار“.
وبالعودة إلى طفولتي، أو إلى طفولتنا جميعا، سنجدنا نحفظ القرآن من خلال كتابة “اللوح“، ولا عجب في أن يكون بعد ذلك “لوحاً محفوظا“، حتى أتذكر أن التسميع اليومي على الشيخ ينقسم إلى شقين، “الماضي“، وهو يتعلق بمراجعة ما حفظته سابقا، و“اللوح“، في إشارةٍ إلى المقرر اليوميّ الجديد، وهذا لعلاقته الوثيقة بكتابته على “لوح“، وحفظه على أتم وجه.
وهنا يستطيع المتخصصون إفادتنا أكثر، من ناحية ثبات العلوم بالكتابة، وسهولة تذكرها بعد ذلك، وتنمية ملكة الحفظ، ومن الماضي والحفظ بالكتابة، إلى الحاضر الموجع، فالأطفال كبروا، وانتقلوا من المدرسة إلى الجامعة، ومن الكُتّاب إلى الحياة التي تخلو من “سيّدنا“، وأصبحنا فيها بلا أحدٍ يصحح لنا الأخطاء ويتابع معنا الحفظ، فضلا على أنها حياة لن يقيك منها حفظ ولا فهم، عليك أن تجرب بنفسك.
كبرنا وصارت لكل منا معركته وآلامه، وأصبحت صدورنا مرتعًا للأوجاع، وسرادقاً قائما للعزاء، لا ينفض منه المشيعون أبدا، كل يوم حزن، وكل ساعة فقيد في داخل نفوسنا، وسؤالنا في ذلك: كيف نتجاوز أحزاننا، وكيف نقفز فوق آلامنا، وكيف نرتاح من هذا الذي في داخلنا، يقبض على رقابنا ويقول: موتوا. ونحن لا نريد أن نموت بهذه السهولة.
بحثتُ، وأنا أخمن مسبقًا، كنتُ أراهن على أن في طب النفس شيئا اسمه “العلاج بالكتابة“، ووجدتُّه فعلا، لم أبحر في علمٍ يتخصص فيه المجتهدون بعد سنوات، ولا أدّعي أني عالمٌ ولا طبيب، لكن اسألوا أهل العلم، سيقسمون لك على أهمية العلاج بالكتابة.
وبشكلٍ شخصي، لا أعرف كيف كنتُ سأعيش من دونها، وكيف سأنزل أحمالي بلا ورقة وقلم، وكيف كنتُ سأعيش أصلا، من غيرها، لا أقول لكم اكتبوا أشياءً عميقة، ولا أشترط عليكم أن تكتبوا كلاما أدبيا منمقا، مجرد الكتابة، بلا شيء آخر، مجرد الدفتر تدوّن فيه، أو الورقة تصب فيها ما بداخلك، بلغتك البسيطة، بلا تكلف، ولا خوفٍ أن يطّلع على ذلك أحد، يمكنك أن تكتب وتكتب وتكتب، دون توقف، ودون تعب، بالعكس، ستجد التعبّ مسكوبًا على الورقة، والعرق منسابا من جسمك، والأفكار متبخرّة في سحابة كثيفة بسقف الغرفة، لا يراها غيرك، لكنك تنظر إليها مبتسما وأنت مطمئن تماما.
كيف نكتب؟ هل تستطيع الكلام؟ اكتب ما تتكلمه، دوّن ما تقوله، يمكنك حتى أن تقول ما تريده بينك وبين نفسك أو بصوتٍ مرتفع، وتزامنا مع ذلك أن تكتب ما قلته، عملية سهلة لا تنفصل عن الكلام العادي، ولا تختلف كثيرا، لكن رؤية ما كتبتَ بعينيك، يوحي بأنك تشاهد عقلك من الداخل، ذلك المكان الغامض فيك، أنت الآن تملك مفتاحه.
وعن تجربة شخصية تماما، أجل، أعيش أوجاعًا كثيرة، وأعاني في معارك خاصة، لكنني في كل مرةٍ أجدني أخفّ وزنا وأصفى صدرا وأنقى روحا، بعدما أفرغ ما بجعبتي داخل دفتري الأزرق، وأتخيل ذلك الدفتر صديقًا ورقيًّا، عبارة عن أذن كبيرةٍ في شكل أوراق وسطور، أثرثر ويسمعني، أقول كلاما مفهوما وغير مفهوم ويسمعني، أرغو بلا ملل ولا يقول لي اصمت، وإنما كلما أنهيت حديثًا وملأت به الصفحة، فتح لي صفحةً جديدة، وقال لي: “أكمل“.
على جانبٍ آخر، بخصوص الكتابة، أحبّ أن أكتب كل يومٍ، أو كلما أتيحت لي الفرصة، ولو مرتين في اليوم، أو مرةً في اليومين، أكتب هذه المرة بغرض التوثيق، بغرض حفظ ما أود حفظه دون أن يضيع، أوثق أنني اليوم بدأت أول عملٍ لي، أنني الآن أصبحت موظفا، اليوم هو أي يومٍ للراتب في حياتي، والليلة بتُّ بلا عشاء لأنني لم أعد أملك ما يكفيني لآخر الشهر.
هنا، بين دفتي الدفتر، أضع قلبي، أستودع نفسي، أفضفض بما أكتمه عن مَن حولي، وأجد في ذلك للوحيدين سلوى، وللغريبين أنسا، وللمرتحلين زادًا، وأجدني يومًا ما، في المستقبل القريب أو البعيد أطّلع على ما أكتب، فأتذكر أحوالي، وأرى كيف كنتُ وأين أصبحت، وكيف تتبدل الدنيا وتتغير الظروف، وكيف نكبر، ويكبر ما بين أوراق هذا الدفتر، وأعرف قيمة الصرخات التي صرختها هنا في هذه السطور، بينما الآن أضحك من أعمق نقطةٍ في قلبي.
وأسجل يومياتي، هل سيقرأها أحد؟ لا يهم. هل أحب أصلا أن يراها أحد؟ هذا أمر يعود لي، لكنني في يومٍ ما سأحب أن أقرأ نفسي بنفسي، أن أرى أحداث عمري الكبيرة، وتفاصيله الصغيرة، وكل لحظةٍ تفوت ولا تعود، فمن يحفظ لي زماني وعمري وأيامي إن لم أحفظهم أنا؟
أفكر في الأمر من هذه الزاوية، في فكرة أن أعملَ كاتبًا عندي، وأن أشتغل مدونا لي، هل هذا مهم؟ أظن أن الإجابة ستأتيك متأخرًا على كل حال، حين تكبر وتنظر في أيامك فلا ترى إلا ذكريات مشوشة، وتقول يا ليتني كتبت من البداية، وحين تنظر إلى أيامك المهمة وتراهن على ذاكرتك، فلا ترى إلا ضبابًا، ولا تشاهد إلا سرابًا.
وهل مهم حين تكبر أصلا أن تراجع أيامك؟ سل جدك، وسل أباك، وسل كل مَن حولك من الكبار، وأخبرني ماذا قالوا، وراسِلني، قل لي ما إجابات الأسئلة لأنني كذلك أحتاج إليها، لأنني حتى الآن جميعهم يقولون لي: بالعكس، اكتب وواصل الكتابة، في دفترك الخاص، هذا قد يكون كل ما تبقى لك في نهاية عمرك.
ولعل من أجمل ما وجدته حين كبرت، دفترًا في مكتبة أبي، فتحتُ الدفتر، وجدته ليوسف، لي، خصصه أبي لذلك الطفل، يدون فيه حركاته وسكناته، يتابع مراحله ومواقفه، يحكي عن كل شيء كان يمكن أن يُنسى، كان أبي سينسى حين كسرتُ نظارته لأول مرة، وحين جُرحت لأول مرة، وحين مرضت، وأول ما زحفت وأول يوم مشيت، وغيرها، كان ذلك أجمل هديةٍ من أبي، وستظل أجمل هدية، ماذا لو لم يكن يدوّن؟
لماذا أحرص إلى هذا الحد في مقالٍ طويل على فكرة الكتابة “لكل إنسان“؟ وماذا سأستفيد؟ ليس شيئا بالفعل غير أني لا أريد لأحدٍ أن يفوّت نعمةً كهذه من تحت يده، ولا أحبّ أن يأتي الغد ولم تكن كتبت اليوم شيئا، وليس مطلوبا منك أن تكون أديبا لتكتب، ولا كاتبا لتكتب، كما ليست القراءة محصورة على أحد، فأرى بالمثل الكتابة ليست محصورة على أحد بشكل أكبر، فقبل أن أقول لك لا تفوّت يوما دون أن تقرأ، أقول: أرجوك، لا تفوت يومًا دون أن تكتب.