على تطبيق شهير لمشاركة الصور نشرتُ صورة جميلة لمشهد الغروب، مع اقتباس عميق عن التفكر من أحد كُتابي المفضلين. صورة من بين عشرات الصور التي التقطتها لنفس المشهد -لاختيار أفضلها فيما بعد طبعا- والحق أني دهشت حينها، إذ لم اتوقف للتفكر ولو لثواني، بل حتى لم أتأمل المشهد خارج إطار الجوال بألوانه الحقيقية وتفاصيله الساحرة والتي تفوق قدرات عدسة الجوال على التقاطها!
لا أعلم لماذا حضرتني حينها صورة بعيدة لجدتي من أمي، وكيف كانت رحمها الله تعرف مواقيت الصلاة من النظر للسماء إذ أنها كانت تربطهما بحركة الطيور، والتي كانت تغار منهم لكثرة تسبيحهم، كأنها معهم في سباق! هذا النظر المتكرر للسماء أورثها حقيقة الشعور بالصغر أمام نسق هذا الكون الفسيح. لا أعلم في الحقيقة إن كانت جدتي قد تلقت أي تعليم لكني أعلم -بلا شك- أنها لم تسمع يوما بمثل الكاتب الشهير الذي اقتبست منه مقولة التفكر.
في حديث قديم جمعني بقريبة لي بعد زفافها أذكر تحديدا مدى انزعاجها من رغبة المهنئين لرؤية تفاصيل بيتها، لا أعلم كم مر من الوقت وماذا تغير حتى أراها اليوم وقد أصبح لديها قناة على موقع شهير تعرض فيه نمط حياتها بتفاصيله، حتى صرنا نعلم كم كأسا للماء لديها وما تفاصيل أثاث بيتها! التفاصيل التي أزعجها يوما أن يطلع عليها زائرون هم بطبيعة الحياة سيعرفونها بتكرار الزيارة، تشاركها هي الآن على الفضاء الالكتروني لغرباء بالكلية، لا تجمعها بهم أي صلة غير أنهم مستخدمين لنفس التطبيق!
ابنك الذي يتململ من محاوطتك له بالسؤال كلما هم بالخروج أو بالإياب.. هو نفسه الذي يشارك بالصوت والصورة خروجاته تلك مع غرباء من كل حدب وصوب على حالاته الشخصية في “استوريهات“ مواقع التواصل.
وقبل أن أسهب في ذكر عشرات الأمثلة التي تحضرني استدلالا على تمكن الاستعراض منا، فأنا أدعوك بنفسك لأن تبحث في هاتفك عن تلك الصور التي شاركتها وقد اتخذتها في سياق بعينه تظهر نمط حياة محبب. وإن كنت فتاة فابحثي معي عن الصور التي شاركتها لكن بعد تعديل وتطبيق الفلاتر التي تجعلنا نبدو أجمل أو أصغر. أما إن كنت أمّاً فلنبحث سويا أنا وأنت عن تلكم الصور التي شاركناها ليس لشيء غير أنها تظهرنا أمهات رائعات نقوم بالأنشطة مع أطفالنا ونتبع أسلوبا معينا وراقيا في تربيتهم. فضلا عن الحالات التي شاركناها لمفكرين لا ندري عن أفكارهم غير نسبة تلك الكلمات لهم على الحقيقة، فربما شارك بعضنا انبهاره ببعض الكتّاب أو المفكرين ولم يتم لهم ولو كتابا واحدا. وكم صادفتنا منشورات وحالات كتبت بكلمات بلّونية لتوحي أنها من عقل خبير، بينما كاتبها لا يزال على أول عتبات المعرفة.
تخوفات الاستعراض في ميزان القيم الإسلامية
مخافة العجب:بينما تدفعنا منصات التواصل إلى حصد الإعجابات لما نفعل، نجد في الإسلام أن إعجاب المرء بنفسه هو فعل مستقبح مذموم يورده المهالك وتأتي النصوص تحذر منه، يقول الله عز وجل في سورة لقمان﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ﴾ [لقمان آية 18]ونصوص أخرى تعالج وتبين حقائق النفس حتى تنضبط فلا تتضخم ولا تزه ﴿قُتِلَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَآ أَكۡفَرَهُۥ﴿١٧﴾ مِنۡ أَيِّ شَيۡءٍ خَلَقَهُ﴿ۥ١٨﴾ مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ﴾ [عبس]وبينما تلح علينا المنصات المختلفة بالتباهي بما نفعل وبمن نكون. يقول نبينا ﷺ:“وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه“وفي رواية أخري للحديث يصرح فيها عن خطورة العجب فيقول“وهي أشدهن“.وإذ تسهل عليك المنصات طريق التصدر والشهرة الزائفة يكتب أحد السلف إلى أخيه“ لا أذاقك الله طعم نفسك فإن ذقتها لا تفلح“. فحين يشعرك عداد المشاركات وزيادة المتابعين وانهمار الإعجابات بخيَلة وعجب أحيانا، تأتيك الآيات كالدواء تذكرنا وتحذرنا بمعان نفسية مهمة، تدبر قوله وخطابه عز وجل﴿وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا﴿ ٣٧﴾كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا﴾“ [الإسراء]
مزلق اللسان المتكلف:ليس بالغريب علينا على هذه المنصات اشتهار الكلام المنمق وتكلفه، بل ويتطرق البعض إلى انتقاء الغريب من القول ليظهر بمظهر المثقف العميق، ذاك الذي لم تأخذه ثقافته تلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم“إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ“.ناهيا عن التكلف الزائد والإغراب المتكلف وعدم البيان. وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: “ما أنت بمحَدِّثٍ قَومًا حديثًا لا تبلُغُه عُقولُهم إلَّا كان لبَعضِهم فِتنةً“ فالعجب كل العجب من تحول تلكم القنوات إلى مواقع للتعالي لا للتواصل!
إشكال طغيان المظهر:يهتف بك المحتوى الذي تتعرض له على هذه المنصات ليل نهار بتوجيه اعتنائك بالظاهر وإشغال فكرك بتزيينه والاهتمام المبالغ به متمثلا في: مأكل، ملبس، جسد… فيجعله يقفز إلى أولى أولويات سلم اهتماماتك مخالفا بذلك أولويات القيم في الإسلام“إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم“ولا يخفى على عاقل المشكلات النفسية الناتجة عن طغيان المظهر على حساب الجوهر من مقارنات التحاسد وكفران النعم وزيادة النزعة الاستهلاكية بل واختلال معيار القيمة نفسه في الجمال والغنى والرضا وغيرها من القيم.
مخافة الوقوع في الشرك الخفي:يقول الله عز وجل﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ﴾ [يوسف-١٠٦]أمام هذه الآية يفسر العلماء معنى الشرك هنا بأن يرى الانسان من ذاته شيء فيستعظمها. هذه التصورات لما حضرت عند الصحب الكرام دفعت الصديق أبو بكر لإخافة أمنا عائشة لما وقفت بردائها الجديد وقفة استحسان قائلا:“أما تعلمين أن الله ليس بناظر إليك!“.نفسها القيم جعلت الفاروق يتسلم مفاتيح القدس برداء مرقع ولا يبالي. هي ذاتها القيم التي دفعت عمر بن عبد العزيز كلما كتب خطبة تعجبه مزقها مخافة أن يتسلل لنفسه شيء من العجب! رباه غفرانك! ماذا لو اطلعوا على منافسات الإعجابات والمشاركات القائمة اليوم!
لسنا هنا في مقام الحكم على أحد بالعجب أو التباهي -معاذ الله- وإنما غاية الأمر أن استحضار هذه القيم وهذه النماذج سيعفينا أولا من شعور المنافسة على هذه المنصات فلسنا نسابق أحدا. وثانيا -وهو ما نرجوه- أن تكسبنا بعض الحذر واليقظة في التنبه إلى محاولات النفس الدائمة لتحصيل هواها على تلكم المنصات. وإن شئت فتدبر مطلع سورة الشمس وفيها أطول قسم في القران على ماذا أقسم؟﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَ﴿ا٩﴾ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾. [الشمس]ورحم الله من قال: ألا ما أخفى مسارب الشيطان إلى النفس وما أشقاها! ألا ما أشد التواءها وما أدهاها! وإن شئت فقل ألا ما أظهرها وأبينها لمن يراها وما أضعفها عند من كان لله عبدا، وما أهواها!
في بنية المنصات وسيولة القيم
مما لا يخفى عن النموذج الغربي تقديمه للمادية (الجسد، المال، اللذة) كغاية بحد ذاتها، لهذا تتوافق هذه المنصات معه وتحقق غاياته بسهولة دونما أي شعور لدى متبنيه بالاغتراب أو المسخ، أو تحوله لمهرج سيرك! فهذه المنصات تحقق له الشهرة والتي تجني له الأموال وتشعره باللذة دونما أي تعارض مع “كيف؟“، فمنصات التواصل والذين أوجدوها منتمون لنموذج قيمي مختلف، تفرض علينا هذه المنصات -بشكل أو بآخر- قيما مغايرة وغايات مخادعة، وكنتيجة للسيولة التي أصابت عالم ما بعد الحداثة في مقابل ضعف الهوية عندنا؛ قمنا باستيراد النماذج والقوالب الغربية بسوءاتها، ورحم الله بن خلدون ومقولته الخالدة في المقدمة: «المغلوب مولَع أبدا بالاقتداء بالغالب»فبين التصورين نجدنا نفقد معيار القيم التي تمثلنا وتذوب الحدود يوما بعد يوم حتى صرنا أقرب إلى تبني قيم التصور الغربي بفجاجته دون وعي. وبالمثال يتضح المقال
بين التصدر والتستر:بينما كانت قيمة الستر قيمة حاضرة عندنا؛ فتستتر المرأة، نستر أمور البيت، نستر عيوبنا وحالنا مع الأهل والأبناء؛ نجد الآن شيوع النقيض وارتضائه! وفي حين كان التصدر ابتلاء واختبار لا مطلبا وغاية. والشهرة ووسيلة لا هدفا، وكنا نقرأ في أخبار السلف الصالح يتواصون بالفرار من الشهرة فرارهم من المجذوم، ومع ذلك لم يمنعهم خوفهم من نشر الخير، بل ضبطوا أنفسهم، فنفعوا وانتفعوا وأدوا ما عليهم وارتفعوا، فكانت شهرتهم في السماء تسبق شهرتهم في أرض الفناء. لكن حين يغيب معيار القيم فلا يُستغرب أن تسود التفاهة في ظل ثقافة تتيح دفع الأموال وتمويل الإعلانات من أجل التصدر والاشتهار. فمجتمعات تسود فيها قيمة المادية المطلقة حتما سيشتهر بينها الحمقى والسفهاء. فشتان بين من تحركه شهوة الشهرة ومن تدفعه رغبة النفع.
بين الأكثر والأصلح:في حين تُعطى القيمة على هذه المنصات لمن ينال إعجاب الأكثريه وتزداد القيمة طرديا بزيادة عدد المتابعين فيصبح الأكثر معيارا للقدوة ولا عزاء للأصلح أو الأنفع هنا! ومع اختلاف معيارية القيم، ترتفع موجة قدوات الأكثر فولوورز واأاكثر حصدا لللايكات ويغيب ويتوارى الأصلح، ونظل نرى تصدر قدوات المهرجانات الشعبية والمقالب اليومية، ويغيب مفهوم القدوة الصحيحة عن الأجيال الناشئة.
لماذا يجب أن ننتبه وكيف؟
مع ما ذكرناه سابقا يصبح الخوف حقا مشروعا لنا لأسباب عدة، أهمها نشأة جيل بلا هوية. نحن على هذه المنصات واحد من ثلاث؛ إما مستخدم مدرك وقادر على عدم الذوبان (محتفظ بهويته)، أو مستخدم مدرك وغير قادر على مقاومة الإغراء، أو مستخدم فاقد للهوية عن علم ورغبة، وكل هذا مقبول، أما الخوف الحقيقي فهو على جيل كامل قد ينشأ فاقد للهوية على غير علم ولا تصور! وهو ما نرى إرهاصاته بكل أسف.
وأخشى ما أخشاه، أن نقع جميعا في شراك هذه المنصات فنبدو ولا نكون، نبدو مثقفين ولا نكون، نبدو نافعين ولا نكون، نبدو ملتزمين ولا نكون، نبدو فاعلين ولا نكون، نبدو مؤمنين ولا نكون. تخدعنا ذواتنا البراقة على هذا العالم الافتراضي فتُعمينا عن خواء الجوهر وهذا يقدم لكم تخوفي الأخير وهووهم النفع والهروب من الواقع.فتحقيق القيمة والذات على هذه العوالم الافتراضية أسهل وأيسر بينما تحقيقها في الواقع يحتاج جهد وتعب وعلم متراكم والنفس تميل إلى الدعة والكسل وواقعنا المقفر الجدب خبر عن هروب المجموع واختيارهم العالم الافتراضي ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قد يبدو من ظاهر المقال أنها دعوة لترك هذه المنصات، ولكنها ليست دعوة للترك بل دعوة للضبط. وكيف نترك ونحن مأمورون بالبلاغ!﴿قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا﴿٢١﴾ قُلۡ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٞ وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا﴿٢٢﴾ إِلَّا بَلَٰغٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۚ﴾ [الجن]وهاكم النبي صلى الله عليه وسلم -ولنا فيه أسوة حسنة- يكابد المتاح من الوسائل لتبليغ دعوته.. فكأني أرى عناء صعوده لقمة الجبل مناديا في الناس -كل الناس- بلاغا وتبليغا. ولا شك أن هذه المنصات بحاجة إلى مؤثرين صالحين ومصلحين، يقفون هم أيضا ينادون في الناس داعين لقيم أسمى ومقدمين لنموذجا أصلح. وإنما غاية المقصد -في نظري- هو استصحاب ضابطين مهمين سيعفياننا من الكثير من مظاهر هيمنة وغلبة الاستعراض:
الأول: استحضار قيم التصور الاسلامي وتبنيها والتزامها ما أمكن.
والثاني: فهم مداخل النفس وضرورة مخالفة الهوى.
وإنما الموفق من وفقه الله، والله نسأل أن يصلح لنا أقوالنا وأعمالنا، ويكتبنا عنده من الصادقين.