“خلال سنين كتيرة من خلال تناول إعلامي لموضوعات تتم في سينا[ء].. لم تصل للناس بنفس المستوى اللي أنتم قدرتوا توصلوه“1.
كلمات يوجهها السيسي لفريق عمل مسلسل “الاختيار“ الذي أنتجته الدولة بميزانية لم يُكشف عنها وسُخِرت لها مقدرات الجيش من سلاح وآليات ومواقع تصوير وملابس وغيرها من العناصر الإنتاجية لتقديم رواية النظام عما يحدث في سيناء.
منذ البداية كان السيسي حريصًا على أن يكون الإعلام ناطقًا باسم النظام وروايته الرسمية، بل وعمل منذ البداية على احتكار الإعلام وقطاع السينما، فالنظام الجديد لا يريد إعلامًا مواليا فحسب، ولكنه يريد امتلاك إعلام من المنبع، يربح منه ماديًا ومعنويًا.
الإعلام الموجه هو أحد الأعمدة الرئيسية لصناعة وبقاء الأنظمة الديكتاتورية الأبوية، ولا تنجح هذه الأنظمة بالسيطرة على المعلومات وانتشارها إلا من خلال قمع أي إعلام قد يقدم ما يخالف الرواية الرسمية.
الدراما وأثرها على الجماهير
إن قدرة السينما مخيفة، لأنها تصل إلى العقول والقلوب وتستطيع أن تؤثر فيها وذلك من خلال الصورة وشحنتها الانفعالية، وقدرتها على الإيحاء واستثارة الذكريات فالناس تجد في مشاهدة الفيلم شكلا من أشكال التنوع الذي يساعد على الهروب من نظام الحياة اليومي وكذلك التحرر العاطفي الذي يظهر في تقمص المشاهد لشخصيات الفيلم وشعوره بالتوحد معها.
وكما أن السينما تساعد على نشر الحقيقة، فهي أيضا قد تكون أداة في كبت تلك الحقيقة وخلق بعض الصور غير الحقيقية وفي إثارة أحاسيس خاطئـة تجـاه قضية ما، ومن هنا تبرز أحد وظائف السينما وهو دورها الدعائي واستخدام النظام السياسي لها بهدف التأثير في الأفراد والجماعات، وخلق رأى عام غير مستنير.
فالسينما تتصل بالنظام السياسي إما عن طريق الصدام أو عن طريق التعاون بينهما، خاصة وأن الأفلام السينمائية أصبحت عنصرا من عناصر الضغط على أي نظام سياسي عبر اتصالها بـالرأي العـام والتعبير عنه، لذلك يضمن النظام المصري سيطرته الكاملة على هذا القطاع من خلال إجراءات احتكار الإنتاج وقوانين الرقابة التي يفرضها لكي يمرر رسائله ويشكل وعي الشعب بما يريد دون السماح بأي أفكار خارج إطاره من مزاحمته في ذلك2.
ولإدراك النظام بأن السينما من أهم وسـائل الاتصـال بالجمـاهير وأخطرها، ودرجة الخطورة تكمن في أن السينما لا تتطلب مـن مشـاهديها مستوى ثقافيا أو فكريا معينا مثلما يتطلبه الكتاب من قارئه، ومن هنا يمكـن أن نعتبر السينما أكثر وسائل الاتصال تأثيرا في جمهورها عن طريـق الصـورة والصوت والكلمة التي تجد طريقها إلى نفس المشاهد دون جهد يبذله، بل من دون وعيٍ خاصٍ بأنه تلقاها وتأثر بها.
ويكمن أقوى أسلحة الدراما تأثيرًا في المستقبِل من خلال ضمها لمجموعة من عناصر القوة في التأثير وترتيب أولويات الجمهور ورسم الصورة الذهنية لقائمة اهتماماته وقناعته وتأثره العاطفي وانفعالاته.
العدو وأهميته الدرامية للنظم الاستبدادية
العدو في نظر النظم الشمولية هو إكسير الحياة، تحرص على استمراره كحرصها على البقاء في السلطة، فبفضل ذلك العدو والذي تعمل الآلة الاعلامية للنظم الديكتاتورية على تضخميه، تتمكن السلطات الحاكمة من الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، وحشد الشعب في مواجهته وصرف النظر عن الأزمات التي تواجه الدولة، فضلاً عن تأجيل أي حديث أو مطالبات باحترام حقوق الإنسان أو تطبيق آليات الديمقراطية وتداول السلطة، فجميع تلك الملفات مؤجلة من أجل حسم المعركة مع العدو وهي معركة لا تُحسم أبدًا، ومن أهم العوامل لخلق صورة العدو هي الدراما التي تجعله حاضرًا متمثلًا أمام الجمهور بشكل مستمر3.
بدأ السيسي مبكرا في خلق عدو غير واضح ومبهم، أسماه “أهل الشر“ وهي التسمية التي تكررت في بعض الأعمال الدرامية التي أنتجتها مؤسسات نظامه، وقد تميز أهل الشر الذين يصفهم السيسي بأنهم عدو مجهول وعام، فهم في داخل مصر وخارجها، مصريون معارضون وأجانب، يجمعهم أنهم يعارضون النظام أو ينتقدون سياساته.
لذلك فقد حرص السيسي منذ اللحظة الأولى على تجييش الإعلاميين وصناع الدراما للدعاية لما تقوم به الدولة من محاربة “العدو“ وأهل الشر كما يصفهم، بل وتبني وجهات نظره الشخصية واقتباس كلماته في كثير من تلك الأعمال.
إعلام بلسان النظام
“متوازية الفساد وحرية الإعلام“ كانت دائما هي المعادلة الأساسية في استراتيجيات النظم المختلفة وعلاقتها مع الإعلام، ففي عهد عبد الناصر كان فساد المشير عامر وصلاح نصر أكثر اتساعا دون مردود على الدولة، إلا أن الشعب لم يغضب أو يشعل ثورة، كونه لا يعلم عنه شيئا بسبب سيطرة النظام على الإعلام، وتوجيه الدراما في خدمة سياسته وقبضته الأمنية التي لم تكن تسمح بأي شكل من أشكال المعارضة.
عهد مبارك في المقابل سمح بقدر من الحريات الإعلامية من صحف وفضائيات تابعت كشف قضايا الفساد دون رد من النظام بتصحيح المسار أو بتفنيد الادعاءات، حتى تكونت صورة شديدة القتامة والسواد في عهد مبارك4، وخصوصا تلك الأعمال التي تناولت فساد وقمع المؤسسة الشرطية والتي ربما يعتقد البعض أنها كانت سببا في إشعال ثورة يناير والتعبير عن الغضب المكتوم والمتراكم نتيجة حصيلة الإدراك لفساد الدولة ومؤسساتها.
في تقريرٍ لمجلة الإيكونوميست البريطانية جاء وصف “هوس“ الرئيس عبد الفتاح السيسي بالسيطرة على ما تبثّه التلفزات في مصر، وإنه لهذا السبب، أوكل لرجال المخابرات اختيار ما يجب بثّه للمصريين، و“بدرجةٍ متطرّفة، حتى بالمعايير المصرية“ ويشير التقرير كذلك إلى أن السلطة في عهد حسني مبارك كانت تأذن بتصوير مسلسلات وأفلام الفساد وتوحش الشرطة، الأمر الذي لم يعد مُباحا، بل صار من غير المسموح تصوير الفقر المدقع، وبات مطلوبا إظهار رجال الشرطة كرجال طيبين4.
سينرجي والسيطرة على صناعة الدراما
يدرك النظام أهمية السينما والفن في التأثير على المجتمع، والأفلام السينمائية كما تؤثر في المجتمع فإنها أيضا تتأثر به، لذلك فقد سعى النظام منذ 2014 إلى السيطرة الكاملة على محتوى العمل الدرامي بل وتوجيهه بما يخدم صورته الذهنية التي يسعى لترويجها عن نفسه من خلال إنتاجات تروج لبطولات وأساطير الجيش والشرطة من جانب، أو وضع محاذير وخطوط حمراء في تناول هذه المؤسسات وقائمة للموضوعات التي يجب على الدراما تغطيتها من جانب آخر.
وفي ظل تراجع صناعة الدراما المصرية خلال السنوات الماضية، كانت مؤسسات النظام العسكرية والأمنية تقوم بالسيطرة على السوق الدرامي بالكامل بدءا بإجراءات رقابية كإنشاء لجنة الدراما من قبل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وكتابة السيناريوهات بالأمر والتوجيهات السيادية، وصولا للسيطرة على القنوات الفضائية، والتي أصبحت معظمها تحت إدارة مجموعة «إعلام المصريين» والتي تمتلك أيضًا شركة «سينرجي» للإنتاج الفني وعلى رأسها تامر مرسي رئيس المجموعة.
هذه الخطوة تحولت فيها الصناعة إلى الاحتكار بيد متحكم وحيد في جهات شرائها وعرضها، ويتم ذلك عبر «إعلام المصريين» التي استحوذت عليها شركة «إيجل كابيتال للاستثمارات المالية» وهي صندوق استثمار مباشر مملوك لجهاز المخابرات العامة المصرية الذي يقوده عباس كامل الذراع الأيمن للسيسي والمحرك الأساسي للقوى الناعمة5.
في 3 أبريل/نيسان 2019، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية مقالا ذكرت فيها أن السيسي يحول سلطته الكاسحة إلى ركن جديد من أركان المجتمع المصري وهي الدراما التلفزيونية التي تقوم على إنتاجها مؤسسات كبيرة في البلاد بميزانيات ضخمة.
هذه الدراما يقوم ببطولتها كبار الفنانين المصريين والتي تركز على بطولات رجال الشرطة، وقد ذكر بعض الفنانون أنه تم إجبارهم على تناول الموضوعات التي حازت على موافقة الرقابة العسكرية، مثل تعظيم دور الجيش والشرطة، وذم جماعة الإخوان المسلمين، ومن لا يلتزم منهم بهذه القواعد، فإن أعمالهم لن يتم عرضها على شاشات التلفزيون6.
توظيف الدراما السياسية
ما يسعى إليه النظام في حقيقة الأمر من خلال هذه السيطرة على الدراما وصناعتها يمكن حصره في مجموعة من النقاط:
١-الترويج لصورة ذهنية خاصة بمؤسساته الأمنية ومنتسبيها
من خلال وضع معايير لشكل التناول الخاص برجال الجيش والشرطة، وتقديم أعمال تبرز بطولاتهم -حتى وإن كانت كاذبة- في سبيل رسم صورة لا يمكن المساس بها أو تناولها بالنقد، فهم حماة الوطن من “أهل الشر“ ومن يتعرض لهم فهو بذلك يضع نفسه في دائرة الخيانة للوطن.
والواقع أن هذه الصورة التي يقدمها النظام تختبئ خلفها طبقة كاملة من المنتفعين وأصحاب المصالح الذين يعتمد عليهم النظام في تثبيت أركانه من خلال ضمان ولائهم وقمع أي صوت معارض وإسكاته.
٢- تقديم روايته الرسمية
قدم النظام روايته الخاصة -وإن خالفت الحقائق المثبتة- بمجموعة من الأعمال الدرامية كمسلسل “الاختيار“ الذي حاول تكريس روايته الأمنية عن الصراع الدائر في سيناء، وذلك من خلال توظيف عناصر العمل الدرامي. كما سعى في الوقت ذاته إلى تصوير عناصر الجيش كأساطير متجاهلًا التقارير الحقوقية والتسريبات التي تظهر جرائم ترتكب بحق الأهالي في سيناء.
كذلك فقد سعى من خلال فيلم “السرب“ إلى تقديم روايته عن هجومه على مدينة درنة في ليبيا. هذا الاستهداف التي أكدت منظمات حقوقية أن ضحاياه كانت من المدنيين والأطفال7.
ومؤخرا فمسلسل “الاختيار ٢“ يقدم رواية النظام في أحداث لم تمر عليها سنوات معدودة ولا يزال شهودها أحياء، في قلب واضح للحقائق وتدليس لمجزرة تم بثها على الهواء مباشرة، وهو ما يمكن اعتباره محاولة من النظام لغسل يديه من دماء لم تجف بعد.
في النهاية، سيظل السيسي ونظامه “مهووسا“ بصورته التي يسعى لتجميلها، والتي ذكرت تقارير إعلامية استخدامه لشركات علاقات عامة ودفع ملايين الجنيهات من أجل تحسين تلك الصورة، وكما ذكر في أحد لقاءاته مع الفنانين أن أهمية هذه الأعمال هي للأجيال الناشئة والأجيال التي تليها.
قديما كان المنتصرون هم من يكتبون التاريخ، لكن كان هذا قبل اختراع الصورة والبث المباشر الذي لن يتمكن السيسي من محو ما وثقته العدسات وشاهده العالم لحظة حدوثه.
المصادر
- https://www.youtube.com/watch?v=QAO-VWavRbU&t=79s
- د.سلوى علي إبراهيم الجيار، السينما والسياسة (المكتب العربي للمعارف) ص 10:23
- ثروت البطاوي، صناعة العدو: خديعة الأنظمة العربية للبقاء والتمدد، موقع رصيف22، الاثنين 19 ديسمبر 2016
- سامي النصف، لماذا حدث ما حدث في مصر؟!، جريدة الأنباء، 14 فبراير 2011
- The economist-How Egyptian entertainment has changed under military rule
- عُلم ويُنفذ: رمضان 2019 برعاية إعلام المصريين، مدى مصر، 21 نوفمبر 2018
- Egypt’s Soap Opera Clampdown Extends el-Sisi’s Iron Grip to TV
- https://www.hrw.org/ar/news/2015/02/24/266966
تعليقات علي هذا المقال