تعتبر العلاقة بين الجيش والسياسة والتحول الديمقراطي في موريتانيا بمثابة مختبر علمي لدراسة ظاهرة العلاقات المدنية العسكرية، حيث ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسار البلاد نحو التحول الديمقراطي وتأثير الجيش الهائل في الحياة السياسية، والاستيلاء على السلطة.
كانت ظاهرة الانقلاب أبرز مظاهر الحياة في موريتانيا منذ وصول الجيش إلى السلطة في السبعينيات من القرن الماضي، حيث أصبحت المؤسسة المهيمنة، المتحكمة في مفاصل الدولة، وصانعة الرؤساء.
مرحلة الانقلابات العسكرية
منذ الاستقلال عام 1960، مرت موريتانيا بعدة مراحل تتراوح من الحكم الاستبدادي للحزب الواحد إلى فترات الانقلابات العسكرية والحكم غير الديمقراطي، استمرت فترة الحكم المدني الأول 18 عاما بقيادة الرئيس المختار ولد داداه، تخلى خلالها نظام ولد داداه الأحادي عن الديمقراطية، وألغى التعددية، وكرس نظام الحزب الواحد في البلاد، ما أدى إلى الانقسام وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
خلال هذه الفترة كان الجيش معزولاً ولم يكن فاعلاً في الحياة السياسة، حتى جاءت حرب الصحراء وتدخل الجيش لإسقاط النظام بذريعة حماية البلاد، وقد مّال العسكر إلى تبرير تدخلهم بتقديم أسباب قومية، والحاجة إلى الوحدة الوطنيّة التي تتجاوز الخطوط الإثنية والقبليّة، والحاجة إلى النظام والضبط والتنظيم، والإصلاح الاجتماعي الاقتصادي.
وفي ظل هذه التغيرات وحكم الجيش الطويل، وعسكرة المجتمع وظهور الأيديولوجية العسكرية وانتشارها، بلغ المجتمع من اليأس مبلغه، حتى بات ينظر إلى الجيش على أنه الوحيد القادر على بناء الدولة، وإصلاح الحكم في موريتانيا.
وصار دخول الجيش وسيلة للترقي الاجتماعي، يجتذب أبناء الطبقة الفقيرة وأبناء الفئات المهمشة في المجتمع، إلى أنه لا يسمح إلا لطبقة معينة الدخول فيه، أما الترقي في المناصب لا يكون إلا من نصيب أبناء الوجهاء والعسكر والعائلات البورجوازية وأفراد القبائل الموالين، أي الدولة العميقة، المهدد الأول للديمقراطية في البلاد.
يبقى الجيش الموريتاني هو أقوى جهاز ومؤسسة عرقية وقبلية في البلاد، ينطلق أفراده بمبدأ الولاء على أساس الانتماءات القبيلة والجهوية والعرقية، ولهذا يعطي الأولوية للمصالح القبيلة والجماعات العرقية الإثنية على مصالح الدولة.
كل ذلك أدى إلى تدخل الجيش في ديسمبر 1984 والقيام بانقلاب عسكري على محمد خونه ولد هيداله بقيادة معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، وشرعت حكومة ولد الطايع في اتخاذ إجراءات في السياسة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، لتشهد البلاد نوعا من المشاركة الشعبية بتنظيم انتخابات ديمقراطية بلدية لأول مرة، ثم الاستفتاء على الدستور.
ويعد دستور 1991، هو أول دستور للبلاد يعتمد التعددية الحزبية ويضمن الحريات السياسية والحريات النقابية وحرية الصحافة.
تجربة التحول الديمقراطي
لم تسلم موريتانيا من موجة التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، إذ فرض عليها التحول الديمقراطي بضغوط فرنسية، ليعلن الرئيس ولد الطايع استبدال بزته العسكرية بالزي المدني.
وفي هذه الفترة عادت القبيلة إلى الظهور كبنية اجتماعية يعتمد عليها في شراء الأصوات الانتخابية، وتكريس الزبونية والمحسوبية وتقاسم الغنائم مع النظام، ما أدى إلى تسييس القبيلة.
وبطبيعة الحال فإن هذه العلاقة بين الدولة والقبيلة زادت فرص ولد الطايع الاستبدادية، ما سمح له بفرض سيطرته على الحكم، وبقائه في السلطة لمدة طويلة، وهذا الاستخدام للقبيلة جاء نتيجة فشل الدولة في التنمية، وتزايد النزاعات الإثنية، بسبب القمع والإقصاء للمجموعات العرقية داخل الدولة .
وجاءت هذه التجربة الديمقراطية في لحظة شديدة الحرج، حيث كان البلد يعاني بسبب الأزمة مع السنغال عام 1989، ويمكن اعتبار الفترة بين 1991-2005 مرحلة عدم استقرار سياسي، لانعدام الأمل بالتغيير السلمي أو تداول السلطة.
إن انغلاق أفق التغيير عبر الانتخابات في موريتانيا خلال حقبة ولد الطايع الممتدة، قد دفع المؤسسة العسكرية لمحاولة التغيير عبر الانقلاب، وقد جرت محاولات عدة للانقلاب على سلطته، كانت آخرها تجربتين متتاليتين.
الأولى فاشلة عام 2003، وقادها المقدم صالح ولد حننه، حاول على إثرها النظام الموريتاني تطهير الجيش من العناصر المعارضة لحكمه، وهو ما لم تسلم منه حتى المؤسسة العسكرية نفسها بالرغم من كونها شكلت باستمرار السند الأبرز لنظام ولد الطايع، حيث عانت هذه المؤسسة من سياسة التسريح والإحالة المبكرة إلى المعاش، وذلك بهدف إقصاء بعض القوى ذات النزعة القومية، وكذلك المجموعات البعثية.
ولم يقتصر الأمر على المجموعات القومية، وإنما طال أيضا بصفة فردية بعض الضباط الطامحين إلى دور داخل هذه المؤسسة، وعلى رأسهم صالح ولد حننه، إلا أن استمرار إغلاق أفق التغيير من داخل النظام، والسلبيات التي حفلت بها تجربة ولد الطايع، دفعت قيادات عسكرية مقربة منه لإجراء محاولة ثانية، نجحت هذه المرة في الإطاحة بحكمه عام 2005.
وهذا الانقلاب ما كان ليحدث لو لم يكن هناك فراغ دستوري، يتمثل في عدم تحديد مدة حكم الرئيس، بالإضافة إلى نضال المعارضة وضغط الشعب، ورفضهم لنظام ولد الطايع العسكري.
فترة الحكم المدني
قاد الانقلاب الذي أطاح بولد الطايع مجموعة من الضباط المقربين منه، بقيادة ولد محمد فال، الذي أصبح أول رئيس يسلم السلطة طوعا إلى المدنيين، وجاءت عملية الإصلاح عن طريق الجيش نفسه، الذي أنهى حكما عسكريا دام 21 عاما.
بعدما تعهد المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية بتنظيم انتخابات نزيهة، وتسليم السلطة، وعدم ترشح أي من أعضائه في الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية.
وبالفعل جرت انتخابات نزيهة وشفافة، فاز فيها سيدي ولد الشيخ عبد الله على رئيس حزب التكتل الديمقراطي أحمد ولد داداه بنسبة 52,85% من الأصوات، وسلم ولد محمد فال السلطة إلى الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله، ولأول مرة في موريتانيا يتم انتقال السلطة من العسكريين إلى حكم مدني منتخب.
قاد العسكريون عملية الإصلاح في 2005 وخرجوا من السلطة، إلا أن هذا الخروج لم ينه دورهم في السياسة، إذ إن هذا التراجع لدور العسكريين في موريتانيا يعود إلى عاملين أساسين.
يتلخص الأول في احتضان مجموعة انقلاب عام 2005 جيلين من العسكريين متناقضين، هما بقايا الجيل الأول الذي ابتكر أسلوب الانقلابات العسكرية في موريتانيا، وجيل الشباب الذي يرى أن الدور عليه الآن.
ويمكن إجمال الثاني في سرعة تنفيذ الانقلاب التي لم تسمح لتشكيلة عسكرية واحدة بالقيام به، فكان إلى جانب أمن الرئاسة، والجيش، والأمن الوطني؛ ما يعني أن تراجع العسكريين الذي وقع كان أقرب إلى فرضية الانقسام منه إلى التراجع.
تسلم سيدي ولد الشيخ عبد الله السلطة في أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ موريتانيا الحديث، وجاء نجاحه نتيجة ضمانات، من أبرزها عدم المساس بالمؤسسة العسكرية، و ترقية بعض الضباط في الجيش.
خلال فترة حكمه التي دامت 15 شهرا، بدا الرجل وكأنه صنيعة العسكريين، إذ أراد الجيش أن يحكم من وراء ستار، قبل أن يصطدم بالرئيس ولد الشيخ عبد الله بعد قراره عزل أربعة من كبار ضباط الجيش، الأمر الذي دفعه إلى الاصطدام مع قيادة الجيش، وسرعان ما عزل الرئيس المنتخب من منصبه، ثم ألقى به في السجن.
بدأت الأزمة عندما حاول الرئيس ولد الشيخ عبد الله إبعاد الحرس القديم من الحكم، الجنرالان محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد غزواني، بتوكيل رئيس وزرائه يحي ولد وافق تأسيس حزب العهد الوطني للديمقراطية والتنمية، المعروف اختصارا باسم عادل، ومهمة تشكيل حكومة جديدة، وهو الأمر الذي رأى فيه البعض رجوعا إلى الطائعية -نسبة إلى نظام الرئيس ولد الطايع- ما ولد الكثير من القلق لدى القادة الذين قاموا بالانقلاب على ولد الطايع، خشية فتح ملفات الجرائم التي ارتكبتها المؤسسة العسكرية.
كما كان الجيش يتدخل حين تتجاوز الحكومة الحدود المعقولة في التحكم بالجيش، كما حصل بعد إقالة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله للجنرال محمد ولد عبد العزيز عام 2008، وهو ما أدى في النهاية إلي حدوث انقلاب عسكري وسقوط أول حكم مدني منتخب في موريتانيا.
اتفاق دكار وعودة العسكر
في خضم أزمة الانقلاب تدخل المجتمع الدولي بجهود الوساطة، من الرئيس السنغالي عبدالله واد، وممثلون من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي وغيرهم، وبعد مفاوضات طويلة تم التوصل إلى اتفاق دكار، وأنهى هذا الاتفاق الأزمة السياسية في البلد، وأفضى إلى إبعاد ولد عبد العزيز عن الحكم، وتنازل الرئيس ولد الشيخ عبد الله عن منصب رئيس الجمهورية، وأجريت انتخابات جديدة عام 2009، أسفرت عن فوز الجنرال محمد ولد عبد العزيز.
مباشرة بعد عودة النظام العسكري إلى الحكم، رجعت البلاد من جديد إلى ماضيها العسكري السلطوي، وبهذا خرجت موريتانيا من النظام الديمقراطي إلى النظام الأوتوقراطي، واستفاد الجيش من التجربة وعاد أكثر تماسكا مما كان عليه في السابق.
كما أنشأ ولد عبد العزيز، نظاما سلطويا، ازداد فيه وزن حكم الفرد على حساب الشراكة مع الجيش، ولم يكتفِ بإعادة إنتاج النظام القديم، بل ذهب إلى إنتاج نظام أكثر قمعية، يهدف إلى إغلاق الفضاء العام تماما، وحظر أي نشاط سياسي؛ وكأن الاستبداد العائد أسوأ من الاستبداد البائد لأنه انتقامي.
عقب اتفاق دكار، كان بإمكان الموريتانيين اغتنام الفرصة وتأسيس عقد اجتماعي بين الدولة والشعب، يفتح المجال أمام وجود مجتمع مدني فعال وأحزاب السياسية قوية، ويقر مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ التداول السلمي على السلطة في البلاد، ولكن ما حصل كان عكس ذلك، إذ تم احتكار السلطة من قبل العسكر لمدة عقد من الزمن، وشهدت هذه الفترة تصفية حسابات مع رجال أعمال، وانتهاكات لحقوق الإنسان، واعتقال السياسيين والزج بهم في السجون، بالإضافة إلى التضييق على الحريات العامة.
خلال هذه الفترة؛ جرت انتخابات رئاسية مرتين، فاز بهما محمد ولد عبد العزيز، وكانت هذه الانتخابات الشكلية يستفاد منها الوجهاء، والمناطق التي تصوت للحزب الحاكم، عبر الحصول على خدمات بسيطة وقبلية لقرى ومناطق معينة، كمكافأة زبائنية من النظام، مع استبعاد المناطق التي لا تصوت له.
غدر الصديق
في انتخابات 2019 رحل عزيز عن الرئاسة مكرها، بعد أن خابت محاولاته تغيير الدستور لتمديد رئاسته، ولعبت المؤسسة العسكرية دورًا مهما في ذلك، وأعلن رفيق دربه وزير الدفاع السابق محمد ولد غزواني ترشحه للرئاسة.
حضر ولد عبد العزيز بقوة في حملة ولد غزواني الانتخابية، وأعلن أنه من يقف وراء ترشيحه، لكنه لم يخف نيته البقاء في المشهد السياسي، خوفا من التعرض للمحاسبة أو المساءلة القانونية.
فاز ولد الغزواني بنسبة 52% من الأصوات، وفي الأشهر الأولى من حكمه، حاول ولد عبد العزيز أن يتحكم في السلطة، وأن يجعل من نفسه زعيما يدير المشهد السياسي من وراء ستار، وهو ما لم يسمح به الرئيس محمد ولد غزواني، حتى وصل الأمر لمحاولة عزيز الانقلاب على ولد الغزواني، عبر الحرس الرئاسي، وهي المحاولة التي أجهضت، وبمجرد عودته إلى الوطن تم وضعه تحت رقابة صارمة، وبدأ الاشتباك معه بتوجيه القضاء الموريتاني تهما له، تتعلق بالفساد والثراء غير المشروع واستغلال السلطة خلال فترة حكمه، وأمر بوضعه تحت المراقبة القضائية المشددة، وبعد ذلك امتنع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز عن التوقيع على محاضر الشرطة، مخالفا بذلك إجراءات الرقابة القضائية المشددة المفروضة عليه، وتم توقيفه وإيداعه السجن.
إن تبادل العسكريين السلطة في موريتانيا جاء في سياق زمني يتسم بالاضطراب، وعدم اليقين، وسط حالة ركود واستبداد، عاشها المجتمع الموريتاني منذ الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب للبلاد في عام 2008.
وعلى رغم ما قيل عن الانتخابات الأخيرة في 2019، بأنها استبدال عسكري بآخر وبأنها ديمقراطية عسكرية، إلى أنها مثلت مكسبا ديمقراطيا واحترام للدستور، وقد تخرج موريتانيا من المنطقة الرمادية، وتتجه بالبلاد نحو انفتاح سياسي حقيقي، إلى أن هذه النقلة تتطلب تفكيك الطبقة الحاكمة، وإشراك الجميع دون تهميش وإقصاء في عملية إصلاح حقيقي جاد.
خاتمة
إن ما نريد أن نخلص إليه، هو أن دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسة كان من أبرز معوقات الانتقال الديمقراطي في موريتانيا، قبل أن يفهم العسكر مؤخرًا أن عصر الانقلابات قد ولى إلى غير رجعة، وأن المجتمع الموريتاني لم يعد يقبل بغير حكم ديمقراطي يأتي عن طريق صناديق الاقتراع بدلا من صناديق البارود، غير أن تجربة الانتقال الديمقراطي في موريتانيا تواجه الكثير من المعوقات، منها الفقر، وزيادة البطالة بين الشباب، وضعف الطبقة الوسطى، وعجز المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وتماسك الجيش واستقلاليته، فهذه العوامل كلها أدت إلى ضعف الدولة في موريتانيا، أما المانع الحقيقي فيتعلق بمعضلة الوحدة الوطنية، التي هي شرط أساسي للانتقال إلى الديمقراطية، ويجب حسمها.
على الرغم من أن مسألة تعزيز الوحدة الوطنية أصبحت تمثل شاغلا متقدما في أولويات المجتمع الموريتاني، نظرا لما يمثله عكس ذلك من خطر على استقرار ومستقبل بلد متعدد الإثنيات والقبائل، إلا أن النخبة السياسية ما زالت عاجزة عن تمثيل وترسيخ الخطاب السياسي المحقق لهذه الغاية.
بل على العكس من ذلك، يلاحظ أن التوظيف السياسي لواقع الاختلاف والتنوع في البنية الاجتماعية هو السمة الغالبة على النشاط السياسي لمعظم النخب الوطنية، الرسمية منها وغير الرسمية.
وبشكل عام؛ قد توجد انقسامات عرقية، أو انقسامات ذات طبيعة أخرى، بين الجماعات التي يتألف منها السكان، وفي حال قادت هذه الانقسامات إلى تشكيك جوهري في الوحدة الوطنية، يجب عندئذٍ حل المشكلة أولا، كي يتيسر الانتقال إلى الديمقراطية، وقد حان الوقت لتحييد الجيش عن معترك السياسة، ومنعه من التدخل في الحياة السياسية، لتكون الحدود بين السياسي والعسكري واضحة، إذ إن تحديد دور المؤسسة العسكرية في العملية السياسية، وضبط العلاقة بين المدني والعسكري، قد يخفف من أزمات البلاد السياسية، ويساعد في نجاح الانتقال الديمقراطي.
تعليقات علي هذا المقال