تُحيلنا ظاهرة الإنفلونسرز في مصر إلى واقعنا المؤلم، بأوضاعه المركبة وحركاته المائجة، فقد انعكست العديد من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية على ظاهرة الإنفلونسرز، حيث لعبت حالة الموت السياسي التي يعيشها البلد، وضعف النخب الفكرية، واختفاء المجال العام؛ دورًا هامًا في بروز هذه الظاهرة، التي باتت تنمو بأقصى ما يمكن من السرعة والفاعلية، واقتحمت الأبواب عنوة غير مبالية ولا مستأذنة، مهددة المقومات الاجتماعية والثقافية التقليدية، والآن فرضت وجودها وحددت المعايير.
موت الواقع وميلاد العالم الافتراضي
عادة ما يطلق اسم “الإنفلونسرز” على من يملكون عددًا كبيرًا من المتابعين من مختلف الجنسيات والأعمار والخلفيات، بغض النظر عن السبب الذي تابعوه من أجله، فالرقم -عدد المتابعين والمشاهدات وحجم التفاعل المتعلق بعدد الإعجابات وعدد المشاركات والتعليقات- هو الذي يقاس به قوة التأثير، وهو أيضًا الذي يُحدد قيمة الإنفلونسر وسعره في السوق.
ومن المهم الإشارة إلى أن كلمة “المؤثر” لم تعد تحمل نفس المعنى القديم، الذي كان يعني التأثير الإيجابي في المجتمع، إذ تحولت دلالة المصطلح من صفة إلى مهنة، أي إن دلالة الكلمة الاستعمالية والوظيفية اختطفت من قادة الرأي والمثقفين والمفكرين، وأصبحت تعني التأثير على الآخرين من أجل حثهم على شراء المنتجات مثلا، وبكل بساطة أصبح بإمكان الإنسان العادي أن يكون مؤثرًا بمجرد أن يكون لديه مخزونا من المتابعين، ومن ثم يشير إلى نفسه على وسائل التواصل باسم إنفلونسر.
يكسب الإنفلونسر لقمة عيشه من خلال تصوير نمط حياته اليومية وبثها في فيديوهات على مختلف شبكات التواصل؛ كيف يأكل ويشرب ويلبس، والأماكن التي يجلس فيها، في فقدان تام للخصوصية، ومن خلال هذه الفيديوهات والصور التي يعرض فيها تفاصيل يومه، يتم عرض المنتجات التي ترسلها الشركات إليه، وتكمن براعة الإنفلونسر في طريقة عرضه للمنتجات وربطها بمفاهيم عاطفية، ففي الغالب يتم عرض المنتج من خلال قصة شخصية، أكثر من مجرد مراجعة لمحتويات المنتج، وبالتالي يُولد هذا الأمر رغبة تلقائية لدى المتابع في شراء المنتج.
يؤسس كل إنفلونسر هوية رقمية لذاته، هدفها استمالة الجمهور وإثارة الإعجاب، حيث يقدم نفسه في صورة رائعة ومختلفة عن الناس، من أجل خلق انطباع لدى المتلقي بوجود شيء مختلف، كما يتقمص الإنفلونسر كينونية ملائكية، محاولًا إبراز المشاعر الحادة كالفرحة الشديدة أو الغضب الشديد، ويتعرض إلى مضامين الخيال أكثر من محتويات الواقع.
في المجمل؛ نحن أمام ذات افتراضية -قد تكون حقيقية أو متخيلة- متزاوجة مع قيم الحداثة الغربية، وخاضعة لديناميات السوق الرأسمالية، تحاول إعلاء قيم مادية استهلاكية، وتأكيد صورة نموذجية، وتؤثر على وجدان المتابع، ليس على مستوى العقلانية، وإنما عبر الانفعالات والتقديرات العاطفية، وبالتالي لم يعد بإمكاننا التحدث عن التأثير، ولكن عن التلاعب، ليتحطم كل ما هو إنساني وحقيقي، لصالح ما هو خيالي واستهلاكي.
في الحياة الواقعية، لا يشارك الناس كل تفاصيل غرف نومهم ومعيشتهم اليومية مع أصدقائهم أو أقاربهم، وكذلك فإن حياة الناس الطبيعية لا تسير على وتيرة واحدة ولا تخلو من الكدر، إلا إن هذه الممارسات أساسية في عمل الإنفلونسر، وبالتالي فإن الإشكالية الكبرى تكمن في بناء واقع متخيل، يبدو وكأنه طبيعي معبر عن الحقيقة، يقدم الإنفلونسر من خلاله حياة سعيدة خالية من المشاكل، ويصدر روتينا يوميا مثاليا يختلف عن الواقع الحقيقي.
يشير يوسف صبري من خلال معايشته لبعض الإنفلونسرز المصريين، بأن حياتهم عبارة عن دوامة صعبة يُظهرون للمتابعين أنهم طايرين طول الوقت، ويقول يوسف: “أغلبية الإنفلونسرز هما أكتر ناس بتكافح لأنهم بيحاولوا يجروا ورا حاجة ك، ورا حاجة طول الوقت، عشان عليهم ضغط إنهم لازم يظهروا للناس حياة أصلا مش بتاعتهم”.
وهنا تكمن الإشكالية في أن الانفلونسر نفسه لا يعتمد على مكونات شخصيته الحقيقية، إنما يظهر للمتابعين أسلوب حياة قائم على الكمال والمثالية المفرطة، في تشويه تام لمفهوم النجاح والسعي.
إن الجمهور لا يرى الإنفلوسر على طبيعته الحقيقية، لا يرى أخطاءه، أو زلات لسانه، لا يرى حياة الإنفلونسر من دون لعب في الألوان والقص واللصق، والتلاعب في زوايا التصوير، ويعبر عن هذا الأمر أحمد إبراهيم، وهو أحد الإنفلونسرز المصريين بالقول: “كل همي إن اللي بيتفرج عليا ميشوفنيش غلطان”.
موضوعات الإنفلونسر
تُعد المواضيع الدائرة في خطابات الإنفلونسرز مكررة ومقلدة، وبشكلٍ عام، يميل هذا الخطاب بتنوعاته المختلفة إلى التحدث في مواضيع الترفيه والاستهلاك، حيث يأتي على القمة موضوعات مثل: الشعر والتجميل والموضة والاكسسوارات، الرشاقة والأناقة، الاهتمام بالبشرة، الطعام وأبرز الأكلات، ومراجعات المطاعم والفنادق والمحال التجارية، والأماكن التي يجلس الإنفلونسرز فيها، أو شركات الطيران التي يستخدمونها أثناء السفر، كما يتواجد الإنفلونسر بكثرة في عيادات التجميل، وتعد القصص القصيرة عملا يوميا أساسيا.
كذلك يكثر الحديث عن الموضوعات المتعلقة بالحياة المنزلية، واستعراض صناديق المنتجات والهدايا، وقصة الإنفلونسر العاطفية مع المنتج، في الغالب يقوم بخلق صورة إيجابية للمنتج، وإبراز فوائد استخدامه، والمنافع التي تعود على المتابع من خلال شرائه.
وفي كثير من الأحيان، لا يوجد توافق أو تشابه بين شخصية الإنفلونسر وبين المنتجات والخدمات التي يعلنون عنها، ويكفي أن تتصفح العديد من صفحاتهم لتجد أنهم يعلنون عن أي شيء ما بين الصحة والتكنولوجيا ومنتجات والتجميل والغذاء والمطاعم والفنادق.
ثم يأتي بعد ذلك خطابات من نوع، الرد على أسئلة المتابعين، والتحدث عن الرياضة وخطوات السعادة والتفاؤل والشغف والطاقة الإيجابية وإيجابيات الشاي الأخضر، والتحديات والمفاجآت، ومحاولات النصح المستمرة، وكيف تكون إنسانا ناجحا، وعلمتني مدرسة الحياة.
وقد لجأ العديد من الإنفلونسرز إلى تقديم محاضرات وقاموا بكتابة كتب توثق النجاح الذي وصلوا إليه، مثل كتاب “مدمن نجاح” الذي حقق مبيعات كبيرة، ويلاحظ أن شخصية الإنفلونسر نفسها تتسم بالتغيير المستمر والأفكار المتجددة، والتركيز على صنع الضجة، مثل خلع وارتداء الحجاب، الخطوبة، الزواج، الطلاق، المقالب، كما تعد حالات السخرية والاستغراب الدائمة من واقع ومعيشة الناس مواضيع أساسية.
كذلك من الملاحظ تفرد المرأة بشكل طاغي في مختلف مجالات الإنفلونسر مقارنة بالرجل، يبدو أن الشركات تنبهت إلى توظيف المرأة في عمليات التسويق لمختلف المنتجات على وسائل التواصل، فعززت علامتها التجارية من خلال إعطاء المرأة دفعة قوية لتسليع نفسها، وبعضهن بالفعل برعن في هذا الأمر، فبعض فتيات الإنفلونسر ممن لديها ملايين المتابعين يعملون كعارضات أزياء وسفراء لأهم المنتجات العالمية.
ويكاد ينعدم دور الإنفلونسرز في التحدث في الموضوعات السياسية والحقوقية والدينية، لكن اللافت أن بعض الدول العربية بدأت في الاستعانة بهم من أجل تسويق الخطاب والبرامج الحكومية، حيث قامت وزارة السياحة المصرية بالاستعانة بالعديد من الإنفلونسر من أجل تنشيط البرامج السياحية.
كذلك حثت مصلحة الضرائب المصرية الأشخاص على دفع الضرائب مستعينة بأحدهم، ويطرح تنامي دور الإنفلونسرز الأخير في أنشطة الأنظمة السياسية سؤالًا عن الدور المستقبلي لهم في التعبئة السياسية لجهة معينة، أو في أداء دور خادم للدولة.
في الواقع؛ أسهم تفاعل الجمهور مع الإنفلونسرز في تشجيع وتغذية هذه الظاهرة، واعتقد بعضهم أنهم نموذج وقدوة للناس، وهذا ليس غرورًا منهم بقدر ما أن المعطيات حولهم توحي بذلك.
من خلال الإعجابات والمشاركات والمشاهدات والتعليقات، يصبح المتابع لاعبًا رئيسيًا، فالعلاقة تكاملية، إضافة إلى أن بعض الشركات والجامعات العالمية والعربية باتت تقوم بتدريس مناهج من أجل نمو هذه الظاهرة، وصار هناك جوائز وتكريمات ومؤتمرات رسمية لتكريمهم.
إضافة لذلك،ك؛ يظهر الإنفلونسرز بشكل متكرر في المعارض والمؤتمرات السياحية، ويستضيف الإعلام العديد منهم، حيث يتم تقديمهم على أنهم مختلفون أصحاب رؤية شبابية، بجانب عرض بعض الإنفلونسر المغريات والمكاسب المالية التي يحصلون عليها، وكلامهم عن استعباد الوظيفة مع أنهم في الواقع قد يعملون لأكثر من 12 ساعة يوميًا، وبالتالي أغرت هذه الأشياء آلاف الأشخاص، واعتبروا أن هذا أسرع طريق لتغيير المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما جعل البعض أيضًا يقومون بأشياء خالية من أي معنى وفي غاية الغرابة، والتي انعكست بشكل كبير على واقع المجتمع اليوم وميله نحو العنف والتفاهة.
العلاقة بين الجمهور والمؤثرين
إن دوافع وأسباب متابعة الجمهور للمؤثرين متعددة، قد تكون بهدف التخلص من الملل، أو اتخاذ قرار بشأن شراء منتج معين، أو الفضول، فالجمهور يتوحد مع الشخص الذي يحبه، وقد يكون أيضًا تنفيسا عن قمع الواقع المعاش، أو الهروب من تردي هموم المعيشة إلى عالم البهجة الزائفة.
يبدو أن الإنفلونسر أدخل المتابعين في تأثير الإدمان، حيث تجعل هذه الجرعة المتلقي يرتاح لبعض الوقت، محاولًا نسيان الواقع، والهروب إلى واقع زائف يتسم باللحظات المتجددة.
لكن مع ازدياد مشاهدة المتابع للإنفلونسر، فقد يصاحب هذا الأمر العديد من الإشكاليات، منها تكريس الشعور بالاغتراب النفسي الذاتي، وعدم الرضا عن النفس، بسبب أن المتلقي يدخل في دائرة المقارنة بين نمط حياته الحقيقي ونمط حياة الإنفلونسر الزائف، وتدور الأسئلة في الأذهان على شاكلة: لماذا لا أعيش مثلهم؟ لماذا لا أشتري المنتجات وأتناول أحلى الأطعمة مثلهم؟ وقد يصبح للواقع الوهمي الذي يعرضه الإنفلونسر مصداقية تفوق الواقع الحقيقي.
لذا؛ فإن من الطبيعي أن يشعر المتابع بالسخط والإحباط، والشعور بأن حياته ونمط عيشه ممل وسيء، وليس كحياة الإنفلونسرز السعيدة، وهنا تتغير المعايير والمقاييس، حيث تُشكل الثقافة والتصور من خلال واقع الإنفلونسر. لتصبح المنتجات أو الملابس أو الأكلات الفاخرة التي يستعرضها الإنفلونسر، أكبر من مجرد منتج بقدر ما هي عرض لأسلوب حياة.
تعليقات علي هذا المقال