بين الحين والآخر، ومع تفجُّر الأوضاع الداخلية في بعض الدول الإفريقية كما شهدنا مؤخرًا في السودان وقبلها إثيوبيا؛ يطفو على السطح من جديد تساؤل لطالما تمَّ طرحه؛ إلا أنه لم تتمَّ الإجابة عليه حتى ذلك الحين، هو: هل يُمكن أن تكون الفيدرالية هي الحل الأمثل لمشكلة الاندماج الوطني التي تعاني منها المجتمعات الإفريقية ذات التعددية الإثنية والعرقية؟
تُعد مشكلة الاندماج الوطني وبناء الأمة؛ أو ما يُطلق عليها “أزمة الهوية”؛ أحد أعقد المشكلات التي تواجه الدولة الإفريقية بعد الاستقلال على اعتبار صعوبة إيجاد حل لها؛ فيصعب أن يتحقَّق للجسد السياسي ذلك القدر من الاستقرار الذي يُمكِّنه من مواجهة كافة المشكلات الأخرى.
وتتفاقم تلك المشكلة في الدول الإفريقية عنها في غيرها من دول العالم، بالرغم من كون ثلثي دول إفريقيا جنوب الصحراء ولا يزيد عدد سكان كل منها على خمسة ملايين نسمة؛ إلا أن بعضها يضم داخل حدوده ما يزيد عن مائة مجموعة عرقية، حتى إن نصف عدد لغات العالم هي لغات إفريقية.
كل هذا جعل غالبية الدول الإفريقية تواجه مشكلات ضرورة تعزيز الشعور بالانتماء الوطني، وتجسيد مفهوم المواطنة بين الغالبية العظمى من مجموعاتها العرقية، والتي تختلف عن بعضها البعض في اللغة والثقافة والدين والقيم وحتى المؤسسات الاجتماعية والسياسية.
مما أودى ببعضها في الأخير إلى التوجُّه نحو الفيدرالية؛ فهل الفيدرالية هي الحل؟ حتى نتمكَّن من الإجابة على هذا السؤال؛ لابد لنا أولًا من تعريف الفيدرالية، والتعرُّف على ظروف نشأتها في الدول الإفريقية.
الفيدرالية وتجاربها في إفريقيا
الفيدرالية هي نظام سياسي يقوم على بناء علاقات تكاملية بين مقاطعات أو إثنيات أو قوميات داخل دولة أو عدة دول يربطها اتحاد مركزي، على أن يكون هذا الاتحاد مبنيًا على أساس الاعتراف بوجود حكومة مركزية لكل الدول الاتحادية، وحكومة ذاتية للولايات أو المقاطعات التي تنقسم إليها الدولة، ويكون توزيع السلطات بين الحكومات الإقليمية والحكومة المركزية.
والدولة الفيدرالية تقوم بالأساس للتوفيق بين تيارين، أولهما؛ هو التيار الاتحادي الناشئ عن عوامل تدعو إلى الوحدة، وثانيهما؛ هو التيار الانفصالي الناشئ من عوامل تستمد من رغبة الشعوب والجماعات في التمتُّع بأكبر قسط من الاستقلال.[1]
وترجع جذور الفيدرالية في إفريقيا إلى فترة ما بعد الاستقلال عن القوى الاستعمارية، حيث أنشأت عدد من الدول المستقلة في إفريقيا اتحادات مع جيرانها.
في عام 1959؛ انضمَّت السنغال والسودان الفرنسي (مالي الحالية) لإنشاء اتحاد مالي. وفي عام 1953؛ تم تأسيس اتحادات روديسيا (زامبيا وملاوي حاليًا) ونياسالاند (ملاوي الحالية). وفي عام 1972؛ انضمَّت ليبيا ومصر إلى سوريا لتأسيس اتحاد الجمهوريات العربية. وفي عام 1952؛ انضمَّت إريتريا إلى إثيوبيا في الأمم المتحدة. وتأسَّست جمهورية الكاميرون الفيدرالية عام 1961، حيث جمعت بين الكاميرون الفرنسية والبريطانية، والتي كانت تحت إدارة استعمارية ألمانية واحدة قبل الحرب العالمية الأولى.
غير أن تلك التجارب الفيدرالية في إفريقيا لم تدُم طويلًا؛ حيث انهار اتحاد مالي قبل الذكرى السنوية الثانية لتأسيسه، وكان اتحاد الجمهوريات العربية في عامه الخامس عندما تم إلغاؤه عام 1977، واستمر الاتحاد الروديسي من 1953 إلى 1963؛ وهكذا فقد فشلت التجارب الأولى للفيدرالية في الازدهار وترسيخ جذورها في إفريقيا.[2]
في هذا الإطار؛ يُمكن القول إن معظم دول إفريقيا جنوب الصحراء قد لجأت بعد الاستقلال إلى المُفاضلة بين نمطين من أنماط الاندماج لحل المشكلات التي عانت منها تلك الدول آنذاك، وهما: الاندماج الطائفي، والاندماج الوظيفي.
وإن كانت غالبية الدول الإفريقية قد لجأت إلى الاندماج الطائفي، والذي ينطوي بالأساس على تبنِّي سياسة تقوم على محاولة استيعاب الجماعات العرقية الأخرى في إطار الجماعة العرقية الحاكمة، حتى لو تطلَّب ذلك اللجوء إلى استخدام العنف، إلا أن مثل هذا النوع من الاندماج لم ينجح في الدول الإفريقية التي طبَّقته في محاولة منها لصهر كافة الجماعات العرقية في البلاد.
ومن هنا ظهر الاندماج الوظيفي في إفريقيا كحل عملي لمشكلة التعددية، حيث يحافظ على الوحدة الإقليمية للدولة مع تحقيق التوازن المصلحي بين كافة جماعات وأقاليم الدولة.[3]
أضحت بعض الدول الإفريقية ترى أن التجربة الفيدرالية لم تُمنح الفرصة للتطور وكانت تتعرَّض للوأد منذ بدايتها، وظهر الجدل حول الفيدرالية والمركزية ومدى ملاءمة كلٍّ منهما لأوضاع القارة الإفريقية؛ فعاودت العديد من تلك الدول المحاولة لإبراز الفيدرالية من جديد في المشهد السياسي والدستوري لها.
وكان من ضمن الدول الإفريقية التي طبقت الفيدرالية؛ السودان 1956، ونيجيريا 1963، وجزر القمر 1975، وإثيوبيا 1995، وجنوب السودان 2011، والصومال 2012.
وهو الأمر الذي دفع للنقاش حول مدى قدرة هذا النظام السياسي على إصلاح أنظمة إفريقية قائمة على المركزية، وتعاني من مجموعة مُعقَّدة من الأزمات المرتبطة بالهوية والطائفية.
وهنا ظهر وجهان للفيدرالية في إفريقيا: أولهما؛ كونها الحل الملائم لهشاشة الدول: فهي قادرة على تقديم حلول ملائمة لإشكالية ضعف الدولة الإفريقية العائدة لمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية، في ظل العجز عن تحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق التنمية التي تنشدها تلك الدول.
في العديد من البلدان الإفريقية، تلاشى نفوذ الدولة ربما في أهم مناطقها، عبر تقسيم المجال الوطني إلى أقاليم اقتصادية مختلفة، يضم الواحد منها ثروات كبيرة (معدنية، زراعية، نفطية، وغيرها) يستغلها المحتكرون أو الأجانب، وفي حين تسيطر الدولة على جزء من الأراضي، يخضع قسم آخر للمعارضة المسلحة، حيث تُدار كل منطقة بشكل مستقل، يتناسب مع مصالحها الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية.
والنظام الفيدرالي يُمكن أن يجمع بين مقومات إحلال السلام في عدد من دول القارة، مع إدارة أفضل لشؤون مناطقها الداخلية، في حال تبنِّيه لأسلوب ملائم.
وثانيهما؛ ما تحمله من مخاطر تفكُّك المجال الوطني: فرص اعتماد نظام فيدرالي، مرتبطة بطبيعة الدول الإفريقية وهيكلة مؤسساتها، ورغم أن هدف الفيدرالية يتمثَّل في إنشاء نظام مُوحَّد مبني على اللامركزية، إلا أن هذا الشكل للحكم يُمكن أن يُشكِّل مخاطر مرتبطة بالهوية، من خلال تكريس نمط تنمية ونظام إداري مبنيان على أُسُس طائفية.[4]
وهكذا برزت للفيدرالية مجموعة من المزايا في مُقابل مجموعة من العيوب، والموازنة بينهما هو العامل الفصل للإجابة على تساؤل مدى قدرة الفيدرالية على تحقيق الاندماج الوطني.
مزايا الفيدرالية وعيوبها
بالنسبة لمزايا الفيدرالية في إفريقيا، فقد تمَّ رصد بعض المزايا، ومنها: اللامركزية؛ حيث تقوم الفيدرالية بإضفاء اللامركزية على السلطة من الحكومة المركزية إلى حكومات الولايات، مما قد يساعد في التخفيف من هيمنة الحكومة المركزية وتشجيع المزيد من صنع القرار المحلي.
استيعاب التنوع؛ إفريقيا موطن لتنوع عرقي ولغوي وثقافي واسع، ويُمكن للفيدرالية أن تساعد في استيعاب التنوع من خلال السماح للمناطق المتمتعة بالحكم الذاتي بحكم نفسها واتخاذ القرارات التي تعكس احتياجاتها وقيمها الفريدة.
تدعيم المشاركة؛ فمن خلال منح المزيد من الاستقلالية للولايات؛ يُمكن للفيدرالية أن تعزز مشاركة أكبر للمواطنين في الحكومة، مما يمنح الناس صوتًا أكبر في القرارات التي تؤثر على حياتهم.
وفي المُقابل تمَّ رصد مجموعة من العيوب للفيدرالية في إفريقيا؛ والتي منها: التشرذم؛ حيث يُمكن أن تؤدي الفيدرالية إلى التجزئة، كنتيجة لعمل كل ولاية أو منطقة على مصلحتها الذاتية بدلًا من العمل معًا من أجل الصالح العام للبلد بأكمله، مما يُمكن أن يؤدي إلى الصراع والانقسام.
عدم الكفاءة؛ فمع توزيع السلطة عبر مستويات مُتعدِّدة من الحكومة، قد يكون من الصعب تنسيق السياسات واتخاذ القرارات بكفاءة، الأمر الذي قد يؤدي في الأخير إلى عدم الكفاءة البيروقراطية والتقدم البطيء في القضايا الهامة.
ترسيخ الهيمنة؛ ففي بعض الحالات، يُمكن للفيدرالية تمكين بعض الولايات أو المناطق على حساب أخرى، مما يؤدي إلى تنمية غير متكافئة وعدم المساواة الاقتصادية، بالإضافة إلى ذلك؛ قد يكون من الصعب على الحكومة المركزية الحفاظ على السيطرة والسلطة عندما تتوزَّع السلطة عبر مستويات مُتعدِّدة من الحكومة.
الخُلاصة
لمَّا كانت الفيدرالية هي نظام حكم يتم فيه تقسيم السلطة بين حكومة مركزية ووحدات سياسية مثل الولايات أو المقاطعات؛ فغالبًا ما يُنظر إليها على أنها حل لمشاكل الاندماج الوطني في المجتمعات التعددية لأنها تسمح بمزيد من الاستقلال الذاتي وتقرير المصير للمجموعات دون الوطنية مع الحفاظ على الشعور بالوحدة الوطنية.
وفي إفريقيا؛ تمَّ تطبيق الفيدرالية في بعض البلدان، أبرزها نيجيريا وإثيوبيا، بدرجات متفاوتة من النجاح.
وبينما يُمكن للفيدرالية أن تساعد في معالجة قضايا التنوع العرقي والثقافي، وتعزيز التنمية المحلية، وتقليل الصراع بين المجموعات المختلفة؛ إلا أنه مع ذلك، يُمكنها أن تؤدي أيضًا إلى تفاقم الانقسامات وخلق شعور بالمنافسة بين المناطق المختلفة.
وبالإضافة إلى ذلك؛ يُمكن أن تكون الفيدرالية صعبة التنفيذ بشكلٍ فعَّال، خاصةً في البلدان ذات المؤسسات الضعيفة والمستويات العالية من الفساد.
وهكذا؛ يُمكن القول بأن التجربة الفيدرالية في إفريقيا تُثبت بأن تطبيقها قد يكون سلاحًا ذو حدَّين. فمن جهة؛ قد تكون الفيدرالية حلًا مُحتملًا لمشاكل التكامل والاندماج الوطني في إفريقيا، حيث توفِّر إطارًا لتعزيز الوحدة والاستقرار والتنمية، ويُمكن أن تساعد في معالجة القضايا الأساسية التي ساهمت في تفكُّك وتقسيم الدولة الإفريقية.
ولكن من جهة أخرى؛ يجب تنفيذها بعناية ومع مراعاة السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفريد لكل بلد، فكما يُمكنها أن تصبح حلًا لتفكك وانقسام الدولة الإفريقية من خلال تعزيز تقاسم السلطة والموارد بين الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية؛ إلا أنه لازال هناك جدلًا جوهريًا يُحيط بالحكم الفيدرالي في القارة السمراء؛ حول إمكانية تفكُّك المجال الفيدرالي المُراد تشكيله، عبر تغليب الاعتبارات العرقية، فيُصبح وسيلة لحدوث الانقسام والتفكُّك بدلًا من الاندماج والتكامل.
المصادر
[1] عبد القادر محمد آدم، “إثيوبيا والنظام الفيدرالي: التوازن الصعب بين التعدد الإثني والوحدة القومية”، مركز الجزيرة للدراسات، 13/12/2020، شُوهد في 15/2/2022، انظر: https://cutt.us/iTnqN.
[2] Eghosa Osaghae, “Federalism and the Management of Diversity in Africa”, Identity, Vol. 5, No. 1, (2004), Pp. 162-178.
[3] د. ابراهيم نصر الدين، دراسات في النظم السياسية الإفريقية، (الجيزة: دار اكتشاف، ط1، 2010)، ص. 39.
[4] محمد عبدلاوي، “النظام الفيدرالي في إفريقيا.. سلاح ذو حدّين (تقرير)”، وكالة الأناضول، 20/12/2016، شُوهد في 1/4/2021، انظر: https://cutt.us/wTtpI
تعليقات علي هذا المقال