زمان سرور وزمان شرور يحلا على المصريين، مصر أم الخير التي كانت تعتبر لعصور عديدة سلة غذاء العالم، وما عُكست صورة الخير إلا بقبضة يد الفلاح على أرضه، فلاح القمح يزرعه ويحصده مدى العمر لاعتباره أحد أهم أجزاء الطعام اليومي للإنسان المصري طوال التاريخ.
طمع الإغريق والرومان في حكم مصر بعد الفرس بسبب أن دلتا النيل الخصبة كانت سلة خبزهم، ولطالما افتخر المصريون القدماء بمطابخهم التي تحتوي على أفران خبز، ومجارش الطحن، والأجران، وكلما زاد عدد الأفران في المطبخ دلّ على ثراء صاحبها، وعبرت النصوص الهيروغليفية والحفريات الأثرية عن المناهج القديمة في إعداد الحبوب وخبز الخبز.
وكما ذكر في كتاب الطبخ في الحضارات القديمة فإن النقود لم تتواجد في مصر حتى الحقبة الإغريقية، فكان الاقتصاد المصري ريعيا يعتمد على الحبوب والدواب والأطعمة الأخرى، التي كانت تجمعها الحكومة وتعيد توزيعها وفقا للمكانة، فهناك للعائلة الحاكمة والكهنة والكتبة والجنود والحرفيين والعمال الذين يكونون المجتمع المصري.
منذ ذلك الوقت وحتى الآن مع تواجد النقود هناك طرق للدولة في توزيع القمح على المجتمع المصري وطرق أكثر للتعامل مع الفلاحين، كل مسؤول حسب ضميره لا حسب قانون محدد.
الاكتفاء الذاتي للغذاء في علم الاقتصاد والسياسة
“ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر، وتلبس مما لا تنسج”
جبران خليل جبران
يعتمد مفهوم الاكتفاء الذاتي من الغذاء للدول عمومًا على مدى إمكانية البلاد تلبية احتياجاتها من إنتاجها المحلي، أهم ما يرجى من تحقيق هذا الاكتفاء هو تقليل التبعية الاقتصادية وبالتالي التبعية السياسية تطبيقا للحق السياسي للدول في عزل نفسها عن تقلبات أسواق الغذاء العالمية من خلال زيادة اعتمادها على إنتاج غذائها المحلي، والحد من مخاطر الاعتماد بشدة على الأسواق العالمية لضمان إمدادات غذائية كافية ومستقرة، نظرًا لأن نسبة متزايدة من إنتاج بعض المحاصيل الأساسية في العالم أصبح يهيمن عليها من قبل بعض البلدان التي تفرض قوتها على الدول المستوردة منها.
تعد اضطرابات الإمدادات الدولية كالحروب أو التوترات السياسية، ونقص الإنتاج في البلدان الأخرى، أو الارتفاع المفاجئ والحاد في أسعار الغذاء، على مدى التاريخ، سببا كافيا لدفع الحكومات كي تضع أولوية الاكتفاء الذاتي كوسيلة رئيسية لحماية الأمن القومي، وهدفا سياسيا لمعالجة الضعف على المسرح السياسي العالمي، وبناء الكبرياء الوطني، كما تعمل بعض البلدان على تعزيز الاكتفاء الذاتي من الغذاء كجزء من استراتيجية التنمية الاقتصادية الأوسع نطاقا، ولا سيما لتعزيز قطاع الزراعة المحلية لديها.
رأسمالية السادات: زمن القمح الأمريكي
امتدت رئاسة السادات لفترة 11 عاما، تخللها توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، ليمنح الكيان الصهيوني أول اعتراف عربي بدولته المزعومة، فحظي من خلال الاتفاقية على رضا الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه وضع عنق الشعب المصري تحت رحمتها.
بدأ اعتماده على معونات القمح الأمريكي، على الرغم من جاهزية الفلاح والأرض للاكتفاء الذاتي، ثم اتبع سياسة الانفتاح الاستهلاكي التي كانت من وجهة نظره انفتاحا اقتصاديا، فنظر إلى إنشاء المباني الفاخرة على حساب الأراضي الزراعية، ما أدى إلى نقصها وبالتالي نقص منتجاتها.
ألغى قانون الدورة الزراعية، هذه العملية التاريخية التي استخدمها المزارع المصري لزراعة القمح والقطن بالتوالي، كوسيلة لعدم نفاذ المعادن والعناصر الغنية في التربة، فأدى إلغاء هذا القانون إلى تقليل خصوبة الأراضي، فضلا عن حدوث فوضى في توزيع مساحة الأرض المزروعة على المحاصيل الزراعية.
كميات قمح مستوردة وصلت إلى حد لم يسبق لها أن وصلت إليه في مصر، قرارات اقتصادية رأسمالية خاطئة، ثم قرار رفع الدعم عن الخبز الذي أثار غضب الشعب، ودفعه للخروج إلى الشارع تعبيرا عن سخطه من موجات الغلاء، رافعا هتافات كان من بينها: “مش كفاية لبسنا الخيش .. جايين ياخدوا رغيف العيش”.
سميت هذه الأحداث التي اشتعلت في يناير عام 1977 باسم انتفاضة الخبز، وبعدها بأربع سنوات تم اغتيال السادات في عرض عسكري كان يقام بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر من قبل ضباط في الجيش المصري كانوا يعارضون اتفاقية كامب ديفيد، وصمة العار التي وقعها مع الكيان الصهيوني.
مافيا مبارك وصفقات القمح المسرطن
يذكر باحث اللسانيات العامة محمد نادر سراج في كتابه “مصر الثورة وشعارات شبابها؛ دراسة لسانية في عفوية التعبير”، وتحديدا في القسم الأخير الذي يعالج به سيميائية الرمز في الحياة اليومية والسياسية في مصر، أن الشعارات والهتافات المرفوعة في الثورة كانت مجاهرة المواطن بحقه في الحصول على الخبز، وبالتالي تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم في ظل أزمات الأجور الخانقة.
تعبر عن ذلك هتافات مثل: “حقّي ألاقي خبز وأعيش .. والملاليم ما بتكفيش” وأيضا “عايز حقى عايز أعيش، عايز حق رغيف العيش”.
وهنا يعبر المواطن المصري عن واحد من حقوقه الأساسية، فكان للرموز والعلامات غير اللغوية حضورها، عندما خرج المتظاهرون المصريون إلى الشوارع في يناير 2011، حملوا أرغفة الخبز في أيديهم، كما صنعوا خوذات من الخبز، وكانوا يهتفون للخبز، وظفوا الخبز للتعبير عن مسألة تردي الأوضاع المعيشية بمغزى سياسي يلمح إلى عمليات النهب والفساد التي عاشوها.
عيش حرية عدالة اجتماعية، شعار الثورة الذي اقتلع نظام مبارك، النظام الذي تسبب في إهدار المال العام واستيراد معظم احتياجات البلد من الغذاء، ولكن هذه المرة استيراد قمح غير صالح للاستهلاك الآدمي!
كان القمح الفاسد من أهم القضايا التي تسببت بغضب الشعب وأذيته من هذا النظام، بعد أن دخل 56 ألف طن من القمح المسرطن بين عامي 2004 و2009 بواقع 17 شحنة مخالفة للمواصفات والمقاييس.
خبزوا خبزهم من قمح معجون بالألم ختم بندب ينزف مدى الحياة للعديد من المواطنين الذين دفعوا ثمن قلة حيلتهم وفساد النظام الحاكم فتسبب القمح الفاسد المسرطن في وفاة آلاف المواطنين، كما تسبب في إصابة آخرين بفيروس الكبد الوبائي وسرطان الكبد الذي يقدر ضحاياه في تلك الفترة بـ100 ألف مواطن سنويا.
أحلام مرسي: محاولة لم يكتب لها الاكتمال
عبر الرئيس الراحل محمد مرسي عن إيمانه بحقوق الشعب، واعتبر أن العيش من دون حرية غير مفيد، والحرية التي لا تجلب العيش غير مجدية أيضا، لذا كان رغيف الخبز أحد أهم المشكلات التي تعهد بحلها وفق خطة تحقق الاكتفاء الذاتي من القمح في غضون 4 سنوات، وبالفعل زادت المساحة المزروعة من القمح بنسبة 10% وارتفعت الإنتاجية بنسبة 30% خلال عام واحد.
أكد الرئيس مرسي كذلك على ضرورة امتلاك الإرادة، مؤكدا أهمية أن ينتج المصريون غذاءهم ودواءهم وسلاحهم، كما أوكل مهمة وزارة التموين لأحد أنشط وزرائه “باسم عودة” الذي اشتهر بلقب وزير الغلابة
وفي فترة استلام عودة الوزارة، حصل المواطنون على الخبز دون حد أقصى، ووضع حدا لسوق القمح السوداء، ومنع خلط دقيق الذرة مع القمح.
في نوفمبر عام 2013 عند اعتقاله يقول أخاه: “يسألني ويستنكر، كيف لم تعلن الحكومة عن سعر استلام القمح من الفلاحين حتى تشجعهم على زراعته؟ يسألنى، كنا سنستلم صوامع ونتعاقد على صوامع أخرى أتعرف لم لم يتم أي من هذا؟ أسئلة من هذا النوع أصابتنى بحالة من الذهول بسبب استمرار انشغال أخى بأحوال البلد والناس بهذا التفصيل، أخيرا سمحوا بدخول الكتب لأخي وكالعادة طلب كتبه العلمية وتقارير حالة الفقر فى مصر وكتب فى الاقتصاد”.
السيسي وإجهاض حلم الاكتفاء الذاتي
لم ينطق السيسي بأي كلمة عن الاكتفاء الذاتي من القمح مطلقا، وتوسع في شراء القمح المستورد، حيث زادت واردات القمح لدرجة أن أصبحت مصر المستورد الأول للقمح عالميا، وهي من بين أكثر المتضررين من الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
كما أن الأموال المخصصة بالموازنة العامة لدعم القمح أصبحت صفرا على يديه، وهو يسعى الآن لرفع دعم الخبز، أفعال بالخط العريض تمنحنا خطوات القضاء على قطاع زراعة القمح المصري.
لطالما اختلف المصريون عن البلدان الأخرى في تسمية الخبز بالعيش، كنوع من الرابط الوثيق بينه وبين الحياة، واعتبروا الحفاظ عليه نوعا من حفظ النعمة، وعدم إهداره هو من المعايير الثقافية لديهم.
لكن صانعي السياسات الحاكمة لا ينظرون إلى الخبز على الإطلاق، فشعور الناس بالأمان لا يقع ضمن اختصاصهم، بحيث يتبعون نهجا اقتصاديا يلبي حاجات مواطنيهم، بدلا من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، الذي أفقد الشعب ثقته في حكومته، وبات الجميع اليوم يدرك خطورة وتبعات أزمة القمح.
تعليقات علي هذا المقال