لم يزل عبد الفتاح السيسي منذ انقلابه الدموي عام 2013، مُصرًا على أن بينه وبين الله علاقة خاصة ليست لأحد من البشر سواه، فمن اللحظة الأولى التي تحدث فيها عن نفسه وعن طموحاته في السلطة والحكم بدا أن الرجل لديه نزوعا نحو تقديس ذاته أو وضعها في إطارٍ مقدس على نحوٍ ما.
وقد اتضح ذلك في أحلامه التي حكاها للصحفي الراحل ياسر رزق عام 2013 في لقاء تم تسريبه حينها؛ إذ حكى السيسي أنه رأى في المنام أنه يُكلم الرئيس الراحل أنور السادات ويخبره بأنه سيكون رئيسا للجمهورية هو الآخر، وأردف بحلم آخر رأى نفسه فيه حاملًا سيفًا مكتوبا عليه لا إله إلا الله باللون الأحمر.
“وفي منام تالت يتقاللي هنديك اللي مديناهوش لحد” أي سوف نعطيك ما لم نعطِه لأي إنسان آخر؛ وكان ذلك في إطار قوله: “أنا من الناس اللي كان لهم تاريخ طويل من الرؤى”.
ومن هذه اللحظة وبعد توليه رئاسة الدولة، توالت أمارات النبوة المُتخيلَة في شخصية السيسي ورؤيته لذاته على أن بينه وبين الله شيئًا ليس كمثل الناس، فالله يكلمه مباشرة إذ يقول في أحد خطاباته: “ربنا قالي هخلي معاك البركة”.
كما أن الله هو من فهمه وعلمه، إذ ما أكثر ما كرر السيسي في خطاباته مقولة ” ففهمناها سليمان” يشير بها إلى نفسه، أى أن الله عز وجل هو الذي أوحى إليه وفهمه علاج الوضع المتأزم في مصر من بعد ثورة يناير 2011، وكذلك هو الذي فهمه ماذا يفعل في مشاكل مصر والمصريين وكيف ينهض بها وبهم.
إن أي تحليل بسيط لخطابات السيسي، يشير بوضوح إلى أن الرجل يعيش في حالة نبوة أو ألوهية مُتخيلَة، تخلق له تصورات وترسم له سماتٍ تؤثر بالضرورة على صنع القرار وإدارة الدولة والشأن العام، وكذلك على حياة الشعب المصري.
وهى حالة يخلط فيها بين التقليد الشرقي القديم للحاكم الإله الذي يكتسب شرعيته وسلطته من السماء مباشرة وبين كونه يحكم الآن مُجتمعًا مسلمًا يؤمن بأن نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي الأخيرة، ومن ثم فإنه يحاول خلق حالة من التقديس لذاته تمزج بين التقليد القديم وما يتفق وكون الشعب المصري مسلمًا في مجمله.
وهكذا يتضح انطباق مقولة الكواكبي “ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقامًا ذا علاقة بالله” على حالة السيسي مباشرة.
إن ما يعنينا في هذا المقام هو بيان كيف تؤثر هذه الحالة على حكم الدولة وإدارة الشأن العام للمصريين، كما يمكن إبراز أهم صفات هذه الحالة المتخيلة وكيفية تأثيرها فيما يلي:
التفرد بالرأي وتمثل مقولة ما أريكم إلا ما أرى
من تجليات حالة التقديس المتخيلة التي يحيط بها السيسي نفسه تمثل مقولة فرعون التي ذكرها الله تعالى في سورة غافر ” قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”، فنجد السيسي يقول بدوره في كلمة ألقاها في مسرح الجلاء عام 2016: “أنا عارف مصر وعلاجها، لو سمحتوا متسمعوش كلام حد غيري، أنا لا بكذب ولا ليا مصلحة غيرها، أنا فاهم أنا بقول إيه”.
ومن تجليات هذه الحالة أيضًا رفضه أى رأي مخالف حتى لو كان من عُماله وحاشيته، ففي عام 2017 وعند افتتاحه مشروع للأثاث في دمياط طالبه عضو مجلس النواب عن محافظة دمياط أبو المعاطى مصطفى، بتأجيل زيادة أسعار الوقود نظرًا لأن المواطن البسيط لن يتحمل، فانفعل عليه السيسي بعد أن انتهى من حديثه، وقال له: “إنت مين”؟ وعندما رد النائب قائلًا: “أنا أبو المعاطى مصطفى عضو مجلس النواب”، قال السيسي: “نواب إيه.. إنت دارس الموضوع اللي بتتكلم فيه.. إنت عايز دولة تقوم، ولا تفضل ميتة؟”.
وفي ذلك الإطار أيضًا نجده يرفض الأخذ بدراسات الجدوى التي من المفترض أن تجرى قبل اتخاذ إجراءات أو القيام بمشاريع وإنفاق موارد الدولة فيها حتى لا تُهدر الأموال فيما لا يعود بطائل، فنجد صاحب الرأي الأوحد يقول عام 2018 في منتدى أفريقيا: ” لو مشينا بدراسات الجدوى كنا حققنا 25 % من الإنجازات”.
ولعل أحد تجليات هذه الحالة أيضًا عدم استجابته للمؤسسات التي نصحته بعدم توقيع اتفاقية إعلان المبادئ عام 2015 مع إثيوبيا والسودان، والتي ضيعت حق مصر في مياه النيل، وفرصتها في منع إقامة سد النهضة بالطرق الدبلوماسية.
من خلال فهم هذه الحالة لدى السيسي يمكن فهم الواقع الحالي المأزوم والمتدهور في مصر، فحالة التفرد بالرأي باعتباره الرأي الأول والأخير في قرارات وسياسات تُدار بها حياة ملايين المصريين وعدم اعتبار أى رأى آخر وتهميشه، يمكننا أيضًا من التنبؤ بمستقبل مصر في ظل حكم السيسي.
الاختيار الإلهي والدعم الشعبي اللانهائي
أحد تجليات هذه الحالة المقدسة التي يعيشها السيسي، هو اعتقاده أن الله هو من وهبه الحكم، وهو وحده القادر على أن ينتزعه منه.
ففي عام 2021 أثناء افتتاحه لمشروع سكني بمدينة بدر قال السيسي: “ربنا هيقولي الكرسي ده أنا اللي جبتك فيه وأنا اللي همشيك منه، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، محدش بيجيب حد ومحدش بيمشي حد”، بمعنى أن الله هو من وهبه كرسي الحكم وهو وحده القادر على أن ينتزعه منه وليس لأحد من البشر ذلك، أى إن السيسي يستمد شرعية وجوده في السلطة من الله مباشرة، وليس من دستور ولا إرادة شعبية، وفي هذه الحالة وإذا كان السيسي يُمثل إرادة إلهية -على حد تعبيره- فإن هذا يعني وجوب تأييد الشعب له تأييدًا مطلقا لا نهائيًا وغير مشروط.
ولهذا نجد السيسي يقول خلال افتتاح مجموعة مشاريع في شهر مايو 2022 إن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حوصر في شعب أبي طالب مع صحابته 3 أعوام، وقطع عنهم الطعام والشراب لدرجة أنهم أكلوا ورق الشجر، ثم قال: “محدش من الصحابة قال له والنبي قول للملائكة تجبلنا ناكل ولا المياه تتفجر من تحتنا، وربنا قادر يقول كن فيكون”.
وهكذا؛ إن على الشعب أن يصبر مع السيسي كما صبر الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما حوصروا في شعب أبي طالب، ولعل التصور الذي تعكسه هذه المقولة، هو أوضح ما يبين حالة النبوة المُتخيلة التي يحيا فيها السيسي ويتصورها عن ذاته.
كما أن أحد تجليات الاختيار الإلهي للسيسي، هو خصوصية العلاقة بينه وبينه الله، فما أكثر ما عبَّر السيسي في خطاباته عن أن الله معه ويدعمه وأنه لا يخاف لأن الله معه، بل الله يكلمه مباشرة، مثلما ذكر في احتفالية مبادرة حياة كريمة التي أقيمت في ستاد القاهرة عام 2021، قائلا: “فجيه ربنا قالي طيب، أنا هخلي معاك اللي أكتر من الفلوس، أنا هخلي معاك البركة وريني هتعمل ايه في بلدك، وهتعمل ايه لناسك”.
وفقًا لكلام السيسي إذًا نجد أنه اختيار إلهي مباشر، كما أن الله يكلمه ويحاوره فيما يخص شؤون الحكم والإدارة، ومن ثم يكون كل معارض للسيسي وفقًا لهذه الحالة معارضا للإرادة الإلهية التي يجسدها هو.
ثنائية الخير المطلق وأهل الشر
يمثل الأنبياء بالضرورة الخير المطلق، فهم أهل الخير ومنهم الخير وفيهم الخير، ومن يعاديهم هم أهل الشر مطلقًا، وهذا ما يصف به السيسي خصومه؛ إذ إنه دائمًا ما يكرر وصف “أهل الشر” في خطاباته منذ توليه الحكم.
ثم صرح أخيرًا في احتفالية تكريمه لأبطال مسلسل الاختيار 3 أنه كان يقصد الإخوان بوصفهم أهل الشر، إذ قال: “ورغم كدا قعدت 7 سنين لم أذكرهم مرة وكنت بقول أهل الشر علشان أهل الشر يتراجعوا عن الشر”.
وتعني رؤية السيسي لخصومه أنهم شر مطلق، وأنه يجب إقصاؤهم والتخلص منهم تمامًا، فالشر لا يجتمع بالخير، وفي هذا الإطار يمكن فهم سبب إقصاء واستبعاد التيار الإسلامي من المشهد العام.
التأبيد في السلطة
أخيرًا؛ إن أحد أهم تجليات حالة التقديس المتخيلة عند السيسي هي التأبيد في السلطة، فمن اختارته العناية الإلهية وأعطته كرسي الحكم وأمدته بالدعم اللانهائي، والذي يستمد شرعية وجوده من الله مباشرة لا يمكن له أن يترك الحكم بمجرد انتخابات رئاسية أو تداول سلطة، أو أى شئ مما تقضيه السياسة التي جُعلت للبشر العاديين.
وفي هذا الإطار يمكن فهم تضارب أقوال السيسي، بين قوله أنه إذا قال له المصريون ارحل سيرحل، وعندما تفاعل المصريون مع كلامه فوجئوا به يقول إنه عندما حاول أن يخرج المصريين من العوز ويجعلهم أمة ذات شأن، أطلقوا هاشتاج ارحل يا سيسي، وتساءل بعدها: “أزعل ولا مزعلش؟”، ثم قال: “في دي أزعل”.
وكذلك خروجه على الهواء مباشرة مع الإعلامي يوسف الحسيني، ليبين تأثره بالتفاف المواطنين حول جمال مبارك في منطقة السيدة زينب عقب عزاء المحامي فريد الديب، إذ لم يتحمل السيسي هذا المشهد، وخرج على الهواء مؤنبًا بعض المصريين على عدم شكرهم نعمة وجوده واشتياقهم للنظام البائد ورموزه.
خاتمة
إن ما سبق ذكره هو نتاج متابعة لخطابات السيسي منذ انقلابه عام 2013، والقصد من المقال هو لفت النظر لخاصية تحتاج دراسة وتحليل، لأن نزوع المستبد نحو التأليه والتقديس وإضفاء صفة مقدسة كالنبوة على ذاته، له دلالات تُساعد في فهم منهج حكمه وإدارته للبلاد، وكذا تمكن من التنبؤ بمآل هذا الحكم ووضع الدولة في ظله.
يتخيل السيسي ذاته كنبي مرسل، أتى بعد بطولة أنقذ فيها الشعب المصري من براثن حكم الإخوان، أهل الشر المطلق في نظره، كما يستمد شرعية وجوده في الحكم من هذا التخيل، وهو ما يعني أن إمكانية خروجه من الحكم بالسُبل السياسية المعروفة غير ممكنة أو متاحة.
كما تعني هذه الحالة مزيدا من التدهور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في حياة المصريين، إذ إن من يتخيل نفسه مقدسًا هو بالضرورة لا يخطئ.
تعليقات علي هذا المقال