كانت كرة القدم مجرد لعبة للاستمتاع والترويح عن النفوس، قبل أن تحاصرها السياسة من كل جانب، وبدا الأمر جليا في بطولة كأس العالم 2022 بدولة قطر، بحرص طائفة من الغربيين على افتعال معارك هامشية، للتغطية على حسن الإعداد وروعة الإنجاز وبهاء التنظيم، والنجاح في إضفاء لمسة عربية خاصة على هذه النسخة من المونديال.
فصيل من أنصار مركزية العقل الغربي غير مستعد للإقرار أو الاعتراف بأي تفوق أو نجاح بعيدا عنهم؛ فهم الأصل والمركز وبقية دول العالم مجرد توابع؛ فالنظرة الدونية لبقية الشعوب، لاسيما الشعوب العربية، حقيقة كامنة في الوعي الجمعي الغربي.
المستحيل ليس مغربيا
حاول المنتخب الوطني المغربي لكرة القدم في هذه الدورة مجاراة دولة قطر لكسر الأنفة الغربية، وعلى غرار ما قامت به الدوحة حين جعلت حلم المونديال حقيقة على أرض عربية، سعى الفريق المغربي وراء انتصارات، دخل بها تاريخ كرة القدم العالمية.
بعد التعادل مع منتخب كرواتيا؛ وصيف بطل العالم عن نسخة مونديال روسيا 2018، سحَق منتخب أسود الأطلس؛ بلجيكا صاحبة المركز الثالث عالميا، وفي دور الثمن نهائي أخرج المنتخب الإسباني؛ بطل أوروبا والعالم عام 2010 وصاحب التصنيف السابع عالميا، ثم المنتخب البرتغالي، بطل أوروبا لعام 2016، وكلاهما كانا مرشحين بقوة للفوز بهذه البطولة.
هكذا نجحت كتيبة المدرب وليد الركراكي في إسقاط فزاعة التفوق الغربي، ووضع حد لعقدة النقص العربي تجاه الدول الأوروبية، ودفعت خبراء وعشاق الساحرة المستديرة، بما في ذلك قادة الفيفا أنفسهم، إلى مراجعة حساباتهم وتوقعاتهم.
بعدما نجح أسود الأطلس في كتابة صفحة من تاريخ جديد في سجل البطولة، بكونهم أول منتخب عربي وإفريقي يصل إلى دور نصف النهائي في تاريخ كأس العالم، ليسقط في مباراته أمام المنتخب الفرنسي بطل العالم للنسخة الماضية، الذي يتكون في معظمه من لاعبين أفارقة مهاجرين أو فرنسيين من أصول عربية، ما يثير التساؤل حول حقيقة إنجازات وأمجاد الأوروبيين في الرياضة وغيرها؟
في الحضور والأداء المتميز للمنتخب المغربي -ممثل العرب والأفارقة- بمونديال قطر، رغم السياق الاستثنائي الذي رافق الاستعدادات، فاستكمال بناء الفريق الوطني، وعودة لاعبين كبار أمثال حكيم زياش إلى تشكيلة الفريق، أشياء حدَثت عقب تولي المغربي وليد الركراكي مهمة القيادة والإشراف، على بعد شهرين فقط من بداية المنافسات، دروس تتعدى حدود الرياضة نحو أشياء أخرى، لتؤكد من جديد صحة مقولة الأديب إدواردو غاليانو بأن “كرة القدم هي مرآة الحياة”.
رسائل داخل الملعب وخارجه
ما أكثر الرسائل التي حملها التفوق المغربي، بالنسبة إلى صناع القرار في المملكة المغربية، وتبقى أهمها على الإطلاق التأكيد على ضرورة الثقة في الكفاءات الوطنية، فما حدث في الرياضة قابل للتعميم في السياسة والاقتصاد وباقي المجالات.
بعد الإنجاز القاري للمدرب الوطني بادو الزاكي الذي بلغ رفقة المنتخب نهائي كأس إفريقيا بتونس عام 2004، ها هو ذا الناخب الوطني الشاب وليد الركراكي، يعيد كتابة أمجاد الكرة المغربية عالميا، بروح مرحة لا وصف لها سوى كونها مغربية خالصة، في ظرف قياسي، وبطاقم مغربي مقلص إلى حدوده الدنيا، مع ما يعنيه ذلك من حكامة وترشيد للنفقات.
هكذا إذن يثبت الرجل أن الإيمان بالطاقات الوطنية من شأنه أن يكون المفتاح السحري لمشاكل البلد، متى مُنِحت لها الثقة المطلقة، وحظيت بظروف اشتغال لائقة، ولا شك أن الحصاد سيكون وافرا، فتلك الثقة الممزوجة بحس الانتماء تفجر في الإنسان كل طاقاته الكامنة، لدرجة يسقط فيها كلمة مستحيل من قاموسه، ولنا في كافة المباريات بلا استثناء الدليل القاطع على هذه الحقيقة.
علاقة بموضوع الوطنية؛ نشير إلى وصف الصحافة الإسبانية المنتخب المغربي، قبيل مواجهة الثمن، بفريق الأمم المتحدة، على اعتبار أن نصف لاعبي المنتخب ولدوا خارج المغرب، وبعضهم يحمل جنسيات أخرى (فرنسية، إيطالية، هولندية، إسبانية، كندية).
صحيح أن نصف المنتخب من أبناء مغاربة المهجر، بما في ذلك المدرب نفسه، لكنهم ملتزمون عاطفيا تجاه وطنهم الأم، فأغلب اللاعبين تلقوا عروضا للمشاركة مع منتخبات بلدان الولادة أو المنشأ، إلا إنهم فضلوا الدفاع عن ألوان القميص المغربي، ما يعني أن المغربي يبقى وفيا لأصوله ومتشبثا بهويته، رغم إغراءات اللعب والانتماء إلى منتخبات بلدان المجهر.
رسالة أخرى تتخذ شكل صورة، تتكرر عند نهاية كل مباراة كروية، تظهر العلاقة المتميزة بين لاعبي المنتخب ووالديهم؛ لاسيما الأمهات، حيث توجه نجوم المنتخب المغربي نحو الجماهير بحثا عن أمهاتهم من أجل عناق حار، وقُبلة على رأس الأم، بعد كل انتصار، وفي هذا أكثر من إشارة إلى المجتمعات الغربية، حيث قيم الفردانية والتفكك الأسري، وقبل ذلك إلى فئات عريضة من الناشئة المغربية التي تعتبر هؤلاء اللاعبين رموزا ونماذج تقتدي بها.
ينعش هذا المشهد في الذهن ثقافة كامنة في المخيال الشعبي المغربي مفادها اقتران الفلاح في الحياة برضى الوالدين، خاصة وأن معتنقيها شباب ولدوا وترعرعوا في دول أوروبية، حيث الأنانية المفرطة، والخلاص الفردي دون أي اعتراف بجميل الأسرة.
رسائل الوحدة العربية وقضية فلسطين
تجاوزت رسائل الفريق الوطني حدود المغرب نحو المنطقة العربية بأسرها، فالتألق المغربي خلق البهجة والسرور لدى الشعوب العربية من نواكشوط حتى مسقط، ونجح في مباريات معدودة على رؤوس الأصابع في تحقيق ما عجزت عنه القمم العربية منذ عام 1946.
ما يحمل أكثر من رسالة إلى القادة والزعماء العرب، مفادها أن حرص سياساتهم القطرية على تذكية الانتماء المحلي، لا يمكن أن يلغي قطعا انتماء آخر عابرا للحدود، من المحيط إلى الخليج.
فالإنجاز المغربي، كشف عن وعي الجمهور العربي، بحسه الفطري، بزيف الخلافات والصراعات البينية بين الأقطار العربية، وأظهر بشكل بيّن الفارق بين الخطابين الرسمي والشعبي في المنطقة التي اهتزت فرحا وانتشاء بتألق الفريق المغربي.
حتى في الجزائر، حيث القطيعة الدبلوماسية واستمرار إغلاق الحدود بين الجارتين الشقيقتين، خرجت الجماهير إلى الشوارع في كبرى المدن الجزائرية للاحتفال بأداء المنتخب المغربي، باعتباره الممثل الوحيد عن العرب والأفارقة معا في الأدوار النهائية لهذه البطولة، غير مبالية بالمناوشات المتبادلة بين النظامين الجزائري والمغربي.
ويبقى التوشح بالعلم الفلسطيني، في أعقاب كل فوز، أقوى الرسائل المباشرة إلى صناع القرار في العواصم العربية التي التحقت بقطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وحتى تلك التي تفكر في ركوب القطار قريبا.
في قرار الفريق الوطني المغربي رفع الراية الفلسطينية، بعد المباراة الاستثنائية أمام إسبانيا، تأكيد على مركزية القضية الفلسطينية أولا، ودليل قاطع على أن نجاح مسلسل التطبيع يبقى حكرا على المستوى الرسمي فقط، أما شعوب المنطقة بأسرها فتعتبر التطبيع خيانة، ما يعني استحالة التفريط في واحدة من أعدل القضايا الإنسانية على الأرض.
يرى الكثيرون أن كرة القدم في نهاية المطاف مجرد لعبة ومنافسة رياضية، فلا حاجة لتحميل الصراع داخل المستطيل الأخضر أكثر مما يستحق، قول فيه نصيب من الصحة ظاهريا فقط، أما في العمق فرياضة كرة القدم تعدت هذه الحدود لتصبح ميزان حرارة لقياس منسوب الضغط والانسداد داخل المجتمعات، ولنا في ظاهرة الألتراس أكثر من دليل، ما يعني في المحصلة أن الرسائل طي الحديث ثابتة، ويبقى الشك فقط في بلوغها العناوين المرسلة إليها.
تعليقات علي هذا المقال