في أحد أيام الجمعة من أيام ولاية أحمد بن طولون على مصر، ذهب إلى الصلاة في إحدى مساجد مدينة العسكر، تلك المدينة التي تم تأسيسها بعد مدينة الفسطاط لتكون عاصمة ولاية مصر العباسية؛ لكن زحام المسجد أثناء الصلاة جعله يقرر بناء مسجد آخر يسع الجمع الكبير من المصلين، خاصة وأنه على وشك بناء عاصمة كاملة جديدة.
كانت تلك العاصمة التي بناها أحمد بن طولون تسمى القطائع، وموقعها الآن منطقة ميدان القلعة حتى مسجد أحمد بن طولون في منطقة السيدة زينب، أنشأت المدينة من عناصر رئيسية مثل المسجد والقصر وبعضًا من بيوت الحاشية والوزراء.
جرت العادة أن الملك الصحيح يأتي بالعمران الصحيح، وعمران القرون الوسطى على أنماط وأشكال مختلفة، لا يستقر على حالة واحدة، وأنماطه تختلف بناء على الخلفية التاريخية لصاحبه.
المخيلة التاريخية لأحمد بن طولون نفسه أنشأت في كنف بني العباس في العراق الذين بنوا مدينتين جديدتين في مراحل تاريخية مختلفة، فالأولى كانت العاصمة الرئيسية للخلافة العباسية وهي بغداد، تلك المدينة العظيمة التي بناها أبو جعفر المنصور وسورها بسور عظيم الشأن والبنيان، وبنى بداخلها قصرا له ومسجدا جامعا مشهودا.
والثانية كانت سامراء، وسامراء تلك مدينة تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كان فيها من العمارة والفنون ما لم يجمع لمدينة أخرى مثلها في ذلك الوقت، فكانت باكورة الفن الإسلامي الأساسي عند مؤرخي فنون العصور الوسطى.
وتلك المدينة بناها الخليفة المعتصم بالله العباسي سنة 221 هجريا، لتكون مقر الخلافة في زمانه، وبنى فيها المسجد الجامع الرئيسي ذي المئذنة التي أطلق عليها لفظ الملوية، لأنها ملتوية الشكل والهيئة، وعمل عليها من بديع فنون الجص حتى كادت تنافس بغداد.
نشأ أحمد بن طولون في ربوع تلك المدينة الجديدة، وقد شرب منها واقتبس أنواع الفنون والعمارة فيها، فنشأ وهو لا يرى غيرها ولا يتقن أحسن منها.
ثالث المساجد في مصر
كان موقع مسجد أحمد بن طولون خارج القاهرة التي أسسها الفاطميون، فيما أطلق عليه اسم “مصر”، ومدينة مصر تلك تشمل الفسطاط والعسكر والقطائع، أي كل ما دون القاهرة المسورة.
وقد كانت مصر تعبر عن المصريين بمعنى أكثر عمقا من القاهرة ذاتها، كانت تسكن فيها القبائل العربية التي استقرت منذ الفتوحات، ثم جماعة من المصريين أنفسهم الذين أسلموا، ولا غنى عن الأقباط الذي قطنوا حارات وأحياء داخل الفسطاط وخارجها بالتأكيد.
لذا كانت مدينة مصر هي المعبّر الحقيقي عن المصريين، انعكس هذا بالتأكيد على العمائر التي أقامها خلفاء وسلاطين مصر تباعا عليها، فنجد الخلفاء الفاطميين كانوا يستميلون الناس عن طريق منشآت فيها.
لقد كان مسجد أحمد بن طولون أحد المساجد الرئيسية الجامعة الثلاثة في مصر آنذاك، المسجد الأزهر وهو المسجد ذو الطابع الشيعي ومنبع المذهب الإسماعيلي في مصر، ومنطق الدعاة الإسماعيليين وأساسهم.
ومسجد عمرو بن العاص، مربط السنة وأساس انطلاقاتها العقدية، كانت تعقد فيه دروس المذاهب الأربعة السنية وخاصة المذهب الشافعي ذو الثقل التاريخي في مصر، ثم مسجد أحمد بن طولون.
لكن السؤال الذي لابد وأن يراود القارىء، ما موقع مسجد أحمد بن طولون من تلك الثنائية المتبارزة والمتصارعة دوما؟ لم يكن ذا موقف محدد، تارة هنا وتارة هناك، فلقد أضاف الفاطميون فيه إصلاحات تعبر عن اهتمامهم بهذا الموقع التاريخي الهام.
خاصة أنه بجانب أحد أهم الشوارع التي اهتم بها الفاطميون خارج القاهرة، وهو خط ابن طولون -شارع الأشراف الآن- الذي أقام فيه الحاكم بأمر الله ثلاثة مشاهد رئيسية لآل البيت، ثم أمر الآمر بأحكام الله بإنشاء ثلاثة مشاهد أخرى.
وهم مشهد عاتكة والجعفري وكذلك مشهد السيدة رقية، انتهاءً بالمشهد الأهم والرئيسي وهو المشهد النفيسي، وكان مسجد أحمد بن طولون يقع على أول الطريق المؤدي إلى هذا الخط العظيم والمهم عند الفاطميين، لذا لم يكن من الهين التنازل عن هذا الموقع التاريخي والمسجد الرئيسي بدون إضفاء صيغة فاطمية عليه.
بدأت تلك الحكاية من زمن العزيز بن المعز لدين الله الفاطمي، الذي قام بترميم وإعادة بناء فوارة المياه في منتصف الصحن، وذلك بسبب أنها احترقت، ويتحدث المقريزي عن ذلك بقوله: “كانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها وهي مذهبة، فاحترق جميع ذلك في ساعة واحدة”.
فكانت فرصة مهمة لأن يعلن في ذلك الخليفة الفاطمي رعايته للمسجد الكبير في تلك المنطقة الهامة، ثم أتى من بعده الحاكم بأمر الله، لكي ينزل في الجامع ثمانمائة مصحف، لكن الطابع الفاطمي الرئيسي في المسجد هو المحراب المستنصري، وهو أحد المحاريب التي أقامها الخليفة المستنصر بالله داخل المسجد الطولوني، وهو تأكيد على الطابع الفاطمي الذي أصر الخلفاء الفاطميون أن يضفوه.
يزين هذا المحراب منتصف البائكة الثانية مما يلي الصحن وكتب عليه: “بسم الله الرحمن الرحيم أمر بإنشاء هذا المحراب خليفة فتى مولانا وسيدنا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأئمة المنتظرين السيد الأجل سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين”.
ولما اشتدت الأزمة في عهده، تدهور حال البلاد والعباد، حتى خرب ما حول الفسطاط وأصبح تلالا من الرمال والتراب، انعكس هذا الخراب بالتأكيد على جامع أحمد بن طولون، لذا أمر الوزير القوي بدر الجمالي بإنشاء عمارة على المسجد، وعمل على تهذيبه بالنقوش والإنشاءات الجديدة، ثم أتى بعد ذلك الحافظ الفاطمي على يد قاضيه سراج الدين وعمل على تهذيبه هو الآخر.
المماليك وترميم المسجد
تعامل الفاطميون مع المسجد بمبدأ الوصاية، لأهميته المركزية في المدينة، خاصة مع ابتعاد مقصدهم من عمرو بن العاص، وعدم سلطانهم عليه كونه مسجدا ذا مذهب سني رئيسي، ولا غنى بالتأكيد عن أهمية مسجد كمسجد ابن طولون، لمركزيته وسط السكان وقربه من المشهد النفيسي ولاتساعه المعروف.
لم يكتب لمسجد أحمد بن طولون أن يستمر على حالته كمصلى، حيث انقلب في زمن صلاح الدين الأيوبي إلى ملجأ ومقر للمغاربة، وفيه أقاموا وارتحلوا، حتى سميت الجهة التي بها الجامع خط المغاربة.
لقد كانت مسألة ترميم مسجد ضخم كهذا مكلفة إلى حد كبير، لم يكن كذلك فقط، بل على زمن السلطان بيبرس البندقداري تحول إلى مخزن ومخبز، ويقول المقريزي: “وأمر السلطان بيبرس البندقداري أن يفرق من الشون السلطانية على أرباب الزوايا كل يوم مائة إردب بعدما يعمل خبزا بجامع ابن طولون”.
انتهى المسجد على تلك الحالة الغريبة إلى زمن السلطان حسام لاجين، وتحكي المصادر التاريخية قصة مثيرة هي الأخرى عن التغير الذي نال المسجد، وهي أن حسام الدين لاجين كان من المماليك الذين دربوا لقتل الأشرف خليل مع بيدرا، وحينما عُرف الخبر في أرجاء السلطنة هرب إلى الخراب ناحية المسجد، وكان يتردد عليه للبيات والسكنى، متخفيا من مماليك الأشرف ألا يقتلوه، وأخذ على نفسه عهدا، إذا سلمه الله من هذه المحنة ومكنه من الملك، أن يجدد عمارة الجامع ويجعل له ما يقوم به.
وبالفعل تولى حسام الدين لاجين سلطة المماليك وقام على رأس الملك فيها، فعمل على إنشاء عمارة جديدة للمسجد، حيث بدأ بتجديد المئذنة وأصبحت بشكلها المميز الباقي حتى الآن، وقام بعمل فوارة للمياه جديدة في صحن الجامع، ثم قام بعمل منبر في منتهى الاتقان والعبقرية، اشتمل على فن رفيع المستوى، وهيكل قويم لا نظير له في مساجد مصر كلها.
لم يكتف بهذا، بل رتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة، ودروسا لتفسير القرآن الكريم، ودروسا للحديث النبوي الشريف، ودروسا للطب، وأقام مرتبا مخصصا للخطيب، وجعل له إماما ومؤذنين وفراشين وخدمة، في تلك المرحلة اتضحت صورة المسجد، الذي أصبح مدرسة لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة السنية.
لكن الحظ السعيد لم يرافق المسجد كثيرا، حيث أهمل في القرن التاسع عشر وأصبح ملجأ للفقراء والعجزة، حتى أتت لجنة حفظ الآثار العربية في أواخر القرن التاسع عشر وعملت على إعادة تأهيله وترميمه بشكل كامل، ليصبح على تلك الصورة الآنية.
خاتمة
مر مسجد أحمد بن طولون بمراحل وفترات تاريخية مختلفة، منذ أن أنشأ كمسجد أميري، لوالي قوي بوزن أحمد بن طولون، حتى استقراره الآن بصورته التي أعادته لها لجنة حفظ الآثار العربية، مرورا بالخلافة الفاطمية التي كان له فيها الحظ الأوفر والأسعد، كمسجد نال اهتماما واسعا وكبيراً من الخلفاء الفاطميين.
ثم بالمحطة الأهم في تاريخه وهي محطة السلطان سيف الدين لاجين بصورته السنية القوية، لكن المسجد ظل طوال تاريخه يصارع في تحديد هويته كمسجد غريب لا ينتمي لطراز مصري في العمارة، ولا لاهتمام هوية دون الأخرى.
تعليقات علي هذا المقال