ربما قرأت مرارا وتكرارا في عالم كرة القدم عبارة “لا للعنصرية” والتي تعني أن الرياضة لا ترجح كفة فريق على فريق، أو متنافس على منافسه، كلنا سواسية، لكن في الحقيقة، لعبة كرة القدم لم تقم أبدا على هذا المصطلح، هي فقط تحاول التنصل منه بشتى الطرق، وللتاريخ لسان يحكي به ويصف لنا ما حدث.
نعم؛ كرة القدم ولدت نفسها بعدة هيئات مختلفة في كل دولة، في إسبانيا صنعت لنفسها الهيكل السياسي، والذي يستمر إلى يومنا هذا بين ريال مدريد وبرشلونة، الصراع بين الحكومة في مدريد والقومية في كتالونيا.
وقامت على التنافس الطائفي في اسكتلندا، بين سيلتيك ورينجرز، بين أنصار الطائفة الكاثوليكية والطائفة البروتستانتية، كما قامت على الصراع الطبقي في الأرجنتين، بين بوكا جونيورز وريفربليت، بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء.
لا تسير وحدك في غلاسكو
لا أحد في غلاسكو يعرف من هو حقا، جميعهم يعرفون شيئا ثابتا: نحن لسنا أهل نفس البلد.
في أزمنة مضت، وإلى يومنا هذا، يعتقد مشجعو رينجرز أنهم الشعب المختار في اسكتلندا، وأن البروتستانتية ستنتصر لا محالة على القومية الكاثوليكية، ويعتقدون أن نادي سيلتيك هو أيرلندي لا يحب بريطانيا لأن الخلاف الديني والطائفي بينهما يفوق حدته العادية.
ديربي الشركة القديمة أو ما يعرف هناك باسم Old Firm هو المصطلح الذي يُطلق على واحد من أخطر الديربيات في عالم كرة القدم، والتي حين يشارك فيها أي لاعب جديد لأول مرة، فإنهم يخبرونه بطقوس المباراة وما يستوجب عليه فعله خلالها، لقد سجلت غلاسكو حالات لا تُعد ولا تُحصى من العنف الطائفي خلال مباريات سيلتيك ورينجرز على مدار تاريخها الطويل، حتى حالات القتل التي سُجلت إثر التعصب الطائفي الكبير الذي وجدوه في مدينتهم.
كانت حجة إنشاء نادي رينجرز أن يولد للمجتمع الاسكتلندي البروتستانتي التقليدي فريق يُعبر عنه، خاصة إذا كانت فكرة إنشاء سيلتيك قائمة في الأساس على دعم ومساعدة الفقراء المهاجرين من أيرلندا إلى اسكتلندا على يد الراهب أندرو كيرينز.
من يومها؛ تحول الأمر إلى صراع مذهبي بالكامل، ألم تلحظ أبدا أن مباريات سيلتيك ورينجرز عادة ما تُلعب في الظهيرة؟ ربما لأن هذا التوقيت بالتحديد تكون الحياة فيه أجمل وأكثر هدوء من تلك التي تقام في ساعات المساء.
وربما لأن الدولة تُحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تمنع اختلاط الأعراق، بين مشجعي رينجرز الذين يهتفون “نحن الشعب المختار” We are the people، والذي يقتبسونه من الكتاب المقدس، وبين هتاف نفس الجماهير الذي يوحي بالتطرف: “نحن نكره الكاثوليك ونقتلهم على سبيل المرح”، وبخصوص هذا الصدد؛ فإنهم يقصدون جماهير سيلتيك بالفعل.
ولنفس الأسباب، الأسباب القومية بالطبع، فإن جماهير سيلتيك تحمل أعلام وشعارات فلسطين بشكل دائم، لا لشيء أكثر من أنهم يعرفون حقا ما يعنيه شعار “الأقلية” والمستضعفون في هذا العالم، ولأن جماهير سيلتيك نفسها لا تعتبر نفسها اسكتلندية خالصة، ولا حتى يمكن أن تخضع للحكم البريطاني بأي حال من الأحوال.
الكلاسيكو كما لم تعرفه من قبل
ربما أراد برشلونة أن ينفصل عن إسبانيا دائما لأنه لم يشعر أبدا بإسبانيته تلك، بل كان الفريق الوحيد الذي حاول بشتى الطرق أن يقف في وجه الديكتاتورية الملكية في مدريد.
لأعوام؛ ظل النادي يُحاول أن يتحدث بلسان قوميته الكتالونية، ويغير الملاعب لتسع تزايد شعبيته وإيمان أهل كتالونيا بضرورة تواجد كيان يقف مُعاديا للديكتاتورية التي تعايشوا معها في إسبانيا.
كان الجنرال فرانكو بمثابة سيف على أعناقهم، بين الرئيس الذي مات مُنتحرا خوان غامبر مؤسس النادي، وبين الرئيس الذي قتلته الشرطة الإسبانية التابعة لفرانكو جوزيب سانيول.
بين فريق لا يستطيع المحافظة على نجومه، وفريق يهرب النجوم منه في جولته الودية في أمريكا خوفا من عودتهم معه إلى المصير الذي ينتظرهم ويعرفونه، وظل برشلونة يحاول أن يقف عند نقطة تلاقي مع كل الأحداث التي تلحق به، حتى أتت الليلة التي أثبت فيها يوهان كرويف أن كرة القدم هي داعم قوي لأي موقف سياسي.
يوم أن حقق برشلونة انتصاره التاريخي في عام 1974 على ريال مدريد بخماسية نظيفة في قلب البيرنابيو، يوم أن كانت القومية الكتالونية تعيش عز أمجادها، لا لشيء أكثر من أن المباراة كانت تعني انتصارين كبيرين على مدريد وحكومتها: فوز في الكلاسيكو، وهلاك الديكتاتور فرانكو الذي كان يُصارع الموت في ذلك الوقت.
كما وجدوا في ميسي المُخلص الذي لطالما كانوا يبحثون عنه، لدرجة أن أحد الساسة الكتلان غرد عبر حسابه ذات مرة، حينما كان ميسي لاعبا في برشلونة، بأن ميسي هو الانتصار الأعظم الذي حققته القومية الكتالونية على الحكومة في مدريد طوال تاريخ ذلك الصراع.
ولم يكن ميسي هو المُخلص الذي تمنته القومية أبدا، ربما لأنه وُلد في الأرجنتين، حتى وإن عاش أكثر من نصف عمره في مدينة برشلونة، وتعامل مع أهل مقاطعة كتالونيا، وارتدى ألوان الفريق أكثر من ملابسه العادية.
في عام 2017؛ كانت مباراة برشلونة ولاس بالماس على الأبواب، إنها الليلة التي يحضر فيها المشجعون إلى ملعب الكامب نو لمشاهدة فريق برشلونة ككل، وميسي بشكل خاص، لكن ما قبلها جعل لحظة الوصول إليها أقرب إلى المستحيل.
إنه الاستفتاء الحقيقي، لأول مرة يمكن للكتلان أن يعبروا عن أنفسهم ويختاروا بين أن يكونوا إسبان أو كتلان للأبد، إما الآن أو للأبد كما يُقال، وفي الخارج كانت الشرطة الإسبانية تقف رادعة ومتوعدة، وتعتقل كل من يتخطى مترا لا يُسمح له بتخطيه.
لم تكن المسافة بعيدة تماما عن الكامب نو، وسمع ميسي أو قرأ أو شاهد ما يحدث خارج منزله، وكان الناس حينها، هناك في كتالونيا، يتمنون أن يتحدث ميسي، يتحدث ولو لمرة في حياته، يتحدث لينقذهم مما يحدث لهم.
أن يتحدث ميسي ويُدافع عن قضيتهم الكتالونية، ويُعادي الحكومة في إسبانيا وينتصر للقومية، تمنوا فعلا لو أن ميسي استطاع بلسانه أن يُغير شيئا، مثلما فعل كثيرا بقدمه، لكنه لم يفعل ولن يفعل، لم يتدخل ميسي أبدا في هذا الأمر، لأنه يعرف عواقب تدخله، ولأن الرياضي لا يحق له أن يُعبر عن ميوله السياسية.
لكن هناك جيرارد بيكيه، الذي يحبه جمهور كتالونيا ويعتبرونه رمزا للقومية كلاعب وكشخص مؤثر استغل شهرته لدعم قضاياهم، وهو الرجل الذي وقف يُصرح للصحافة باكيا، وقال إنه لم يرغب في لعب هذه المباراة بالتحديد لأن من يُشاركونه نفس الدم يُقتلون على بُعد أمتار منها.
ديربي الأغنياء والفقراء
لا يوجد مشجع واحد على وجه الكرة الأرضية يتقبل الهزيمة أمام غريمه التقليدي، ما بالك إن أتت الهزيمة في نهائي أهم بطولة قارية.
نعم، في عام 2018، ولأول مرة، كان على بوكا جونيورز وريفربليت أن يحتكما للقدر ليُثبت أيهما أحق بالسلطة الكروية على الأرجنتين بشكل خاص، وقارة أمريكا الجنوبية بشكل عام، حينما كان حي “لا بوكا” يضم الأخوين، لم يقبل أحدهما أن يُقارن بأخيه، من وجهة نظر ريفربليت، لقد كانت الحياة قائمة على الأموال فقط، فريق المليونيرات كما أسموهم هناك، هو الفريق الذي يعبر عن الطبقة الثرية الأرجنتينية.
أما البوكا، فهو الفريق الذي يُمثل طبقة الفقراء، ولهذه الأسباب وأكثر، لم يكن عام 2018 هو الأفضل للفقراء، بعد عدة نزالات جمعت الفريقين في كل مكان في الأرجنتين، وبعد فصل جمهور كل فريق عن الفريق الآخر، وبعد أن قامت جماهير بوكا بجنازة رسمية يوم أن هبط ريفربليت للدرجة الأولى الأرجنتينية في عام 2011، وبعد أن أطلقت جماهير البوكا على لاعبي ريفربليت رذاذ الفلفل في نفس البطولة القارية في عام 2015؛ كانت مدريد هي الوحيدة التي تستطيع أن تختار أيهما يكفل الكأس الذهبية.
قبل أن يسافرا إلى مدريد، كان ماوريسيو ماكري، وهو رئيس الأرجنتين آنذاك، وهو رئيس بوكا جونيورز الأسبق بالمناسبة، قلقا للغاية بشأن ما قد يحدث في البلاد بعد أن يعودا إليها، قال ماكري: إن الخاسر سيحتاج إلى أكثر من 20 عاما للتعافي من آثار الهزيمة.
في جانب البوكا؛ كان أعضاء ألتراس بوكا مندهشين للغاية مما يدور في أذهان وعقول الناس، لقد طلق بعض المشجعين زوجاتهم لأنهن دخلن في نقاش حاد بشأن تعصبهم للبوكا، وهذه القصة حقيقية لا تزييف فيها، والبعض الآخر قدم استقالته من وظائفه لأن المدراء لم يوافقوا على طلب الإجازة للسفر إلى مدريد لحضور المباراة النهائية.
والبعض باع سياراته لتوفير ثمن التذكرة والليلة التي سيقضيها في مدريد لمشاهدة النهائي، ولم يكن أي واحد منهم يتوقع، جونزالو مارتينيز يركض نحو مرماهم في الدقيقة 122، أندرادا حارسهم عند منطقة جزاء الريفر، ريفربليت يحسم اللقب لصالحه بنتيجة 3-1، ولم يكن جونزالو يعرف أن هذا الهدف بالتحديد سيُجبر جماهير بوكا على تلاشي تلك الليلة للأبد، وأنهم، جميعا، بكوا كثيرا ليلتها، حتى الرئيس الأرجنتيني الذي كان يعرف مرارة الأمر مسبقا.
تعليقات علي هذا المقال