خلال السنوات الأربع الماضية، تظهر مساحات جدل واختلاف واسع حول مشكلات بناء وهدم المنازل في مصر، لاسيّما محافظة القاهرة، باعتبارها المدينة المركزية، الواجهة، لمشروع الدولة المصرية حاليا.
تتعدد أسباب قرارات الإزالة والشروع في تطبيقها سريعًا، على سبيل المثال؛ هناك إزالات تتم لأجل توسعات في الطرق، خاصة الطريق الدائري، وأخرى لأن المنازل الموجودة تتعارض مع مسار محورٍ جديد، مع تعويض أصحاب المنازل بمبالغ تقديرية، حسب مساحة المنزل وعدد الغرف، كما أن هناك حملة موسعة منذ سنتين لإزالة المنازل غير المرخصة، إذ بدأت محافظة الجيزة التشديد على قرارات الإزالة ومضاعفة عقوبات الأبنية غير مستوفية تراخيص البناء.
يتعارض انتشار المباني غير المرخّصة على جانبي القاهرة، وفي عمقها العشوائي، مع التوجه الحكومي الحالي لإعادة هيكلة المدينة من خلال شبكة طرق توسّع شرايينها.
توجه تقليل التكدّس ليس جديدا، بل هو مشروع طويل المدى، بدأ منذ فشل المشروع الناصري وصعود مركزية العاصمة والتوجه نحو خصخصة الاقتصاد خلال حكم السادات.
صعود مركزية القاهرة آنذاك، ملأها بهجرات داخلية ضخمة، بحثًا عن فرص عمل لم تتوفر في الأقاليم، ومع بداية ظهور التكدّس السكاني وفرض نفسه كأزمة يجب التعامل معها، بدأت بوادر تقليل التكدّس من خلال التطلع إلى الأفق الصحراوي الممتد على طريق مصر إسماعيلية الصحراوي.
سجّلت محافظات القاهرة الكبرى (القاهرة- الجيزة- القليوبية) أكثر من 25 مليون نسمة في منتصف 2022، بنسبة تتجاوز ربع إجمالي عدد سكّان مصر، يتم ذِكر التعداد الحالي، مع اعتبار أن توسيع شرايين القاهرة فكرة طالما شغلت مختلف الحكومات منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن.
لماذا لم يسعفنا الفراغ لإنقاذ القاهرة؟
يمكننا قراءة حيثيات هذه الأزمة من خلال نموذجين: مدينة بدر ومدينة العاشر من رمضان، حيث تم إنشاء مدينة بدر لأجل تسكين محدودي الدخل، بينما أنشئت مدينة العاشر من رمضان لتكون مدينة صناعية تجذب المستثمرين.
نشأت مدينة بدر في 1982، طبقًا للقرار الوزاري 59\1979 تحت شعار الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، وخلال هذه المرحلة ظهر احتياج كبير من مختلف فئات الطبقة المتوسطة لفرص عمل خارج الأقاليم، وانقسمت دفعات الهجرة، بين فئة كبيرة تهاجر خارجيا إلى الخليج، وفئة باقية تختار الهجرة الداخلية إلى القاهرة، لأنها المدينة المحتمل وجود فرص عمل بها.
ومن ناحية أخرى؛ كانت تبعات حرب أكتوبر 1973 ما زالت قائمة بسبب توقف البناء لسنوات عديدة مشروع الاستقرار والرخاء، حيث خطى أولى خطواته من خلال مدينة بدر، لأنها مساحة بعيدة عن تكدّس العاصمة، أنشئت أولا لأجل محدودي الدخل، ووجودها يتيح فرصة معقولة لشغل الفراغ الصحراوي الممتد حتى أطراف القاهرة الجديدة.
في كتاب “نشتري كل شيء” الصادر عن دار المرايا، يتعرّض بحث “الحياة الشاغرة للمساكن الاقتصادية” للتحولات الاستثمارية للمساكن، ويتخذ مدينة بدر كنموذج لهذه التحولات.
هدفت التعاونية الذي أنشئت مدينة بدر من خلاله، تحوّلا سريعًا على يد شركات امتلاك وتدوير الأراضي المؤهلة للبناء، من خلال مباركة مبطّنة من نظام مبارك آنذاك، حيث تم تقنين بيع الأراضي السكنية من خلال نظام المزادات العلنية، فما حدث في مدينة بدر، هو عملية احتكار وخلق قوانين جانبية تتفق عليها شركات الاستثمار العقاري التي وضعت عينها على المدينة الناشئة.
خضعت عمليات البيع لنظام جهلته المؤسسة آنذاك عمدًا، حيث يتنافس صغار المستثمرين على أسعار متباينة، ووقتما يستقر سعر البيع على أحدهم، يستطيع نقل ملكيتها لشركة أخرى مع تحقيق نسبة ربح معقولة، وبالتبعية تتمركز أولوية التربّح في كل مراحل الإنشاء، استخلاص التراخيص وعملية الإنشاء، وأخيرًا؛ القدرة على التحكم في القوة الربحية للعقارات المبنيّة.
نتج عن أولوية الاستثمار وتقديم التربّح، باعتباره حالة تسيّدت المدينة، عجز في قدرة محدودي الدخل على شراء العقارات المعروضة، ونتيجة لذلك ارتفاع قيمة الأراضي عن سعرها الأصلي ما يزيد على الضعف.
بسبب المزاج الاستثماري المنتشر في هيكلة أسس المدينة العقارية، تم تجهيل الحاجات الاستهلاكية الأساسية لمساكن الطبقة المتوسطة، بالإضافة إلى عمل بنى تحتية خدمية للمدينة، فتحولت مدينة بدر الآن إلى مادة استثمارية خصبة، بجوار مدن أخرى تخضع لنفس العملية، مدينتا الشروق والمستقبل كمثال، أملًا في الصعود إلى ميزة الانتقاء والخصوصية المجتمعية التي تتمتّع بها تجمعات سكنية أخرى، مثل مدينتي، والتي للمصادفة أنشئت كتجمّع سكني لمحدودي الدخل أيضًا.
العاشر من رمضان: الوقوف في منتصف التشكّل
طبقًا للقانون 249 لسنة 1979، تم العمل على إنشاء مدينة العاشر من رمضان، على أن تستقطب المدينة رؤوس أموال الاستثمار الخارجي من جهة، ومن جهة أخرى يتوفر بها فرص عمل، وتخلق حيّزا سكانيا جديدا.
يطالعنا الوضع الحالي للمدينة والنتاجات البيّنة من عدم الاتزان بين الجانبين الصناعي والسكني، إلى حالة التخبط والتجهيل التي تعرضت لها المدينة، كنموذج لأخواتها اللاتي خضن نفس التجربة.
جدير بالذكر هنا؛ أن مدينة بدر، يتم إعادة تطويرها وهيكلة بنيتها التحتيّة حاليًا، بسبب قربها من العاصمة الإدارية الجديدة، بينما بقية المدن الأخرى تحاول الصعود اقتصاديًا لخلق انتقائية سكنية لأجل صفوة الطبقة المتوسطة.
يتبين من خلال خمسة سنوات قضيتها طالبًا في مدينة العاشر من رمضان، أن المدينة تعاني من التداخل بين الصناعي والسكني، وهناك حالة تذمّر من التلوث المائي الحاصل بسبب تداخل خطوط الصرف الصحي والصناعي، حيث يتم من خلالهما معالجة المياه لأجل الزراعة، وينتج عن ذلك عجز في تحقيق مياه صالحة للريّ، ويؤثر ذلك التلوث على المياه الجوفية التي تتم فلترتها وتستخدم في الحاجات الآدمية.
واحدة من الآفات الكبرى التي تسكن المدينة، ميوعة هامشها الإنتاجي، واعتمادها بشكل كبير على العمالة اليومية، القائمة على هيكل اقتصادي حر، خلال سنوات الدراسة تعرضتُ لنماذج كثيرة في المدينة، منها طالب دراسات عليا يعمل وردية 12 ساعة يوميًا في محل بقالة، ومن خلاله فهمت أن مجموع المحلّات الموجودة في المنطقة يمتلكها عدد قليل من التجّار، يعتمد كل مالك منهم على قوة عمالة ينتقيها جماعيًا من قُرى نائية في الصعيد، أو من قرى ريفية نائية.
ربما يتمتع مثل هؤلاء الشباب بمستوى مقبول من ناحية الإنتاج المادي الشهري، لكنهم في المقابل، يعملون في أعمال مختلفة، اليوم في مطعم شعبي، وغدًا في محل الأسماك المجاور، وفي يوم ثالث يقف في محل لبيع الدواجن، من الضروري أن يتقن القدرة على تسيير أعمال أي نشاط يمتلكه رب العمل.
بجوار العمالة المستدعاة من مناطق نائية في العمق الصعيدي والريفي المصري، والذين يعمل أغلبيتهم في أعمال ليست صناعية، يشغل عدد كبير من الأفارقة المهاجرين إلى مصر في أعمال الإنشاء.
ترى في المدينة أجناسا مختلفة، من السودان وغينيا وتنزانيا والكونغو وغيرهم، تخضع دورة عملهم إلى نظام أشبه بحصار، يترأس عملهم أحد المقاولين، بينما عملية تسكينهم يتولاها سماسرة، هم ملّاك محلات المنتجات الاستهلاكية الذين ذكرناهم سابقا، الشقق المتاحة هي عبارة عن أكبر عدد متاح من مراتب للنوم، لا توجد غرف جماعية لأفراد، الشقّة من عتبتها وحتة آخر شبر فيها، مقسمة كأماكن نوم مخصصة للأفراد.
بالنسبة للسكان الذين لديهم أعمال خاصة أو وظائف بالمدينة، هم منقطعون بنسبة كبيرة عن أي احتياجات ضرورية، إذ إن المدينة تبعد عن أقرب مكان متكامل حوالي نصف ساعة بالسيارة، ومع حلول الساعة العاشرة كحد أقصى، تنقطع المواصلات العامة بها.
يعمل جهاز مدينة العاشر حاليا على تعزيزها بمزيد من مراكز الصحّة وطرق إمدادية بالمدن المجاورة، ضمن مشروعات إعادة هيكلة المدن منتصفية الإنشاء والتعمير، لكن شبح الاستثمار لا يغيب، حيث تتكدس المدينة بمشروعات استثمارية تحت بند “كومباوندات خاصة”.
خاتمة
يحيلنا الوضع الحالي للنموذجين المذكورين إلى التساؤل حول مآلات هذه المدن، ربما نجد الإجابة في كتاب “اللا أمكنة: مدخل إلى أنثروبولجيا الحداثة المفرطة” الصادر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، الذي يشير إلى أن المكان الذي لا يحتفظ بهوية ثابتة، نسيج علاقات وتفاعلات ورموز وملامح حضرية، فهو على مستوى التعريف التطوري المجتمعي، يصبح “لا مكان”.
ذلك تحديدًا ما حدث لمدينتي العاشر من رمضان وبدر، كل واحدة منهما بدأت ضمن خطة إنشاء إيجابية، لكنها مع التحولات والتداخلات الاستثمارية، فقدت نسيج علاقاتها الحيوي، الذي تنتجه الطبقات الشعبية بالأساس، وكذلك فقدت ملامحها الإنشائية والحضرية، لأنها لم تعمل من الأساس على عدالة التوزيع وسبّقت فعل التربّح، حتى فقدت تعريفاتها المكانية.
تعليقات علي هذا المقال