في مقالته “تاريخ العالم الحديث كصعود للأغنياء: باراديم جديد”، يدعو المؤرخ القدير بيتر جران لتجاوز الرؤية التقليدية التي طورها هيجل، ومؤسسها ليوبولد ڤون رانكه، والتي تنظر لتاريخ العالم الحديث بوصفه صعودا للغرب[1].
يصف جران هذا البارادايم القديم بأنه مغرق في تمركزه حول الغرب، ويدلل على قصور هذا البارادايم القديم بالتطورات التي شهدها التأريخ وعلم التاريخ في النصف قرن الماضي، ينطلق جران من أنه لا يمكن تجاهل العملية الإمبريالية داخل الغرب نفسه، ويتم هذا التجاهل بإحدى طريقتين: إما التركيز على سردية نخبة غربية همشت بقية العالم، وإما تجاهل سؤال السلطة والقوة ومناقشة المجتمعات الإنسانية المختلفة.
يتناول جران تطورات حقل التاريخ العالمي كجزء من علم التاريخ من ثمانينيات القرن الماضي، وتجاوزها للرؤية الهيجلية من حيث تناولها لإفريقيا التي تجاهلها هيجل تماما ثم الصين وغيرها، ومن حيث نقدها لفكرة وجود مجتمعات خارج التاريخ مرت بزمن ذهبي ثم انحدرت، مما أفسح المجال لصعود الغرب الذي يصنع التاريخ وحده حصرا منذ الثورة الصناعية.
ومن أهم تلك التطورات نمو منهج التاريخ الاجتماعي، حيث يرفض التاريخ الاجتماعي من حيث التعريف والجوهر أفكار هيجل المتعلقة بالنخب والأزمنة الذهبية والانحدارات وصعود الغرب، إذ لا يمكن تفسير كل شيء يحدث في العالم بالنظر إلى سلوك النخب الأوروبية أو بردود الفعل على سلوكها في بقية العالم.
ولكن من جهة أخرى؛ لا يمكن أيضا قبول الولع بالمجتمع والتجارة وتجاهل مسألة السلطة والقوة كما فعلت مدرسة الحوليات وغيرها. ومن جهة ثالثة؛ لا يمكن تقويم الرؤية الهيجلية القاصرة بقبول ثم لوم الغرب على مشكلات العالم الحديث كما ينحو الماركسيون.
ويرى جران أن ثمة حل متوازن سيظهر بدلا من كل المنظورات السابقة، ورغم أهمية منهج التاريخ الاجتماعي يرى جران أنه في حاجة لمزيد من التطور، إذ إنه لم يتم توظيفه على نحو كافٍ في إطار حقل التاريخ العالمي.
تجاوز سردية صعود الغرب
ينتدب جران نفسه للنهوض بمهمة تجاوز سردية صعود الغرب، وبدلا منها يتبنى سردية صعود الأغنياء كمنظور يمكن من خلاله فهم تاريخ العالم الحديث، كما يسعى جران لتوضيح أن السلطة والقوة في يد الدوائر المهيمنة في العالم أجمع وليس في الغرب وحده، وأن ثمة نزاع بين هذه الدوائر المهيمنة داخل كل بلد.
إن التاريخ ليس عبارة فقط عن دول قومية تقع في مركز أو هامش السوق العالمي كما جادلت مدرسة الاقتصاد السياسي، فالتاريخ ينطوي كذلك على مجموعة من القوى المهيمنة والجماعات التي تعمل داخل وعبر هذه التقسيمة (المركز-الهامش) وفقا لمصالحها القومية والطبقية، ووفقا لمنطق هيمنتها كذلك.
وفي تحليله يوظف جران التحليل الطبقي لكنه يتجاوزه في الآن ذاته، إذ يدرسه في إطار التاريخ الاجتماعي وتحليل الظواهر العابرة للقومية كذلك.
إذا متى صعد الأغنياء؟ وكيف تجمعت العناصر المهيمنة معا في تاريخ العالم الحديث؟ يقدم جران فرضية مفادها أن ثمة تطور حدث من العلاقات البينية الثنائية (bilateral) للعلاقات البينية المتعددة (multilateral) بمرور الزمن، بدءا من القرن السادس عشر وحتى يومنا هذا.
إن هذه العلاقات وتحليلها هي ما يحل محل رؤية هيجل التي تنظر للغرب باعتباره الفاعل المهيمن في التاريخ، إذ إن صعود هذا العالم المتعدد العلاقات يعني عمليا التطور المستمر لمجموعة من العلاقات السياسية والاقتصادية المعقدة والبينية بين الدول والعناصر المهيمنة.
إن هذا التطور يتعدى بشكل أساسي إرادة أية قومية أو دولة معينة، وهو تطور متجذر في المصلحة الذاتية لجماعة العناصر المهينة تلك أكثر منه في إقليم جغرافي محدد، لذا يركز جران في سرديته التاريخية على مرحلتين أساسيتين: تمتد الأولى من ١٥٥٠ حتى ١٨٥٠، والثانية من ١٨٥٠ حتى يومنا هذا، وقد شهدت المرحلة الأولى نموا متزايدا للعلاقات البينية الثنائية في العالم كله، أما المرحلة الثانية فقد شهدت تطورا أعمق وأبعد، وهو ما يسميه جران بالعلاقات البينية المتعددة (multilateralism).
وفي إطار هذه الأحداث يرسم جران صورة لتاريخ العالم كصعود للأغنياء، ويوضح بالتفصيل كيف تترابط الجماعات المهيمنة عبر العالم وكيف تهدد الحركات المضادة للهيمنة الأغنياء.
الرأسمالية ومراكمة الفائض
نحيا اليوم في عالم يتسم بنمط إنتاج رأسمالي مختلف عن النمط الإنتاجي الذي كان سائدا منذ ألف عام والذي كان يعتمد على الجزية (tributary)، وقد وُلد العصر الذي نعيش فيه منذ ٥٠٠ سنة وبلغ أشده منذ قرن ونصف تقريبا مع صعود الدولة القومية الرأسمالية.
ومنذ قرن تقريبا بدأ عصرنا الرأسمالي في الدخول في مرحلة أزمة إبان الثورة الروسية، لقد نجا العصر الرأسمالي من هذه الأزمة وظل مستمرا حتى يومنا هذا، ويعود هذا الاستمرار لأسباب عديدة منها: عدم انهيار البيئة حول العالم حتى اليوم، والضعف التنظيمي للقوى المعارضة، وتطور العلاقة التضادية والتآزرية بين الطبقات المهيمنة عبر العالم، وقد حمى هذا التعاضد والتآزر بين تلك الطبقات المهيمنة من التحديات الاجتماعية والسياسية والبيئية.
وبعد قرن من الآن يتوقع جران أنه سيكون على تلك الطبقات مواجهة هذه التحديات المتصاعدة ضدها، كما يرى الكثيرون حول العالم أننا سنشهد صعودا للاشتراكية بناء على هذا.
إن هيمنة سردية صعود الغرب على حقل التاريخ العالمي جعل منهج التاريخ الاجتماعي متكيفا معها بدلا من العكس، ويأسى جران لذلك، إذ إنه من دون التاريخ الاجتماعي فإن التاريخ العالمي يضخم ويبالغ في تقدير قوة أي من أو كل الشعوب في الدولة الغربية، بينما يقلل من قوة النخب الحاكمة في العالم الثالث ومن أهمية الديناميات التي تتفاعل هذه النخب في إطارها.
لذلك وبرغم كل التطورات التي ألهمها منهج التاريخ الاجتماعي، فإن ومنذ الثورة الصناعية تعتبر النخب الغربية الذكورية هي الوحيدة المهمة والمؤثرة، وأن كل ما يحدث في العالم يتم دراسته باعتباره مجرد تفاعلات مع سلوكيات تلك النخب الغربية الذكورية.
كان عام ١٥٥٠ نقطة فاصلة في التاريخ العالمي، يبدو ذلك واضحا من منظور التحليل الاجتماعي-التاريخي لمولد النمط الرأسمالي للإنتاج الذي ينظر لهذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة مجتمعية وقومية وعالمية في ذات الوقت، وإن هذا التحليل يتباين مع الأنماط المألوفة للتأريخ وفقا للمدرسة الليبرالية والماركسية.
ثمة خمسة أبعاد لهذا التحليل يتناولها جران بالتفصيل: صعود استراتيجية التراكم الرأسمالي لدى النخب الحاكمة عبر العالم كجزء من سعيها للسلطة، استراتيجية العديد من النخب الحاكمة الرامية لإعادة هيكلة المجتمع كي تكون بشكل متزايد جزءا من السوق الغربي أساسا، القوة التي منحها نمط الإنتاج الرأسمالي لبريطانيا مع تطوره وتطور السوق، الاستهلاكية الاستراتيجية محليا ودوليا، أبرز محطات هذا التحول، وتفاعل هذه الأبعاد المتعددة الذي أنتج العالم الحديث.
إن استراتيجية التراكم ظاهرة وحدت لدى عدد متزايد من العناصر المهيمنة في العالم منذ القرن السادس عشر فصاعدا، ولقد شهدت الرأسمالية الحديثة والتاريخ الحديث توجها أحاديا جديدا لدى العناصر المهيمنة لمراكمة الفائض، وقد أصبح هذا الفائض اليوم أداة يتم توظيفها في إطار الوصول إلى مزيد من السلطة والقوة بدلا من وظيفته التقليدية التي كانت تنحصر في الحصول على مزيد من الترف.
يتجلى هذا الدافع المذكور أحيانا في الاتجاه ناحية تحول العمل إلى طبيعة بروليتارية (proletarianization of labor)، وأحيانا أخرى في استخدام تكنولوجيا جديدة، وأحيانا في المغامرات والنهب الإمبريالي.
كان العائد من كل ذلك مجزيا، لكنه حمل معه أخطارا وتكاليف أكبر والتي كانت جزءا من كل ممارسة، ونتيجة لذلك تم توجيه الإنفاق المتزايد لإنجلترا والدول الغنية الأخرى لضمان استقرار وضع الحكام في بقية العالم.
لم تكن هذه العملية بسيطة التكاليف، لكنها كانت ضرورية بلا ريب لضمان استمرار منظومة النهب، وقد أتت تكاليف تقوية الحكام، بالأسلحة أو الرشاوى أو قروض التنمية بثمارها، لذلك ليس من المستغرب أنه منذ بداية التاريخ الحديث وانطلاقا من الضرورة الوجودية ظهرت الترتيبات التعاضدية اللازمة لحصاد تلك الثمار على نحو كفء، وكنتيجة لهذه الترتيبات التعاضدية كانت مكاسب هؤلاء الحكام تأتي دوما على حساب شعوبهم.
خاتمة
إن سردية صعود الأغنياء لم يتم بحثها على نحو كافٍ، خاصة مع كونها بالغة التعقيد والاتساع، ويمكن فهم جهد جران في إطار مواجهة مشكلة المركزية الأوروبية في كتابة التاريخ العالمي.
إن المشكلة في نظر جران تكمن في سيادة نموذج صعود الغرب، والحل لديه في تبني نموذج بديل هو نموذج صعود الأغنياء، وتكمن شرعية هذا البديل في تهافت النموذج الهيجلي التقليدي الذي يستديم رؤية تعظم من الغربيين ودورهم على حساب كل البشر الآخرين، كما تكمن في تجاهل النماذج السائدة لسؤال من الذي يملك وكان يملك القوة والسلطة في العالم.
المصادر
[1] Gran, Peter. “Modern World History as the Rise of the Rich: A New Paradigm.” History Compass 5, no. 3 (2007): 1026-1049.
تعليقات علي هذا المقال