في كتاب “ما الذي تتطلع روسيا للوصول إليه في الشرق الأوسط؟” المنشور باللغة الإنجليزية عام 2018، يسعى الباحث للإجابة على هذا السؤال الرئيسي عنوان الكتاب، بالإضافة لمجموعة من الأسئلة الأخرى حول تأثير تدخل روسيا في دول عديدة من المنطقة.
وما إذا كان لدى موسكو استراتيجية للمنطقة تسعى لتحقيقها، وكيف يؤثر النشاط الروسي في الشرق الأوسط على بقية العالم بداية من أوروبا، وما هو التوازن والانسجام بين روسيا كمنافس للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكشريك في الحرب على المنظمات الإسلامية في نفس الوقت، علاوة على أسئلة فرعية أخرى.
ينطلق الباحث من اعتبار الشرق الأوسط نموذجا جيدا لقياس التغيرات في لعبة القوة داخل النظام الدولي في القرن الحالي، وعالما مصغرا للتطورات الدولية، فبعد الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم في وضع غير مسبوق تاريخيا لدولة ما، والتي وصلت لذروتها باحتلال العراق، جاءت عدة تطورات، بدءا من الأزمة المالية العالمية عام 2008 إلي الأزمة السورية مرورا بالربيع العربي لتنهي هذا الوضع الفريد وتبشر بنمط معتاد ومألوف، حيث العديد من الدول الكبيرة غير المتساوية في الحجم والقوة تتنافس من أجل التأثير والنفوذ ومن أجل فرض مفاهيمها في النظام الدولي.
بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون اليوم ضجرين وبشكل تدريجي غير عابئين بالمنطقة، وهو ما أفقدهم المبادرة الاستراتيجية والتوجه، وبينما الصين الدولة الصاعدة اقتصاديا لم تسع لأربع عقود مضت إلى الانغماس في مياه الجغرافيا السياسية العالمية.
وكذلك الأمر بالنسبة للهند القوة العظمى الناشئة والتي كانت أبعد من موقف الصين، كانت روسيا لاعبا رئيسيا لافتا للنظر وعائدا غير متوقع وبحيوية للعبة العالمية، وهي الغائبة فعليا لربع قرن عن المنطقة والعالم.
وما أن أحبطت الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم خلال حرب أوكرانيا 2014، فرضت أمرا واقعا على الولايات المتحدة من احتكارها القوة عالميا بالتدخل العسكري في سوريا لدعم النظام السوري الهايل للسقوط في عام 2015 فغيرت بذلك التدخل النسق الجيوسياسي في المنطقة.
صلة روسيا بالشرق الأوسط
تعود روابط روسيا بشرق البحر المتوسط تاريخيا إلى ألف عام مضت، عندما داهم أمراء كييف القسطنطينية في العصور الوسطى من حين لآخر، وقد حكم توجهاتهم في تلك الحقب بداية من القرن السابع عشر عاملين رئيسيين، أحدهما؛ كان رغبة الروس الدائمة في الوصول إلي البحار والمياه الدافئة ومن أجل ذلك خاضوا الحروب مع العثمانيين وغيرهم.
والثاني؛ كان العامل الديني، بعد أن حازوا ميراث القسطنطينية إثر سقوطها بيد العثمانيين، وقد حصل الروس على الحق في حماية المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية عام 1774، وخاضوا الحروب من أجل هذا الدافع الذي اختلط بأطماعهم الإمبريالية أو كان غطاءً لها.
ومع ضعف العثمانيين تقاتل الأوروبيون وروسيا حول الإرث العثماني، وسرا في عام 1915 اتفق الروس والبريطانيون والفرنسيون على تقسيم الإرث، فكان نصيب المضايق والقسطنطينية وجنوب غرب الأراضي الأرمينية وجزء من شمال كردستان للروس.
وخلال تلك الحقب لم تكن البلاد العربية داخل الطموحات الجيوسياسية الروسية باستثناء الأرض المقدسة فلسطين وهو ما تغير بعد نجاح الثورة البلشفية عام 1917 حيث كانت الأيديولوجية الشيوعية عاملا جديدا مؤثرا في السياسة الخارجية الروسية.
كانت الثورة البلشفية تعني القطع مع أفكار وممارسات السياسة الخارجية السابقة، ونبذ السوفيت المعاهدات والاتفاقيات المعقودة من قبل القياصرة، ونادوا المسلمين في الشرق بالانضمام إليهم فى الكفاح ضد الإمبريالية الغربية، وتوجهوا لدعم الأحزاب الشيوعية في الشرق لتقويض الاستعمار الأوروبي، ورحبوا بجمهورية كمال أتاتورك، وأقاموا معاهدة معها عام 1921.
كانت موسكو تنظر لتركيا التي كانت مستقلة عن القوى الغربية كمنطقة عازلة جيوسياسية في البحر الأسود والقوقاز، لكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية أدت مطالب الروس من الترك منحهم امتيازات ونفوذ على المضايق بإلقاء أنقرة في أحضان الغرب لتبدأ أربعة عقود من الحرب الباردة على هذا الوضع، تركيا كحاجز للمد السوفيتي.
وكان أول دخول للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط بتأييد الدولة الصهيونية ودعمها في حرب 1948، وكان هدف ستالين هو تقويض الهيمنة البريطانية التي كانت ما تزال تسيطر على العديد من الدول العربية، ثم تحول الدعم لمصر ضد إسرائيل عندما خيبت اسرائيل آمال موسكو في الانحياز لها في الحرب الباردة.
كان حدوث انقلاب عسكري في مصر 1952 والذي تسبب لاحقا في الإطاحة بالموالين للغرب نقطة تحول في علاقة الروس بالمنطقة، حيث بحث جمال عبد الناصر عن موالين له في مواجهة القوى الغربية، وهو ما فتح الباب للاتحاد السوفيتي ليكون لاعبا رئيسيا في الشرق الأوسط.
وحاول السوفيت الاستفادة من الثورات السياسية في الدول العربية وجعل زعماءها حلفاء في المنافسة العالمية مع الرأسمالية، فقدموا لهم الدعم في مصر واليمن والعراق والجزائر خلال حقبة الحرب الباردة، ونما الوجود السوفيتي بوصول أنظمة يسارية في بعض البلدان العربية، والتي عززت من تحالفها مع الاتحاد السوفيتي، كما دعم السوفيت القضية الفلسطينية وقدموا لها السلاح.
وفي نفس الوقت أبرمت الولايات المتحدة والقوى الغربية المعاهدات والتحالفات مع تركيا وإيران والعراق وباكستان فكانوا جزءا من النظام العالمي في مكافحة السوفيت، وبعد حرب أكتوبر 1973 حدثت انتكاسة للسوفيت في منافستها الإقليمية مع الولايات المتحدة ونفوذها في الشرق الأوسط بتوجه مصر نحو واشنطن وإقامة علاقات مع إسرائيل، لكن بقيت جبهة رفض التطبيع ممثلة في دمشق وطرابلس ومنظمة التحرير الفلسطينية ضد التصالح مع إسرائيل وفي صف موسكو تتلقى الدعم منها.
ثم كانت تطورات عديدة في الشرق الأوسط، بداية من الثورة الإيرانية وحرب الخليج وهزيمة السوفيت في أفغانستان التي أدت كلها لضعف النفوذ السوفيتي، ومع سقوطه انفصلت روسيا جغرافيا عن الشرق الأوسط بظهور عدة دول مستقلة بينها وبين المنطقة، كما تعرض أصدقاؤها في الشرق الأوسط للانهيار بعد ذلك.
في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي تقاربت موسكو مع واشنطن في سياستها الخارجية، خاصة في ملف “مكافحة الإرهاب”، وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر عرضت روسيا على واشنطن الدعم، وكانت هذه خطوة استراتيجية كبرى، حيث لم يسبق أن تحالفت موسكو مع واشنطن في الشرق الأوسط بشكل وثيق، غير أن تلك السياسة الجديدة لم تمنحها نفوذا فى المنطقة.
الربيع العربي والتدخل العسكري الروسي
من وجهة نظر روسيا، كان الربيع العربي جزءا من استراتيجية عامة لتعزيز الديمقراطية على النمط الغربي في الشرق الأوسط واستبدال الأنظمة الضعيفة، التي غالبها موالية للغرب، بتلك التي ستكون مؤيدة للغرب شرعيا وديمقراطيا.
وبالتالي توطيد بل وزيادة النفوذ الأمريكي والأوروبي مما سيكون له انعكاسا على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ويمكن أن يشعل “نقطة الضعف” الجيوسياسية لروسيا، وعززت تلك القراءة الاحتجاجات التي شهدتها أوكرانيا عامي 2013-2014، ولذلك عزمت موسكو على معارضة التغيير في الوطن العربي.
ثم عزز التوجه سببا آخر، وهو أن الإسلاميين كانوا الأكثر حظا والمستفيد الأكثر احتمالا من الأحداث في المنطقة، ورأت موسكو مع احتمال سقوط الأسد ووصول الإسلاميين للسلطة في سوريا عام 2015 خطرا داهما يتمثل في سيطرة الجهاديين على سوريا.
وهو الخطر الذي يمتد، في نظر بوتين، إلى آسيا الوسطى المجاورة مباشرة لروسيا، ويمتد أيضا لمسلمي روسيا البالغ عددهم نحو عشرين مليون نسمة، فكان التدخل في سوريا خطوة هجومية ووقائية بالنسبة للروس.
كان الهدف المباشر لروسيا هو إحباط هزيمة الأسد ومنع الجهاديين من روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة -التي يصل عددهم لنحو 7000 مقاتل- من العودة إلى أماكنهم الأصلية، لكن لم يكن هذا التدخل العسكري الروسي خاصا بسوريا فقط أو حتى الشرق الأوسط، بل كان هناك هدفا أكثر عالمية.
حيث يأتي التدخل بعد وقت قصير من بدء الأزمة الأوكرانية 2014، وسوريا كانت خطوة كبيرة ثانية من قبل موسكو ضد الولايات المتحدة التي تهيمن علي النظام العالمي، وكانت المرة الأولي التي تتجاوز روسيا فيها حدود الاتحاد السوفيتي السابق، علاوة على ذلك؛ تصرفت روسيا لدعم الحكومة التي تعتبرها الولايات المتحدة غير شرعية، وهاجمت القوات التي سلحتها ودربتها ومولتها الولايات المتحدة.
نتيجة لهذا التدخل؛ عادت روسيا لاعبا رئيسيا على المستوى الجيوسياسي وفاعلا عسكريا قادرا في الشرق الأوسط، حالت دون النتائج التي وجدتها خطيرة: إسقاط النظام في دمشق من قبل الإسلاميين أو نتيجة تدخل الولايات المتحدة، و فازت بحقوق القواعد الجوية والبحرية في سوريا، وكذلك تخلصت روسيا من احتكار الولايات المتحدة العمل السياسي والعسكري في الشرق الأوسط.
سلاح العلاقات الدبلوماسية والتجارية
حرصت روسيا بجانب تدخلها العسكري على النشاط الدبلوماسي وتمكنت من خلاله للتعامل مع البلدان والكيانات والجماعات التي هي غالبا معادية لبعضها البعض، وذلك سعيا لتحقيق مصالحها وأيضا تجنبا لتجربتها السابقة في العالم الإسلامي.
مثلا في ملف السنة والشيعة ورغم أن تحالفاتها العسكرية جميعها مع الشيعة، حيث النظام العلوي في دمشق وإيران وحزب الله وحكومة الأغلبية الشيعية في العراق، تمكنت موسكو من تجنب الانقسام السني-الشيعي وذلك عن طريق تنمية علاقاتها مع مصر -الدولة السنية الأكبر في المنطقة- ومع دول الخليج وغيرهم.
وفي علاقتها مع تركيا؛ عندما أسقطت الطائرة الروسية من قبل أنقرة عام 2015 امتنعت موسكو عن الرد عسكريا، لكنها وضعت تركيا تحت ضغط اقتصادي وسياسي وإعلامي، واستخدمت الملف الكردي ضد أنقرة حيث استضافت الحزب الكردي المعادي لتركيا وسمحت له بإنشاء مكتب في العاصمة الروسية، ما دفع تركيا للرضوخ والاعتذار عن الحادث ومن ثم التوافق مع موسكو في كثير من الملفات، بما في ذلك سوريا.
في ملفات متناقضة أخرى استخدمت أداة الدبلوماسية، واستطاعت إدارة علاقات متوازنة مع الأطراف المختلفة، مثل القضية الفلسطينية أو العلاقات بين إسرائيل وسوريا، وإسرائيل وإيران، وتركيا وإيران، كما تمكنت من التواصل مع الأطراف الليبية المتصارعة رغم انحيازها إلى جانب أحد الطرفين.
وفي العلاقات التجارية ورغم أن مصالح روسيا في الشرق الأوسط لا تزال إلى حد كبير جيوسياسية ومرتبطة بالأمن، إلا إنها بعد نهاية الحرب الباردة، كان هناك التوسع الواضح في التبادلات الاقتصادية.
وعلى عكس الاتحاد السوفيتي الذي ذهب إلى الخارج لإنفاق الأموال على مشاريع المساعدة الاقتصادية، مثل السد العالي أو مصنع حلوان للصلب في مصر أو سد الفرات في سوريا، اهتم الاتحاد الروسي في المقام الأول بجني الأموال في الخارج.
ومنذ عام 1991 نمت أهمية البعد الاقتصادي في العلاقات الخارجية لروسيا بشكل عام وهذا ينطبق أيضا على الشرق الأوسط، وهناك ملفات اقتصادية عديدة بين روسيا والشرق الأوسط يعد ملف الأسلحة أهمها، حيث إن روسيا أحد أكبر مصدري الأسلحة في العالم، وهي تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وتنظر تقليديا إلى الشرق الأوسط كسوق رئيسي لها في صناعتها الدفاعية.
ومصر على سبيل المثال اعتادت أن تكون عميل الأسلحة الرئيسي لموسكو بين عامي 1955 و1974، ومع وصول السيسي للسلطة 2014، توسعت العلاقات العسكرية بين البلدين بشكل كبير، حيث بدأ البلدان في عقد اجتماعات دفاعية مشتركة دورية.
ومع تعليق المساعدة العسكرية الأمريكية لـلقاهرة كعلامة على عدم موافقة واشنطن على الانقلاب العسكري عام 2013 تعززت العلاقة مع موسكو، اقترب البلدان من بعضهما البعض، خاصة فيما يتعلق بالصراعات في سوريا وليبيا، كما أقيمت أول مناورة بحرية مشتركة في البحر المتوسط 2016.
خاتمة
خلص الكتاب إلى أن روسيا ليس لديها استراتيجية كبرى للشرق الأوسط، لكن عودتها إلى المنطقة ذات أهمية استراتيجية واعتبارات دولية كبيرة، إنها ليست مجرد عودة إلى منطقة مهمة، ولكنها عودة إلى المشهد العالمي بعد خمس وعشرين عاما من الغياب.
وهذا الاختراق في السياسة الخارجية لروسيا كان له المساهمة في التغيير المستمر للنظام العالمي بعيدا عن هيمنة الولايات المتحدة، والعودة إلى نوع من توازن القوى بين العديد من اللاعبين الرئيسيين، بما في ذلك روسيا.
ختاما؛ نشير إلى أن واشنطن تسعى اليوم لتقويض هذا النفوذ المتحقق من قبل روسيا في المنطقة، إذ أعلن الرئيس الأمريكي بايدن في زيارته إلى السعودية أن الولايات المتحدة لن تترك فراغا في المنطقة لتملأه روسيا.
غير أن سعى الولايات المتحدة ليس هو السبب الوحيد لضعف الاختراق الروسي، فهناك أسباب عديدة، أهمها سياسات العنف والقوة التي اعتمدتها دون مشروع سياسي، وهو الأمر الذي لم يجعل لها قبول بين شعوب المنطقة، فضلا عن ضعف الأنظمة التي أقامت معها علاقات قوية، ما يعيد تلك الأنظمة مرة أخرى لتحالفها مع واشنطن، مثلما حدث مع مصر ودول الخليج، لكن يبقى هناك التدخل الروسي في سوريا، والذي بموجبه كسرت موسكو محاذير وقيود في النظام العالمي، وهو ما لم يتحقق منذ انتهاء الحرب الباردة.
تعليقات علي هذا المقال