بعد إعلان مصر رفع أسعار الفائدة وتعويم الجنيه نهاية مارس 2022، تلقت دعما سريعا من ثلاث دول خليجية، حيث حصلت على دعم من حلفائها بأكثر من 22 مليار دولار من الودائع والاستثمارات التي قدمتها السعودية والإمارات وقطر.
ويأتي هذا الدعم بعد توتر الأوضاع الاقتصادية لمصر، بسبب توابع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تسبّبت صدمات ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء العالمية في زيادة العجز في الحساب التجاري، ومع قيام الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة على الدولار، ارتفعت تكاليف الدين الخارجي المستحقة، وانخفض صافي احتياطيات النقد الأجنبى لدى البنك المركزي إلى أدنى مستوى منذ يونيو 2017.
ويمكن أن يوفر التمويل من دول الخليج دعامة أساسية لمصر في تحقيق استقرار الأوضاع المالية، لكنه يبقى دعما وتمويلا مشروطا ومرتبطا بحسابات سياسية كما تخبرنا التجارب، وبالتالي فهو يحقق استقرارا مؤقتا، ويؤجج من الوضع الهش للاقتصاد المصري.
وعلى الرغم من حاجة مصر المُلحة إلى تدفق رؤوس الأموال الأجنبية لدعم الاقتصاد المتأزم، إلا أن هناك مخاوف جدية من أن زيادة الاعتماد على الخليج، قد يؤدي ذلك إلى فرض وجهات نظر أو إملاءات سياسية تتعارض مع سياسات الدولة الحالية تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية، ومخاوف أمنية من سيطرة دول أجنبية على قطاعات اقتصادية مهمة وذات حساسية أمنية.
أرز الخليج: من التمويل إلى الاستثمار المباشر
مرت علاقة النظام المصري الحالي بشركائه في الخليج بالكثير من التحولات على صعيد الدعم الاقتصادي منذ قيام ثورة 25 يناير، واعتمدت مصر على الدعم المالي من أشقائها من مختلف الدول الخليجية لتعويض نفاد احتياطياتها الأجنبية بفعل التوترات السياسية التي شهدتها، والتي أثرت بدورها على الوضع الاقتصادي للدولة.
تلقت الحكومة المصرية بعد يونيو 2013 تدفقات مالية استثنائية من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، ووصلت قيمتها الهائلة إلى 23 مليار دولار، وتضمنت هذه التدفقات مساعدات ومنحا مالية لا ترد، وقروضا وودائع لدى البنك المركزي المصري بفائدة مستحقة السداد، كما حصلت مصر على مساعدات نفطية وعينية ومعونات للمشروعات، خاصة في الفترة من 2013 إلى 2015.
وعبرت تصريحات السيسي التي قالها في سبتمبر 2022، عن حجم وتأثير الدعم الخليجي في تلك الفترة، حينما قال: “لولا دعم دول الخليج، الدولة دي مكنتش هتكمل في طريقها.. لو كان سابك مكنتش هتلاقي وقود”، وأضاف أن “السعودية والإمارات والكويت حطوا أرقام ضخمة.. كل شهر كان تيجي مواد بترول وأموال سايبة بملايين الدولارات، الأشقاء وقفوا وقفة كبيرة جدا طوال 18 شهر، مشتقات البترول بتيجي بدون مقابل”.
لكن بعد هذه الفترة التي تحدث عنها السيسي، لم تعد مصر تتمتع بالدعم الخليجي، وانخفض حجم الودائع الخليجية تدريجيًا، واضطرت في 2016 إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي بهدف الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، ووصل حجم الودائع المتبقية لدى البنك المركزي إلى حوالي 15 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام المالي 2022/2023.
وتشمل تلك الودائع 5.7 مليار دولار من الإمارات، منهم قسطان تبلغ قيمتهما معا حوالي 1.5 مليار دولار تستحق خلال العام، و5.3 مليار دولار من السعودية، بالإضافة إلى 4 مليارات دولار قدمتها الكويت، وقد حل موعد سداد نصفها في أبريل 2022، والنصف الآخر كان من المفترض أن تسدده مصر في سبتمبر 2022 أيضا.
وبعد تراكم الضغوط على الاقتصاد المصري مع نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، سارعت الدول الخليجية إلى نجدة الاقتصاد المصري ووعدت بتقديم حوالي 22 مليار دولار لمصر، قدمت منهم 13 مليار دولار في 2022 بحسب ما أعلن البنك المركزي، وأودعت قطر مليار دولار إضافي بعد تقرير المركزي، ويظهر التقرير أن الودائع الخليجية ارتفعت نتيجة حصول مصر على 5 مليارات دولار من الإمارات، ومثلها من السعودية، و4 مليارات دولار من قطر، ولم يحدد التقرير موعد سداد تلك الودائع.
وبعد الوديعة القطرية الأخيرة، يسجل إجمالي الودائع الخليجية نحو 29 مليار دولار، ما يقارب 87% من احتياطي النقد الأجنبي المعلن في نهاية يوليو 2022، والبالغ قيمته 33 مليار دولار، ودلالة هذا الرقم تستدعي القلق ليس فقط فيما يتعلق بمخاوف عدم قدرة مصر على سداد مستحقات الودائع، ولكن تتعلق أكثر بامتلاك دول سيادية قد تتعارض مصالح الدولة المصرية معها في بعض الملفات هذه النسبة الضخمة من الاحتياطي النقدي الأجنبي الموجود في البنك المركزي المصري.
ولأول مرة نجد توافقا في الدعم بين مصر والدول الخليجية الثلاثة، على عكس ما كان يحدث في فترات سابقة، وربما يشير ذلك إلى أن مصر تعمل على تنويع مصالحها بين الدول الخليجية للاستفادة منهم جميعا، بهدف الخروج من المأزق الاقتصادي، مستغلة الاختلافات والتنافس الاقتصادي القائم بين السعودية والإمارات وقطر.
وعلى الرغم من ذلك هناك مخاوف من أن يتحول التنافس بين هذه الدول الخليجية إلى محاولة كل دولة الاستحواذ على أكبر قدر من الحصص في الأصول والملكيات الحكومية بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية، مستغلين بذلك الموقف الضاغط لمصر من انخفاض سعر عملتها وتراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي، ورغبتها في زيادة مشاركة القطاع الخاص وجذب الاستثمارات الأجنبية، واستهداف بيع أصول مملوكة للدولة بقيمة 10 مليارات دولار سنويا.
صراع خليجي على الأصول المصرية
في أبريل 2022 استحوذت الإمارات عن طريق صندوق أبو ظبي السيادي على 21.5% من أسهم شركة “أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية” بصفقة بلغت قيمتها 392 مليون دولار، وفي نهاية يونيو 2022، أظهر مؤشر نتائج الشركة عن العام المالي، أنها حققت نموا في صافي الأرباح بنسبة 158% لتسجل 9 مليارات جنيه مقابل 3.5 مليارات جنيه في العام السابق، وكان نصيب أبو ظبي فيها 1.8 مليار جنيه، أي أنها استردت أكثر من ربع ما أنفقته في صفقة الاستحواذ خلال 3 أشهر.
كما استحوذ الصندوق السيادي السعودي عبر شركة “السعودية المصرية للاستثمار” على نسبة قدرها 20% من أسهم نفس الشركة بقيمة 379 مليون دولار، ليتخطى مجمل ما تمتلكه الدولتان في الشركة نسبة 40%.
في أبريل 2022 أيضا باعت الحكومة حصة قدرها 20% من شركة “موبكو” لصندوق أبو ظبي السيادي، بقيمة تصل إلى 266 مليون دولار، وفي أغسطس من نفس العام باعت حصة إضافية من الشركة للصندوق السيادي السعودي تقدر بـ25% من أسهمها، مقابل 272 مليون دولار، ليتخطى مجمل ما تمتلكه الدولتان في الشركة نسبة 45%.
في النصف الأول من هذا العام أظهرت النتائج التي أعلنتها شركة موبكو، تضاعف صافي أرباحها إلى 2.8 مليار جنيه، مقارنة بصافي أرباح بلغت 655 مليون جنيه خلال نفس الفترة من 2021، بربحية قياسية وارتفاع في قيمة السهم بنسبة 365% في ستة أشهر فقط.
الأمر نفسه تكرر مع شركة الإسكندرية لتداول الحاويات، حيث استحوذ صندوق أبو ظبي السيادي على 32% من أسهم الشركة مقابل 186 مليون دولار، قبل أن يستحوذ الصندوق السيادي السعودي على 20% من أسهم نفس الشركة مقابل 157 مليون دولار. ليتخطى مجمل ما تمتلكه الدولتان في الشركة نسبة 52%، وأيضا ارتفعت نسبة أرباح الشركة بنسبة 28% لتحقق صافي ربح بلغ 1.2 مليار جنيه في الفترة من يوليو 2021 حتى مايو 2022.
وفي قطاع الخدمات والمدفوعات الرقمية يتنافس الصندوقان على هذا المجال الاستراتيجي، حيث حدثت العديد من الصفقات والاستحواذات في الشهور الماضية، ومنها:
استحواذ الصندوق السيادي السعودي على 25% من أسهم شركة “إي فاينانس” التي تعد الشركة المسؤولة عن الخدمات الرقمية للمدفوعات الحكومية، في صفقة بلغت قيمتها 387 مليون دولار. وكذلك استحواذ صندوق أبو ظبي السيادي على 12.6% من أسهم شركة “فوري” مقابل 68 مليون دولار، كما استحوذ نفس الصندوق على 17% من أسهم البنك التجاري الدولي في صفقة بلغت قيمتها 911 مليون دولار، وهو أكبر بنك خاص في مصر والأعلى ربحية، والأكثر تنظيما وكفاءة من حيث الأنشطة المصرفية المقدمة للعملاء.
ولا يكتفي الصندوقان الخليجيان بهذه الصفقات الضخمة، إذ يتنافسان على شراء المصرف المتحد، وهو بنك تابع للبنك المركزي المصري، كما يتفاوض الصندوق السعودي لشراء أصول أخرى، منها حصة كبيرة من أسهم الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، كما يسعى للاستحواذ على 25% من أسهم شركة مصر للألومنيوم، وبلغت استثمارات صندوقي الإمارات والسعودية الساديين 3.3 مليار دولار خلال العام الجاري.
ومؤخرا بعد التصالح بين مصر وقطر، تحاول الدوحة اللحاق بركب المنافسة في الاستحواذ على الأصول الحكومية المصرية المربحة، وهو ما تمثل في إيداع جهاز قطر للاستثمار وهو الصندوق السيادي للبلاد مبلغ مليار دولار في البنك المركزي المصري، ضمن صفقة أكبر تبلغ قيمتها 2.5 مليار دولار، تشمل الاستحواذ على حصص في شركات حكومية مصرية، وتشير بعض الأنباء مؤخرا أن جهاز قطر للاستثمار الذي تبلغ أصوله 445 مليار دولار يُجري مفاوضات للاستحواذ على حصة الحكومة المصرية في شركة فودافون، كما يُجري مفاوضات أخرى للحصول على حصة تصل إلى %25 من أسهم شركة “الشرقية للدخان”.
التوسع في امتلاك الأراضي المصرية
تسعى الإمارات من خلال شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار “سوديك” التابعة للدار الإماراتية، إلى الاستحواذ على نسبة الحكومة المصرية في شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير، ورفض مجلس إدارة الشركة العرض المقدم من الدار لأنه يرى أن العرض لا يتماشى مع حجم أصولها، وجاء رد مجلس الإدارة: “نرحب بكم كمستثمر جاد لكن السعر لا يناسب قيمة وأصول الشركة”.
وتمتلك شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير أراضي تبلغ مساحتها 9.5 ملايين متر مربع، وطورت الشركة 35% من أراضيها، وتبلغ مساحة ما تملكه من محفظة أراضٍ غير مستغلة نحو 6.6 مليون متر مربع، فى منطقة شرق القاهرة، وكانت شركة الدار العقارية الإماراتية قد استحوذت على نحو 90% من أسهم شركة سوديك، بقيمة إجمالية للصفقة تصل لـ6.1 مليارات جنيه.
ثمة مخاوف أمنية رفعت لرئاسة الجمهورية بخصوص مساحة الأراضي المقبول أن يستحوذ عليها أي تكتل استثماري واحد في منطقة شرق القاهرة، خاصة بالنسبة للإمارات التي تسعى لاستحواذات أخرى في البلاد، بما في ذلك الصفقة المتعثرة حتى الآن لاستحواذها على شركة “وطنية ” لمحطات الوقود التابعة للقوات المسلحة، إلى جانب ما استحوذت عليه بالفعل من استثمارات عقارية في منطقة العين السخنة، كما كشفت دراسة بحثية أن الحكومة الإماراتية هي ثاني أكبر حكومة تمتلك أراضٍ في محافظة القاهرة بعد الحكومة المصرية.
كل هذا يُنتج مخاوف وأسئلة مُلحة، حول بيع والاستغناء عن هذه الشركات والقطاعات الاقتصادية الكبرى والتي تحقق إيرادات ضخمة، تقدر بمليارات الجنيهات سنويا وتذهب لخزانة الدولة وتمول استثمارات عامة من شبكات مياه وصرف صحي وطرق وإنتاج كهرباء، وتساهم في تمويل الدعم وسداد الأجور والمرتبات للعاملين في الدولة، كما أن هناك تساؤلا يطرح نفسه بقوة، عن ما الذي ستفعله الدولة المصرية بعد فقدان هذه القطاعات المهمة والتي كانت تُدر عليها أرباحا مهولة وتُعد من أهم مصادر دخل الدولة، وهل تستطيع بعد حل الأزمة الاقتصادية الحالية تعويض هذه الموارد؟
تعليقات علي هذا المقال