كانت حركة المعلمين، إلى جانب حركة العمال، من أكبر جماعات الضغط التي مارست احتجاجات سياسية ضد حكومة أحمد نظيف في السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك، لذلك؛ كان متوقعا منها أن تفعل الكثير من أجل حال المعلم في مصر بعد ثورة يناير، ولكن سرعان ما انتهى مآلها مع غيرها من الحركات الفئوية التي استطاع نظام السيسي أن يحاصرها ويقضي عليها، في هذا المقال نحاول أن نتتبع في خطين متقاطعين، كيف كانت فعالية حركة المعلمين في الضغط على الحكومات، وكيف استطاعت الحكومة المصرية أن تقوضها في النهاية.
المعلمون في جمهورية يوليو: أداة أيديولوجية
لقد بدأ وجود المعلمين في الساحة السياسية المصرية منذ الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ولكنه كان وجودا يمثل الشخص دون تمثيل الفئة، مثلا كانت الاحتجاجات تشهد على وجود معلمين ذوي توجهات يسارية ولكنهم لا يشكلون فئة مميزة لهم كمعلمين وسط تلك الاحتجاجات.
يرى سعيد إسماعيل علي في كتابه “محنة التعليم في مصر” أن نقابة المهن التعليمية حين تأسست عام 1955 لم يكن إنشاؤها استجابة لتطلعات شعبية فئوية للمعلمين، ولكنها كانت محاولة لاحتواء المعلمين ووضعهم تحت كنف النظام، لذلك لم تشهد النقابة أي حراك اجتماعي أو سياسي، حيث لم يكن للمعلمين من الأساس الحق في اختيار نقيبهم بشكل مباشر، بل كانوا يختارون الممثلين في النقابة المركزية، ثم تختار تلك النقابة مجلس الإدارة والنقيب.
لقد كان ذلك واضحًا منذ البداية حين تشكل تنظيم مجلس نقابة المهن التعليمية لأول مرة، فقد نودي بأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة نقيبًا للمعلمين وهو الصاغ كمال الدين حسين، ولم يكن معلمًا من الأساس.
إلا أن عهد عبد الناصر كان يشهد تغيرا لوضع المعلمين، حيث كانت سياسته تهدف لاستخدام التعليم في الحشد الأيديولوجي، وقد استجاب المعلمين في مصر إلى ذلك حيث كانت الحكومة المصرية آنذاك ترعى المعلمين رعاية كبرى من حيث المرتبات والتأمينات والمعاشات، والتي تتناقض مع وضع المعلم المصري في السنوات التالية.
بدأ التراجع في أجور المعلمين ووضعهم الاجتماعي، حالهم كحال غيرهم، في أعقاب نكسة يونيو 1967، وحينما تراجعت الزيادات في رواتب المعلمين، لجأت الدولة إلى حل بديل بإقرار فصول التقوية من أجل زيادة رواتب المعلمين.
قبل ذلك لم تكن العلاقة سمنا على عسل طيلة الوقت، ففي عام 1964 حدثت أعنف حركة تقدمية للمعلمين الذين نادوا بحق رجال التعليم في الترقيات كغيرهم من العاملين في الدولة، والتي انتهت من خلال الوزير السيد يوسف بفصل المعلمين الذين قادوا الحركة.
في عهد السادات ومع هزيمة المشروع الناصري، تناقصت ميزانية الإنفاق على التعليم في مصر، وترافق معها تدهور وضع المعلم وظهور المدارس الخاصة بديلا عن الحكومية، وقد كان حال المعلم في المدرسة الخاصة أفضل منه في المدرسة الحكومية، ما أثار استفزاز المعلمين في القطاع الحكومي وأشعرهم بالتفاوت الطبقي الذي كان في مرحلة التبلور في أعقاب سياسة الانفتاح الاقتصادي.
ولكن الوعي بوجود كيان فئوي خاص بالمعلمين في مصر لم يكن قد تشكل بعد، لأن طبيعة وظيفة المعلم باعتباره كيانا مهنيا محافظا من الناحية السياسية، يعمل في منظومة الضبط الاجتماعي المتمثلة في المدرسة، لم تجعل منه فئة مهنية ثورية، على عكس فئات أخرى في ذلك العصر، مثل أساتذة الجامعات وعمال السكة الحديد وعمال المصانع وعمال النقل العام، حيث كانت تتشكل التنظيمات الاشتراكية التي أسسها عبد الناصر لتخدمه في حشده الأيديولوجي، والتي أصبحت فيما بعد وسيلة الاحتجاج التنظيمية في عهد السادات حينما انقلب على الخط الناصري.
وكادت فترة مبارك أن تكون امتدادا لفترة السادات بالنسبة للتنظيم الاحتجاجي للمعلمين في مصر، فكان مبارك بالإضافة إلى ضعف وتقهقر اليسار السياسي في مصر، يحارب الوجود الإسلامي التنظيمي في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة لا سيما حركة الإخوان المسلمين، التي كان لها حضور قوي بين المعلمين.
وجد المعلمون وسائل بديلة استطاعوا من خلالها مقاومة تردي الأوضاع الاقتصادية، مثل اللجوء إلى الدروس الخصوصية، أو الإعارات إلى خارج مصر، أو العمل بمدارس خاصة ولغات ودولية، ولكن مثلت حالة الانفتاح السياسي في مصر بدءََا من عام 2005، والتي صاحبها ظهور الكثير من الحركات الاحتجاجية الفئوية، دافعا للمعلمين الذين علقوا في القطاع الحكومي كي يشاركوا في الاحتجاج.
الطريق إلى يناير: سنوات التمرد والنضال
بدأت حركة احتجاج المعلمين تنتظم في آواخر عام 2006، وانفجرت في عام 2007 تزامنا مع قانون “كادر المعلمين” وقبله بقليل قانون “ضمان الجودة”، وهو القانون الذي رآه المعلمون يتعامل مع المدرسة كمؤسسة ربحية ويفرض رسومًا على المدارس الحكومية لتحصل على شهادة الاعتماد، وتخصم تلك الرسوم من ميزانية التعليم لتذهب لهيئة ضمان جودة التعليم، بالإضافة لظهور فضيحة كبرى في عهد وزارة حسين بهاء الدين، حينما خصُصت لجان لأداء امتحانات الثانوية العامة لأبناء كبار مسؤولي الدولة.
وظهرت احتجاجات ضد الوزير يسري الجمل أيضا تمثلت في محاكمة شعبية له، بسبب قضايا الفساد في امتحانات الثانوية العامة، وقد بدأت تلك الاحتجاجات جنبا إلى جنب تشكل روافد الاحتجاج الأكبر الذي حدث كرد على مماطلة نظام مبارك الذي وعد في انتخابات 2005 بتحسين رواتب المعلمين، مرت كل تلك الأحداث على مرأى من أعين النقابة والتي لم تكن تتوانى عن إغفالها والتخلي عن معلميها، الذين بدأوا بالانفراط وتشكيل كيانات مستقلة عنها، مثل اتحاد المعلمين المصريين ونقابة المعلمين المستقلة.
في ذلك الوقت، كانت حركات احتجاج المعلمين تقوى بدور المجتمع المدني المتمثل في المركز المصري للحق في التعليم والذي فجر العديد من القضايا آنذاك، ولكنها حين ولدت، كانت تتسم بوجود سر تدميرها بداخلها، حيث لم يستطع معلمو مصر أن يتوصلوا في النهاية إلى تشكيل كيان واحد قوي يجابه نقابة المعلمين، فقد تشرذمت حركة المعلمين في العديد من الكيانات المستقلة والمنشقة، داخل القاهرة وخارجها، كما افتقرت إلى التنسيق فيما بينها، وعانت من أزمة اتصال بين القيادة والقواعد.
وحين ظهر كيان نقابة المعلمين المستقلة، تحول الصراع الديمقراطي داخلها إلى صراع أفراد يسعون لشهوة السلطة، وراديكالية لم تفد النقابة في أي شيء، حيث كانت ترفض التفاوض مع الوزارة بشأن مطالب المعلمين، بناءًا على قرارات زعمائها.
لقد كانت مطالب المعلمين طيلة فترة الاحتجاج تتمثل في إلغاء اختبارات الكادر، وتحسين الرواتب، وعودة التعيين الحكومي للقضاء على مدرس الحصة، ووضع حد أدنى للمعاش، بالإضافة لإبعاد الأمن السياسي عن التعليم.
استطاعت نقابة المعلمين المستقلة أن تنظم أول إضراب للمعلمين في 24 سبتمبر 2011، والذي صاحبه وقفة احتجاجية أمام مجلس الوزراء، بهدف إلغاء اختبارات الكادر ورفع الرواتب، وقد ماطلت الوزارة في تنفيذ تلك المطالب حتى لم يتحقق منها أي شيء.
المعلمون في الجمهورية الجديدة: سياسات الإخضاع والحرب الباردة
كانت بدايات عهد السيسي، هي نهايات عصر الاحتجاجات الفئوية للمعلمين، وكانت ذروة الاحتجاجات في عهد السيسي عام 2015، وكانت أغلبها اعتراضا على مسابقة 30 ألف معلم المنظمة من وزارة التربية والتعليم، التي اعترض البعض على نتائجها وعدم تعيينهم بعدها.
وكانت مطالب المعلمين دليلًا على أوضاعهم التي لم تتغير حتى ذلك الوقت، فقد كانت مطالبات زيادة الأجور والمكافآت والحوافز المتأخرة، وكانت هناك أيضًا احتجاجات ضد النقل التعسفي للمعلمين من مدرسة لأخرى.
في عهد السيسي، كان إخضاع حراك المعلمين هو جزء من خطة كلية لخنق كل المنظمات المستقلة عن الدولة، في أعقاب 30 يونيو 2013 أصدرت الحكومة قانون منع التظاهر، والذي كان قيدا خانقا ممهدا للقمع الذي ستمارسه قوات الأمن بشكل منظم ضد الاحتجاجات الفئوية والتظاهرات بشكل عام.
قوانين التظاهر والاحتجاج استهدفت الجميع، ولكنها لم تشهد فاعليتها إلا بعد إحكام السيسي قبضته على البلاد وبدء حملة القمع التي تطال غير الإسلاميين، لقد تعرض المعلمون في عهد السيسي إلى حملات تطهير مستمرة، لعل أبرزها ما حدث في أعقاب احتجاجات سبتمبر 2019 حيث فصل 1070 معلم بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وحملهم آراء سياسية متطرفة.
وبينما كان يوجه السيسي بتعيين 30 ألف معلم كل سنة لمدة خمسة سنوات، فقد كانت شروط التعيين تلك تقضي الولاء للنظام بشكل غير مباشر، وهو ما يعد مخالفا للدستور والقانون التي يحظر التمييز على أساس ديني أو جنسي أو سياسي، فقد تم الإعلان عن إجراء تحقيقات أمنية بشأن المتقدمين لشغل وظائف التدريس في وزارة التربية والتعليم، لتحديد خلفياتهم الدينية والسياسية، واستبعاد المنتمين لتيارات دينية وسياسية لها خلاف مع السيسي.
إن هذه الحملة تتوافق مع التشريعات الجديدة التي تسمح بفصل الموظفين العاملين في إدارة الدولة إذا اشتبه في ارتباطهم بالجماعات الإرهابية، ذلك الوصف الفضفاض الذي يمكن أن يمتد لأطياف المعارضة جميعها.
تلعب حكومة السيسي مع المعلمين لعبة العصا والجزرة، حيث أنها تستمر في تقديم الوعود بتحسين حالهم، بينما تنخفض ميزانية الدولة المخصصة للتعليم بسبب سياسات الاقتراض والالتزام بسداد الديون، حيث تحتاج خدمة الديون الباهظة إلى التخلص من نفقات التعليم كجزء من التزامات أخرى تجاه الرعاية الصحية وبرامج الغذاء والتموين وغيرها من أبواب الإنفاق الاجتماعي، لذا تتواصل ادعاءات حكومة السيسي أنها لا تملك الحيز المالي الكافي لزيادة رواتب المعلمين.
لكن ربما يتفاقم غضب المعلمين، كما رأينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي حينما تتعرض الحكومة إلى ملف الدروس الخصوصية التي تحاول أن تمنعها، وهي التي تشكل دخلًا ثابتًا ومضمونا للمعلم أكثر مما يحصل عليه من الوزارة، ولكن غضب المعلمين لا يتخطى حاجز وسوم مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الحكومة لا تنهض بفعالية للقضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية، إن الأمر أشبه بحرب باردة تخوضها حكومة السيسي ضد المعلمين، ولكن تلك الحرب ناجحة حتى الآن في تكميم أفواه المعلمين، حتى يكاد يتذكر المرء أن الاحتجاجات والإضرابات التي كانت تشنها تلك الفئة أصبحت شيئا من الماضي، لا يمكن أن يتجدد.
تعليقات علي هذا المقال