تُعد هجرة المصريين من المواضيع التي تعطي لها مؤسسات الدولة المصرية اهتماما بالغا، باعتبارها قضية سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، تبحث تلك المؤسسات في سؤال القيمة المُضافة ما إذا طُرحت قضية المهاجرين، بمعنى: كيف يمكن الاستفادة من المهاجرين المصريين، وكيف يمكن موضعتهم داخل المجتمع المصري وخطط الدولة المستقبلية بما لا يضر المصالح القائمة للسلطة العسكرية.
إن قضية الهجرة، من وجهة نظر الدولة بها إشكالات عديدة، فمصر “مُرسلة” و”مُستقبلة” للمهاجرين، إضافة إلى أنها دولة عبور، لذلك؛ فإن هذه الوضعية تجعل ملف الهجرة يطفو على السطح ببعديه الداخلي والخارجي، أي الأمن وعلاقات الدولة بالمهاجرين في الداخل، وعلاقة الدولة بمجتمع المهاجرين المصريين في الخارج، وبالدول التي يهاجر إليها هؤلاء المهاجرين.
تحاول هذه الورقة التفاعل مع سؤال: الكيفية التي تتصور من خلالها مؤسسات الدولة المصرية المهاجرين المصريين في الخارج، أي كيف تُعرفهم وكيف تتبنى استراتيجيات تجاههم بناء على ذلك التصور أو التعريف.
ولهذا، تتعرض الورقة لتاريخية حركة المهاجرين المصريين، واتجاهات ودوافع هجرتهم، ومدى أهمية ملف الهجرة لمصر في العقد الأخير، والمحددات الدستورية لتعريف المهاجر المصري وكيف يمكن لمؤسسات الدولة أن تتفاعل مع حالة هجرته، كما تُختتم الورقة بمداخلة نقدية، لها جانبين، في الجانب الأول؛ أقوم بفحص حدود الطرح الدولاتي الراهن في صياغته وممارسته لسياسات الهجرة، أما الثاني؛ فهي محاولة للتفاعل نقديا مع بعض المنطلقات النظرية للباحثين المختصين في شأن الهجرة.
في تأريخ الهجرة المصرية
اشتهرت جمهورية مصر العربية طوال أغلب الحقب التاريخية باستقرارها النسبي، حيث تقل حركة السكان من البلاد إلى خارجها، في حين تركزت موجات الهجرة الداخلية بين المحافظات والمدن والقرى والأحياء المصرية، مثل تلك التي شهدتها مصر منذ منتصف القرن الماضي من الريف إلى المدينة، ومن جنوبها إلى أقصى شمالها، إضافة إلى الهجرات الموسمية للعمل في قطاعات في الزراعة والسياحة، التي استمرت حتى بدايات ستينيات القرن نفسه.
ظلت مصر حتى منتصف القرن العشرين، دولة تستقبل موجات هجرة قادمة من الخارج، من جنوب وشرق أوروبا ومن أفريقيا الوسطى بشكل خاص، ولكن بداية من خمسينيات القرن الماضي، وتحديدا بداية من الحقبة الناصرية، بدأت موجات هجرة مصرية تنشط نحو أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، في بعثات علمية لدراسة الهندسة والطب، كما شهد ذلك الوقت بداية الحركة السياسية للنخب المصرية في الشتات، تلك التي نتجت عن صراعات هوياتية ودينية بين النظام المصري والاتجاهات السياسية المختلفة، كما ظهرت حركات هجرة تبحث عن ظروف اقتصادية جديدة بدرجة أقل من تلك التي سنراها فيما بعد.
في بداية سبعينيات القرن الماضي، ومع رفع القيود المفروضة على الهجرة، ومع سياسات الانفتاح الاقتصادي، بدأ المصريون الهجرة إلى الخارج، بحثا عن العمل، ما تسميه الأدبيات “الهجرة العمالية”، كما بدأت الدولة المصرية ترعى بعثات علمية وعمالية.
ومع منتصف السبعينيات والثمانينيات من القرن نفسه، شهدت دول الخليج والعراق وليبيا طفرة اقتصادية، خلقت احتياجا جديدا تمثل في استيراد عمالة من الخارج، وكانت في مقدمة هذه العمالة الماهرة وغير الماهرة ونصف الماهرة تلك العمالة القادمة من أرياف مصر، بغرض الكسب في الخارج ثم العودة، ما أسمته الأدبيات “الهجرة المؤقتة”، إضافة إلى أنه قد برزت هجرة حديثي التخرج من الشباب تأخذ نمطا متزايدا في نفس تلك الفترة.
في السنوات اللاحقة وحتى نهايات العقد الأول من القرن العشرين، زادت موجات الهجرة نحو الأردن ولبنان، إضافة للهجرات التي أسماها الدستور المصري “الهجرة الدائمة”، تلك المتجهة إلى أوروبا (غرب أوروبا بالتحديد) والأمريكتين.
ثورة يناير 2011 وانقلاب يوليو 2013، شكلا نقطتي تحول حاسمتين في تاريخ الهجرة المصرية، فمع ثورة يناير، شهدت مصر خاصة مدن القاهرة الكبرى هجرات عائدة (قدرت بنحو 3 مليون عائد) لبدء أعمال اقتصادية واجتماعية من جديد مع تضخم الحلم والأمل في مستقبل أفضل، خاصة تلك التي تتعلق بالمعارضين في الخارج، ولكن مع انقلاب 2013، فتح تاريخ الهجرة صفحة جديدة من الهجرات، ما نتج عنه ما يمكن أن نسميه “هجرة الأزمات” و”الهجرة الدائمة”، فقد عادت موجات الهجرة القسرية تنشط من جديد، لتشهد مصر زيادة في أعداد المهاجرين في الخارج إلى 3.5 مليون نسمة بين عامي 2013-2017، من ضمنهم المنفيين السياسيين، المنطلقين نحو تركيا وقطر وغرب أوروبا وشمال أمريكا، كما سيطر العامل “السياسي- الأمني” على العامل القانوني في تفاعل الدولة مع المصريين المعارضين في الخارج، وهذا ما يجعل العامل الأمني يحمل قيمة تفسيرية، بل أراها في مركز تحليل عمليات النفي من مصر خلال العقد الأخير.
طبقاً لمؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، لعام 2020، فإن أعداد المهاجرين المصريين في الخارج تزيد عن 10 ملايين نسمة، يتركز 70% منهم بدول الخليج العربي، خاصة في السعودية والكويت والإمارات، ثم يأتي بعد ذلك الأردن ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، فضلا عن مجتمعات الشتات المصرية في غرب وجنوب غرب أوروبا بشقيها: “الجماعات الاستيطانية” و”المهاجرون الجدد”.
هذا إضافة إلي أن أكثر من 73% من المهاجرين المصريين غير حاصلين علي مؤهلات عليا، و27% منهم فقط حاصلين علي مؤهل عال، فيما تبلغ نسبة الذكور 97% فيما الإناث 3%، وتأتي الفئة العمرية الأكبر من المهاجرين المصريين بين أعمار 18-25 و40-44 على التوالي، ويشغل أكثر من 60% من المهاجرين المصريين أعمال مهنية وتقنية وإنتاجية، فيما تأتي العمالة المصرية في الخدمات والمبيعات والإدارة والزراعة والصيد والأعمال المنزلية بنسب أقل.
أهمية ملف الهجرة في الحالة المصرية منذ أحداث الربيع العربي
ارتبط ملف الهجرة في الألفية الجديدة، وخصوصاً بعد الربيع العربي بآليات صناعة قرارات المؤسسة السياسية المصرية لعدة أسباب، أولها؛ لكون مصر البلد الأكثر كثافة بالسكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث وصل عدد السكان أكثر من ١٠٠ مليون نسمة بحلول عام ٢٠١٩.
كما أنها تورد هجرات كثيفة منها العمالية إلى الخليج بشكل أخص، التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي كما ذكرنا آنفا، وتطورت موجات الهجرة حتى الآن لعدة دوافع أمنية واقتصادية وأسرية بالأساس، كما تخطى عدد المصريين في الخارج التسعة ملايين مواطن.
ثانيا؛ أنها تاريخيا كانت مستقبلة، ثم تحولت إلى مرسلة أو مُصدرة، ثم في آخر عقدين نشطت كمستقبلة للمهاجرين، خاصة العرب والأفارقة والفلسطينيين والسودانيين والسوريين، المتأثرين بأحداث ثورات ٢٠١١.
ثالثا؛ لكونها تعد “بلد عبور”، إذ يسعى المهاجرون من جنوب الصحراء الكبرى لاستخدامها للانتقال إلى أوروبا.
رابعا؛ والأشد أهمية، أن مصر تفقد كفاءات ورأس مال بشري معتبر أو ما تسميه الأدبيات هجرة العقول، ما يجعل مؤسسات الدولة تهتم بحالتهم، لاقتراح سياسات جادة بشأنهم، خصوصا لكونهم عامل تنمية.
لماذا يهاجر المصريون؟
طبقا لدراسة قامت بها منظمة الهجرة الدولية حول: “دافعية الشباب المصري للهجرة بعد ٢٥ يناير”، والتي اعتمدت على تحليل إحصائي لبيانات ٧٥٠ شاب وشابة مصرية موزعين على جميع المحافظات، فإن البطالة ونقص الفرص والموارد، والفساد ونقص مستوى التعليم والأمن والوضعية السياسية، تعد عوامل مؤثرة في دافعية الشباب المصري نحو أخذ قرار الهجرة.
في سياق أوسع، يقارن عبد الواحد وآخرون في دراستهم حول “دافعيات الهجرة لدى الشباب المصري”، بين دافعية الشباب من خلال فحص سيرورة هجرات الشباب وبحث أماكن الاستمراريات والقطيعة بما يخص الدافعية نحو الهجرة قبل وبعد ٢٠١١، وتأخذ الدراسة من: الجنس، والعمر، والحالة الاجتماعية، وحالة التعليم، وحالة العمل، والحالة الصحية، وحالة الأسرة والثروة خصائص فردية، فيما تأخذ من المشاركة التطوعية والمشاركة السياسية والتموقع الجغرافي (الحضر والريف)، خصائص ترتبط بالبنى المجتمعية والمشاركة المدنية للشباب المصري الذين لديهم دافعية نحو الهجرة، بالتمعن في نتائج الدراسة، فإن التالي يعد أحد أهم استخلاصاتها:
للعامل السياسي والأمني مركزية في تحديد دافعية الهجرة عند الشباب والفتيات بعد ٢٠١٤ مقارنة بوزن نفس العامل عام ٢٠٠٩، في حين كان عامل كسب المال بسبب قلة الفرص الاقتصادية في مصر، العامل الرئيس بنسبة ٩٤% عام ٢٠٠٩، فقد انخفض وزن ذلك العامل إلى ٣٢%، فيما زادت أهمية عاملي الأمن ١٦% واكتساب مهارات ٤٤% عام ٢٠١٤، وهذا ما يفسر كثافة نمط الهجرة المتعلقة لعوامل أمنية، والهجرة بغية التعليم بعد حدثي الثورة والانقلاب.
إضافة إلى ذلك؛ بالتعمق في دراسة أيمن زهري، فإن لعامل شبكات الهجرة في البلد المستقبل أهمية معتبرة في تحديد قرار الهجرة، فمثلاً حسب دراسته فإن المهاجرين الذين يمتلكون دافعية أكبر نحو الهجرة، عادة ما يستندون في جزء معتبر من قرارهم على التسهيلات التي يحصلون عليها من خلال أقربائهم وأصدقائهم في البلد المستقبل، وهذا كان واضحاً في حالة المصريين الذين حصلوا على عقود عمل في الخليج والأردن، أو الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية وكندا، أو المهاجرين المصريين الذين استقروا في تركيا بعد عام ٢٠١٣، بسبب الحالة الأمنية، وهذا يعني أن شبكات الهجرة لها علاقة مستمرة بقرار الهجرة عبر الزمان والمكان، كما إنها تؤثر على سلوك كلٍّ من الدول المضيفة والدول المرسلة تجاه مجتمع المهاجرين.
المؤسسات المصرية الفاعلة في مجال الهجرة: من يصنع سياسات الهجرة؟
لعل أهم الجهات المؤسساتية الفاعلة التي تلعب دوراً هاماً في صياغة سياسات الهجرة: وزارات التضامن الاجتماعي والقوى العاملة ووزارة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، بالإضافة إلى وزارتي الداخلية والخارجية.
نظرياً، تلعب وزارة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، الدور الأبرز بما يخص صياغة سياسات الهجرة، لكونها هي من تختص بحماية مصالح المواطنين المصريين بالخارج عن طريق التعاون مع الجاليات والبعثات الدبلوماسية والاتحادات المصرية بالخارج، هذا بالإضافة إلى كون الوزارة من المفترض أن تعمل على توفير كافة المساعدات للمصريين بالخارج، وتعزيز أواصر الارتباط بين المهاجرين المصريين والبلد الأم للحفاظ على الهوية الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، خاصة بين الجيلين الثاني والثالث.
علاوة على ذلك؛ تدخل مسؤولية الوزارات الفعالة في مجال الهجرة في البعد التنموي، فمثلاً تعمل الدولة على تشجيع المصريين بالخارج على الاستثمار داخل مصر، هذا بالإضافة إلي التحكم في عملية إرسال الأموال للداخل بشكل قانوني مما يعزز من مصادر التنمية المختلفة على المستويين الكلي والجزئي.
بالإضافة إلي ذلك؛ تُعد وزارتي الخارجية والداخلية أحد أهم الوزارات التي تلعب دورا استراتيجيا وحساساً بما يخص مسألة الهجرة، فهي المنوطة بالتحكم في حركة المواطنين الخارجية بما يتماشى مع أهداف واستراتيجيات ومصالح الدولة الوطنية، في عبارة أخرى؛ تلعب تلك الوزارات الدور الأكبر سياسيا بالتعاون مع أجهزة الدولة وبيروقراطيتها التي تمدها بالمعلومات اللازمة، وعلى سبيل المثال، كان لهذه الوزارات الدور الأكبر في مراقبة حركة المعارضين المصريين في الخارج والتعرف علي أنشطتهم وسياساتهم المستقبلية ومنابرهم الإعلامية وما إلى ذلك، وهذا الدور يعد غاية في الأهمية في تشكيل تصورات صانعي القرار في المناصب العليا تجاه الدول التي يسكنها المصريين المغتربين.
عند الاطلاع على كل جهة من المذكورة آنفا بشكل منفصل ومتصل، فإنه يمكننا أن نستخلص عدداً من الأهداف المشتركة لتلك المؤسسات بوصفها صانعة للسياسات، والتي تتبلور حول: ضمان حقوق العمالة المهاجرة، وتشجيع الهجرة في إطار العمل لخفض معدلات البطالة مع الحفاظ علي معدلات مناسبة من القوة العاملة داخل السوق المحلية، تدعيم روابط المهاجرين بمصر ومحاربة الهجرة غير الشرعية، وتحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية وسياسية عن طريق الهجرة (مثل الحوالات المالية أو استخدام ملف الهجرة كورقة تفاوض سياسية، أو إثراء القوة الناعمة المصرية في الخارج).
من هم المصريون في الخارج من وجهة نظر الدولة؟
وفقا لدستور عام ١٩٨٣، فإن القانون ١١١ بشأن “الهجرة وكفالة المصريين في الخارج”، يفرق بين نوعين من المهاجرين: “المهاجر الدائم” و”المهاجر المؤقت”، وينص القانون على أنه “يعتبر المهاجر هجرة دائمة كل مصري جعل إقامته العادية بصفة دائمة في خارج البلاد، بعد أن اكتسب جنسية دولة أجنبية أو حصل على إذن بالإقامة الدائمة، أو أقام فيها مدة لا تقل عن عشر سنوات، أو حصل على إذن بالهجرة من إحدى دول المهجر”، أما بالنسبة لتعريف المهاجر المؤقت، فإن القانون نفسه ينص على “أنه كل مهاجر غير دارس معار أو منتدب، جعل إقامته العادية أو مراكز نشاطه في الخارج، وله عمل يتعيش منه متى انقضى على بقائه أكثر من سنة متصلة ولم يتخذ إجراءات الهجرة الدائمة”.
تاريخيا؛ تعامل سياسات الدولة المصرية للهجرة أي مواطن يعيش في الدول العربية على أنه عامل مؤقت، في حين أن أي شخص في أستراليا أو أوروبا أو أمريكا الشمالية يعتبر مهاجرًا دائمًا، وقد ساهم ذلك في سياسة هجرة متعددة المستويات تعطي الأولوية للمصريين في الغرب على حساب المقيمين في الدول العربية، عملت الحكومات المتعاقبة علي تطوير سياسة الشتات لتلبية احتياجات ورغبات المهاجرين الدائمين، الذين ينظر صناع السياسة إليهم على أنهم ميسورون ومتعلمون وناجحون، في حين تم إنكار حقوق الآخرين الذين اعتبرتهم الدولة مهاجرين مؤقتين.
إضافة إلى أن الدولة المصرية لم تصوغ استراتيجيات بخصوص المعارضين أو المنفيين السياسيين، فهم لا اعتراف بوضعيتهم القسرية، ولا سياسات تتناول عملية المفاوضات معهم على أقل تقدير، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن حكومات ما بعد انقلاب ٢٠١٣، قد اخترقت قانون الهجرة ورعاية المصريين في الخارج، وخاصة في سياق التعامل مع المعارضين المصريين في تركيا وقطر وأماكن أخرى، وذلك عن طريق منعهم من تجديد جوازات سفرهم، أو إسقاط الجنسية المصرية عن عدد منهم، أو منع أهاليهم وأقاربهم من السفر، أو ملاحقتهم، وطلب تسليمهم أو الضغط على أهاليهم في مصر وتهديد ذويهم في حالة العودة إلي مصر، بل إن وزيرة الهجرة المصرية السابقة نبيلة مكرم، في لقاء لها مع الجالية المصرية في كندا، بعام ٢٠١٩، هددت المصريين في الخارج، إذ قالت “أي شخص يقول كلمة على مصر هيتقطع”، وهذه الممارسات كلها تأتي خلافا لما تنص عليه المادة 2 من القانون ١١١، والتي تنص على “التزام الدولة المصرية برعاية المصريين في الخارج وتدعيم صلاتهم بالوطن”.
قراءة في تصورات الدولة المصرية للمهاجرين المصريين في الخارج
في دراسة لمحمد أبو عزيزة، ضمن الكتاب المُجمع “لماذا يهاجر الشباب العربي”، فإنه يفسر موجات الهجرة بين الشباب في مصر عن طريق تناوله لمعادلة “عدم توافق مخرجات التعليم وسوق العمل”، إذ يهاجر المصريون وبالأخص فئة الشباب منهم للعمل بسبب عدم الاتزان في سوق العمالة داخل مصر بين المؤهلات المعروضة للعمل في السوق والمُتطلب الفعلي للسوق، وهنا يأتي التصور الأول للدولة، وهو أن الهجرة تعمل كوظيفة للحد من الضغط الواقع على سوق العمل الداخلي، خصوصاً مع الزيادة السكانية، وهذا يتفق مع ما يذهب إليه عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بارك، من خلال مقاربته الايكولوجية، إذ يحاجج بأن الهجرة يجب فهمها من خلال مفهومي التوازن والاستخلاف، كما أن أحد دلالات التوازن ذاك الذي تتبناه مؤسسات الدولة المصرية، بمعنى هجرة جماعة من الناس لإحداث اتزان داخل المجتمع، فهجرة مجموعة من المصريين سنوياً ضرورية لإحداث توازن في بنية السوق التي لا تحتمل مزيداً من الخريجين.
من خلال فحص استراتيجيات وزارة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج بين عامي ٢٠١٤- ٢٠١٨، فإننا نلحظ أنه ثمة تصور يتعامل مع مجتمع المصريين في الخارج بوصفهم مصدراً للتنمية، وهذا يرجع لكثافة التحويلات المالية التي يقوم بإرسالها العاملين في الخارج لذويهم في مصر، والتي تُقدر بـ٣١ مليار دولار، حسب بيانات البنك المركزي المصري في مايو 2022، فهي تعتبر مصدر نقد أجنبي حيوي، متفوقاً على عائدات قناة السويس والسياحة.
تحاول مؤسسات الدولة المصرية، الرئاسة ووزارة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج بالأساس، في آخر نصف عقد، توظيف الوجود المصري في الخارج بوصفه قوة ناعمة، لإبراز دور الدولة في المشاريع الداخلية، مثل مبادرة “حياة كريمة” و”مصرية بـ١٠٠ راجل”، كما أنها تصدر برامج لدعم اندماج المهاجرين المصريين العائدين داخل المجتمع المصري.
مناقشات ختامية
من خلال التعمق في سياسات مؤسسات الدولة المصرية للمهاجر المصري في الخارج، فإننا نلحظ تباينات عدة بين تصور الدولة لمجتمعات المصريين في الخارج وممارستها في ذلك المجتمع في علاقة مع الدولة والمجتمع داخل مصر، فمثلاً؛ في حين أن مؤسسة الهجرة تتمثل المصريين في الخارج بكونهم موضوعاً للاندماج داخل البلد الأصل، مثل مبادرة الأطباء المصريين في الخارج التي تهدف إلى دمج الأطباء في تطوير القرى المصرية، فإنها لا تسير نحو ذلك التمثل النظري من خلال مشاريع على أرض الواقع، فلا نلحظ مثلاً خططاً تطبيقية، ولا تقارير دورية لحالة فعالية هذه المبادرات، ولا للمسؤولين عنها، ولا لحدودها، ما يجعل تلك البرامج تتحول إلى خطاب أكثر منه سياسة.
وبالرغم من أن فرضيات وزارة الهجرة، متمثلة في خطابات وزيرة الهجرة الحالية سها جندي النظرية بشأن العلاقات الثلاثية بين المجتمع الأم والمهاجرين المصريين والمجتمعات المضيفة، والتي تتخذ طابعا اعتماديا وتكامليا، كما الخدمي، إلا أن الوقائع التاريخية، مثل فصل العمال المصريين في ليبيا من أعمالهم بعد ٢٠١١، وتعرضهم لمشكلات أمنية، أو الاستغلال الذي يتعرض له العمال، أو عدم بذل جهود في اتجاه تقنين أوضاع المعارضين المصريين في الخارج، تبرهن لنا العكس من ذلك تماماً، فهي توضح لنا كيف أنه هناك حالة انعزالية بين المواطنين المصريين في الخارج ومؤسسات الدولة الممثلة لهم خارج وداخل مصر، وهذا ما يضع مسؤولية الدولة المصرية في محل نقد دائم، ما يؤثر على مكانتها في مخيال المهاجرين المصريين وفي تصور الدول المضيفة.
إن الطرح الدولاتي ينعزل عن عدة أبعاد عند مناقشته للسياسات المُتبعة بخصوص المصريين في الخارج، فهو ينعزل بالكلية عن العنصر السياسي، بالرغم من كون ذلك الطرح تقوم به آلة سياسية بالأساس، فمثلاً لم تناقش أي مبادرة رسمية، أو المنصات البحثية والإعلامية التابعة للدولة المصريين الذين هاجروا من مصر لدوافع سياسية وأمنية، بالرغم من مركزيتها في فترة ما بعد الانقلاب كما تضيء لنا بعض الدراسات التي تناولناها سابقا.
كما أن التحليل المنطلق من أروقة مؤسسات الدولة يأخذ منهجا أحاديا، فهو يتمثل المهاجرين من مخيال الدولة، ولا يأخذ الفاعلين أنفسهم في الاعتبار، فمثلاً لم نر نقاشات حول الكيفية التي يتفاعل من خلالها المصريون في الخارج مع الإجراءات البنيوية المرتبطة بالقانون مثلا، وتصورات المسؤولين المصريين تجاه ذلك المجتمع الكبير، وهذا يعني أن حالة السلطة المركزية الشاملة ومنظومتها الذهنية الأحادية المعتمدة على ثنائية المركز والأطراف تنعكس بالضرورة على المؤسسات السياسية وصناع القرار في الوقت الحالي، إذا ما فُتح الباب لنقاش سياسات للتعامل مع مجتمعات المصريين في الخارج.
أخيراً؛ وعلى مستوى نظري، من خلال قراءة في الدراسات التي تناولت هجرة المصريين، فإنه ثمة “مفاهيم تحليلية” يجب الوقوف عليها، مثل مفهوم “إعادة الإنتاج” الذي يحمل قيمة تفسيرية في مركز تلك الهجرات، خاصة في كونه يفسر الهجرات غير الدائمة، فهجرة المصريين في سياقها التاريخي لا تفهم إلا من خلال فهم صيرورتها المتشكلة من خلال “زمن دائري”، أي أن المهاجر “يهاجر من أجل العودة”، يهاجر لكسب المال، و”تكوين النفس”، ثم للعودة إلى مصر مرة أخرى، ليمتلك منزل ويتزوج، كما أن الأجيال القادمة، ومنهم مثلا أبناء وأحفاد ذلك المهاجر الذين يكبرون ويهاجرون بنفس النمط، فالهجرة المصرية حتى بدايات العقد الأخير، ما هي إلا إعادة لإنتاج هجرات المصريين نحو الخليج في سبعينيات القرن الماضي، وهذا ما يتفق معه أيمن زهري أيضا في دراسته حول الهجرة السرية للشباب المصري.
أما فيما يتعلق بهجرات المصريين بعد ٢٠١٣، والتي مثلت نقطة تحول، فإن المهتمين بشأن هجرة المصريين وصناعة سياسات الدولة في التعامل مع تلك الهجرات، بحاجة إلى إعادة تشكيل ذلك التمثل النظري، الذي يضع “الهجرات المؤقتة” في مركز التفكير، كما أن ذاك التمثل النظري الجديد، لا يقطع مع سابقه، بل أن النظرية صيرورة تعتمد على معرفة تراكمية، فلابد من دمج المحاولات النظرية المطروحة عبر التاريخ مع نمط جديد فيما يتعلق بالهجرة، يختص بالحقبة الجديدة من الهجرة، ويكون قادرا على تحليل الهجرات الدائمة، والتي تعتبر فئات منها أن خططها المركزية تتمركز بالكلية خارج محيط البلد الأم، وعليه؛ وبالضرورة توفير تحليلات غير اختزالية تتعمق في تحليل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، بدلاً من التحليل الأحادي، وتفكيك صيرورة تجربة الهجرة منذ نقطة الانطلاق وحتى طموحات المستقبل، بدلاً من بحث “العوامل المؤثرة” فقط، وهذا العمل النظري لا يتماسك إلا من خلال مشاريع بحثية جادة تتفاعل مع الجوانب السياساتية، مثل تفاعلها مع الجوانب الوصفية والتحليلية، فسؤال الفعل والمستقبل وتطوير آلياته لا بد أن يكون مركزياً في التحليل.
تعليقات علي هذا المقال