مثلما يتضح من العنوان تمامًا، تقوم تلك المقالة على مناقشة الجواب على هذا السؤال، وهو: من يصنع سياسة التخطيط العمراني في مصر؟ وعلى قدر سهولة السؤال ظاهريًا إلا أنه يحتاج مزيدًا من تحرير الدقة والبحث، حيث إن القاهرة قد شهدت في الأونة الأخيرة، خاصة بعد 2011، تغيرات عمرانية كبيرة، من إقامة مشاريع سكنية جديدة بامتداد القاهرة أو بتغيرات عمرانية داخل شوارعها وميادينها الرئيسية فضلاً عن نقل منشآت خدمية من أماكنها إلى أماكن أخرى.
خطة الهروب من التحرير إلى العاصمة الجديدة
كان من الضروري الإجابة على عدة أسئلة تتعلق بالتخطيط العمراني الجديد داخل أروقة المدينة التاريخية التي يبلغ عمرها ألف سنة أو يزيد، كان من ضمن تلك الأسئلة الحثيثة: من يصنع سياسة التخطيط العمراني في مصر إجمالا والقاهرة خصيصا؟ وإلى أي مدى يتم التأثير على عمران القاهرة التاريخي منه والحديث؟ ليس هذا فحسب، بل إلى ماذا يهدف هذا التغيير والتخطيط الجديد في القاهرة؟ يمكن أن نجعل مركز القاهرة وميدانها الرئيسي والحيوي ميدان التحرير هو نقطة الانطلاق.
شهد ميدان التحرير تغيرا كبيرا ودراميا، بداية من نقل المنشآت الحيوية إلى أماكن نائية ومتفرقة على حدود القاهرة، مثل نقل وزارة الداخلية إلى التجمع الأول عند مقر كلية الشرطة، بالإضافة إلى خطة نقل البرلمان إلى مجلس الشعب، ونقل مجمع التحرير إلى منشآت ووحدات متفرقة، بالإضافة إلى التغير العمراني الكبير الذي شهده هيكل الميدان نفسه، على سبيل المثال، تم تجريف الصينية التي تتوسط الميدان واستبدالها بأرضيات رخامية وقاعدة مسلة وأربعة كباش نقلت من الأقصر، وليس انتهاءً بالتغيرات على جانب الميدان من إنشاء أرضيات رخامية وبلاط.
أما الحدث الأكبر في القاهرة والذي يشهد نشأة نمط معماري جديد كليّاً هو مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، حيث يقوم السيسي منذ أكثر من سبع سنوات على بناء عاصمة جديدة، عبر ضخ أموال هائلة في العديد من المشاريع الحكومية والسكنية داخل تلك المدينة على أطراف القاهرة من ناحية الشرق، والتي تضم كثيرا من الأبنية التي تعلن عنها الدولة بشكل مستمر مثل مسجد الفتاح العليم وكنيسة كاتدرائية ميلاد المسيح وكذلك مسجد مصر، لكن من صاحب القرار في تلك المشاريع؟
من يملك زمام الأمور في مصر؟
في نوفمبر 2014، أشاد السيسي بدور القوات المسلحة وقدرتها على تنفيذ مشاريع البنى التحتية الضخمة بوتيرة أسرع بثلاث إلى أربع مرات من القطاع الخاص، في إعلان صريح وغير موارب عن دعم القوات المسلحة ودفع مشاريع التعمير والعمران لها بشكل مباشر وأساسي، ولم تنتظر الأيام والسنوات لتكشف لنا الدور الرئيسي الذي امتلكته القوات المسلحة في المشاريع البنيوية في مصر، حيث لا يتوانى المسؤولون عن التصريح بتلك الحقيقة، مثلا يقول العميد خالد الحسيني المتحدث الرسمي باسم العاصمة الإدارية، أنهم منضبطون للغاية وأقل فسادًا.
الهيئة الهندسية للقوات المسلحة من جهتها تمنح المشاريع التنموية والعمرانية المختلفة إلى شركات خاصة بنظام الإسناد المباشر، فمسجد الفتاح العليم ومسجد مصر القائمين في العاصمة الإدارية الجديدة، تشرف عليهما الهيئة الهندسية بشكل مباشر مع إسناد التنفيذ لشركة المقاولون العرب، تسير تلك السياسة بشكل رئيسي في مصر منذ تولي السيسي زمام السلطة، حيث يشرف الجيش ممثلاً في الهيئة الهندسية على مشروع تطوير العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تقدر استثماراتها بنحو 45 مليار دولار، بالإضافة إلى تطوير مدينتي العلمين الجديدة وهضبة الجلالة في المنطقة الجبلية شمالي البحر الأحمر، لتتنوع المشاريع الخاصة بالقوات المسلحة ما بين مشاريع كبيرة ومشاريع ضخمة تعمل على إنشاء كامل للمدن الجديدة، رغم كون هذه الظاهرة تهدد الاقتصاد المصري والقطاع الخاص الذي يصعب عليه منافسة الجيش الذي يتمتع بإعفاءات من الضرائب والجمارك وكافة الرسوم، كما أن النمط العمراني الذي تعمل عليه القوات المسلحة يعبر عن هوية معينة ورؤية أمنية محددة.
لماذا الجيش؟
في أكثر من مناسبة، يذكر السيسي ويتذمر من ثورة يناير 2011، وفي أكثر من مناسبة أيضا يتذمر من الدولة التي سقطت بسبب 2011، يتعامل السيسي مع الثورة بندية كبيرة لدرجة أنه يصفي حساباته مع كل ما له علاقة بالثورة من قريب أو بعيد، يرى السيسي بعينه ما لا يراه غيره، ومن ضمن ما يراه أن كثيرا من الناس كانوا سببا في قيام تلك الثورة والسماح لها بسقوط الدولة من ضمنهم رجال الأعمال في دولة مبارك، الذي بدأ حكمه كعسكري لا يختلف كثيرا عن أسلافه، لكنه ما برح أن استبدل مستشاريه العسكريين بمدنيين من القطاع الخاص، وصنع على يديه رجال أعمال تمكنوا من اقتصاد الدولة بشكل كبير، سواء من خلال الخصخصة أو التحكم الكامل بالاقتصاد والتجارة، بمعاونة نجله جمال الذي كان يشرف بشكل مباشر على هذا القطاع.
كان هذا التدخل لرجال الأعمال المدنيين في الدولة المصرية يقابله تراجع نفوذ الجيش وسلطته في الاقتصاد المصري، لذا كان من البديهي ألا يقف الجيش مع النظام في هذا الوقت بل ويسمح بسقوطه.
يأتي السيسي محملًا بالثأر الذي كلفه به الجيش ليأخذه من المواطن الثائر ورجل الأعمال نفسه، ويعبر السيسي عن هذا صراحة، مثلا في اجتماع له مع المسؤولين التنفيذيين ورجال الأعمال قبل وصوله للسلطة، أخبرهم أنهم استفادوا من دولة مبارك بشكل كبير وأن عليهم رد الجميل والتبرع بمبلغ 100 مليار جنيه للنظام المصري، وأنه لا ينوي محاسبتهم على ما فعلوه قبل ذلك وانتفعوا به من دولة مبارك، لكن عليهم فعل ذلك ليتجنبوا المساءلة.
في مقالة نشرتها صحيفة فاينانشال تايمز بعنوان: “عاصمة جديدة في الصحراء المصرية: نموذج السيسي العسكري للاقتصاد”[1]، يتحدث الكاتب عن هذا بشكل صريح، ويروي على لسان أحد الأكاديميين المصريين قوله: “في هذا الوقت لديك جنرالات في الوزارات المختلفة، أما في عهد مبارك فلقد كانوا مختبئين في القبو”.
يرى السيسي أن هذا تصفية حساب ورد اعتبار للجيش وقياداته الذين لم تمنحهم الدولة في عهد مبارك خاصة في سنواتها الأخيرة أي اهتمام، لذا يتصدر الجيش بهيئته الهندسية المشهد دائما عبر مشاريع البنية التحتية في مختلف المناطق.
لماذا تمثل هيمنة الجيش كارثة على الاقتصاد؟
يظهر تأثير الجيش جليا في مشاريع لا تهدف إلى تنمية حقيقة، أو حل مشاكل رئيسية كالبطالة وعجز الموازنة العامة وسداد الدين الخارجي، بل مشاريع ربما أصلا تتسبب في مزيد من الديون الخارجية والداخلية أيضا، حيث أوضحت بيانات البنك المركزي المصري، أن إجمالي الدين الخارجي لمصر ارتفع إلى 157.8 مليار دولار في نهاية مارس 2022 من مستوى 38 مليار دولار في مارس 2013، بنسبة زيادة أكثر من 300% وتلك الأرقام الكارثية تعبر عن مدى تدهور الاقتصاد المصري.
تهدف تلك المشاريع إلى حاجة واحدة وهي كسب مزيد من الأموال وتمكين الجيش وسلطة الدولة من البلد، كما صرح السيسي قبل ذلك أنه يود عمل شبكة طرق “تمسك البلد” وأشار بقبضة يده، وفي تصريح آخر ذكر أنه مستعد لأن ينشر الجيش في البلد كلها في غضون ست ساعات فقط، لذا كان من الضروري أن يعمل على إعداد شبكة طرق رئيسية ومتشابكة وواسعة تربط مصر كلها في آن واحد.
ولا غنى عن المشاريع التي تهدف إلى استمالة الرأي العام ودخول موسوعات عالمية دون فائدة حقيقية على أرض الواقع لهدف ترسيخ الدعم في صفوف أنصار النظام، وشحن الجموع لتأييد الدولة ورئيسها، والمثال الأبرز على ذلك هو قناة السويس الجديدة التي حفرت لهذا الغرض فقط.
أما عمرانيا، فجسر روض الفرج المعلق الذي افتتحه السيسي في منتصف شهر مايو 2019 والتي تولت تشييده الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالاشتراك أيضا مع شركة المقاولون العرب، لم ينتج أي شيء ملموس على أرض الواقع ولم يحل أي أزمة مرورية كما كان الهدف، حيث صنعت له حملة إعلامية كبيرة للترويج له باعتباره أكبر جسر معلق في العالم، يستفيد الجيش من تلك المشاريع استفادة كبيرة جدا، وعلى عكس ما يظهره السيسي ونظامه أن الجيش يتكلف بناء تلك المشاريع من الألف إلى الياء على نفقته الخاصة فتلك أمور ليس لها علاقة بما يحدث في أرض الواقع تماما.
ما يبرزه دخل تلك المشاريع التي تدر دخلاً للجيش، في سنة 2018 افتتح الجيش مصنعا جديدا للأسمنت بقيمة 1.1 مليار دولار، يشير المقال المذكور في صحيفة فاينانشال تايمز إلى أن هناك 60 شركة تابعة لكيانات عسكرية تعمل في 19 من 24 صناعة كبرى، تم إنشاء ثلث تلك الشركات بعد 2015، إذا يسيطر الجيش على الصناعة المتعلقة بالبنية التحتية بشكل شبه كامل.
لا تأخذ الدولة رأي أي مؤسسة أخرى لها علاقة بالتخطيط العمراني في مصر، على سبيل المثال، وفي الأونة الأخيرة تكاثرت العمليات الإنشائية في قرافة القاهرة التاريخية التي تخضع لحماية اليونسكو كمنطقة ذات تراث عالمي، كانت الدولة ممثلة في الجيش والشركات المنفذة اليد العلى وصاحبة الرأي الأوحد في تحديد مسار تلك الطرق والكباري والمحاور، ليس هذا فحسب، بل لم تستشر حتى أي جهة خاصة، حيث صرح الجهاز القومي للتنسيق الحضاري على لسان أعضائه في مرات مختلفة، أن كل ما يجري داخل القاهرة التاريخية لا يتم استشارتهم فيه، رغم أن القانون يكفل لهم حق الرأي فيما يتعلق بالنسيج العمراني للقاهرة، لكن الدولة لا تعيرهم أي اهتمام فيما يتعلق بتلك المنشآت.
المصادر
[1] A new capital in the Egyptian desert: Sisi’s military model for the economy.
https://www.ft.com/content/00a7b285-87c8-448c-998e-30457d1af85c
تعليقات علي هذا المقال