منذ السبعينيات وربما قبل ذلك بسنوات، وتحديدا بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، تبدو السياسة الخارجية المصرية كسياسة تعبئة موارد خارجية للحفاظ على استقرار النظام السياسي بشكل أساسي والدولة المصرية بشكل عرضي أو تابع، تفيد هذا كتابات كبار مفكري وأساتذة العلاقات الدولية المصريين، سواء نادية محمود مصطفى، أو ودودة بدران، أو محمد السيد سليم، أو إسماعيل صبري مقلد، وغيرهم من أساتذة العلوم السياسية المختصين بشكل أكبر في السياسة الخارجية المصرية والعلاقات الدولية.[1]
قد يبدو سؤال من يصنع السياسة الخارجية المصرية بسيطا أو قابلا للإجابات السريعة والخفيفة من قبل البعض، باعتبار النظام المصري نظاما رئاسيا والسياسة الخارجية المصرية مجالا حيويا خاصا بالرئيس وحده، يحدد أطره العامة ودوائر الحركة وأولويات السياسة وأدواتها ودوائر التحالفات والقضايا، لكن الأمر تحت أي نظام سياسي يرتبط بعدة عوامل منها الصلاحيات المخولة للرئيس في الدستور، وصلاحيات وزارة الخارجية والأجهزة السيادية التي كانت تاريخيا جزءً من عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، هذا من الناحية المؤسسية والدستورية أو المنطق البنائي الوظيفي، ومن الناحية السياسية البحتة يرتبط الأمر أيضا بشخص الرئيس وما يتمتع به من كاريزما وعلاقته بالبيروقراطية المصرية وتراثها المتراكم، ومساحات الصراع والأخذ والرد حول الصلاحيات والمصالح والأولويات والعمليات السياسية التي تتطلبها تلك السياسة.
فيما تتجه مدارس أخرى للسياق المحلي والإقليمي والدولي المرتبط بالموقع وممكناته والحاجيات المحلية الاقتصادية والسياسية، باعتبار أن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل إلى الخارج، أو حتى باعتبارها تخضع لأطر أيديولوجية مؤثرة في المجالات الحيوية للدول والأنظمة السياسية على رأس الحكم فيها.
على كل حال؛ فإنه ومن الناحية النظرية يصنع السياسة الخارجية في مصر العديد من المؤسسات وفي مقدمتها مؤسسة الرئاسة وتحديدا شخص الرئيس، وبعض المؤسسات الأمنية الأخرى ولا سيما تلك التي تضطلع بمهام المعلومات والاستخبارات، سواء كانت المخابرات العامة أو الحربية، وكذلك البرلمان دستوريا هو جزء من عملية صنع القرار الخارجي المصري، لما له من صلاحيات التصديق على الاتفاقات الدولية، وللإجابة على هذا السؤال فيما يتعلق بالمرحلة محل الدراسة علينا أولا الحديث عن مراحل تاريخية سابقة.
نهايات عهد مبارك وتسيد المخابرات العامة
ورث مبارك عملية صنع سياسة خارجية كانت في المجال الخاص للرئيس السادات تماما، وأدت ضمن عوامل أخرى لاغتياله، حيث لم يكن لأي جهة أخرى رأى في صنع السياسة الخارجية المصرية في أواخر عهد السادات الذي كان يرى أن ٩٩٪ من قواعد اللعبة السياسية الدولية في يد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، واضطر في سبيل ذلك لخوض معارك شخصية لتأسيس سياسة خارجية مصرية شديدة القطرية.
كما ورث نظام مبارك دولة شبه منعزلة عن إقليمها، وتعاني مشكلات اقتصادية واجتماعية جمة نتيجة هذه العزلة، ونتيجة لأثر السياسات الاقتصادية التي اتبعها السادات، ولم تكن لأجهزة الاستخبارات أو لوزارة الخارجية قدرة حقيقية على تحدي السادات، ومن كان يتحداه كان عليه أن يستقيل، وهو ما حدث أثناء مفاوضات كامب ديفيد التي استقال فيها وزيران للخارجية في سابقة جديدة على الدبلوماسية المصرية.
ورغم نجاحه وتمكنه من إعادة دمج مصر في محيطها الإقليمي أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وتعبئة موارد مالية نظير مشاركته في حرب تحرير الكويت، كانت كافية لحلحلة أزمة التمويل الدولي للاقتصاد المصري بإعادة جدولة ديونه وتدفق المنح والمعونات والاستثمارات والتحويلات من الدول العربية إلى مصر، إلا أن سياسات الخصخصة والأزمة الاقتصادية الهيكلية التي قادت لمعدلات نمو مرتفعة بالتوازي مع معدلات بطالة وفقر مرتفعة أيضا نتيجة لسياسات التوزيع الفاشلة، بالتوازي مع فشل الإصلاح السياسي ومشروع التوريث، كل ذلك قاد النظام لنهايته.
ومثلت سياسة مبارك الخارجية نموذجا للاعتماد على الأطراف الخارجية بشكل كبير لحل أزمات داخلية بالأساس، مما مثل إغراقا في التبعية لشبكات مصالح اقتصادية واجتماعية محلية هي نتاج لسياسات اقتصادية دولية تم تعميقها في عهده، والوصف الدقيق للأوضاع التي خلفها نظام مبارك هي وضعية نظام سلطوي يعتمد في استقراره علي دولة شبه ريعية حظيت بتدفقات مالية هامة من النفط وعائدات قناة السويس ومن المساعدات الخارجية، وعندما انهارت هذه الإيرادات الريعية قام النظام بإعادة ترتيب أولوياته لصالح تقوية أجهزته الأمنية وزيادة مواردها على حساب الفقراء وظل طلب المساعدات الخارجية هو أحد أهم أنشطة نظام الحكم في مصر، وهي وضعية أدق وصف لها هو تعبير سامر سليمان “النظام القوي والدولة الضعيفة”.[2]
انتهى هذا العصر بمصر كطرف في محور سمي بمحور الاعتدال في مواجهة محور المقاومة حينها، وكانت سياسات النظام تجاه أهم القضايا والملفات الإقليمية محل نقد شديد، إذ اعتبر حركات مثل “حماس” و “حزب الله” عدوا رئيسيا لمصر ولنظامه، وكانت هناك العديد من القضايا التي أدت للزج بمصريين في السجون، بتهم تتعلق بالانتماء لهذه الحركات، وكانت العديد من المظاهرات ترتبط بالاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة أو القدس، وأصبحت مصر مجرد وسيط في عملية السلام المجمدة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وكان هذا الملف بيد المخابرات العامة بشكل كبير، وأضيف إليه ملف نهر النيل الذي انتزع من الخارجية، وانتهى هذا العصر بصعود قوي للسعودية وقطر كقيادات جديدة للإقليم الذي أزيحت مصر عن قيادته ذاتيا نتيجة الأزمات الداخلية البنيوية في الاقتصاد والسياسة المصرية.
الثورة محاولة قصيرة لإعادة ترتيب اللاعبين والأولويات
كانت الثورة في جزء هام منها احتجاجا على سياسات مبارك الخارجية، فقد آلت سياسات نظامه في أواخر عهده إلى سياسات قطرية مفرطة، وتفريط شديد في أهم الملفات الإقليمية، وهو ملف الصراع العربي الإسرائيلي لصالح السعودية صاحبة مبادرة السلام العربية، ومن ناحية أخرى فإن نظام مبارك ورث الثورة اقتصادا مأزوما ودولة رخوة وسياسة خارجية تتحكم بمعظم قضاياها الأجهزة السيادية، كما أن برنامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي الذي اعتمد عليه النظام الرأسمالي لفرض نموذجه وشروطه مما حقق له نموا رقميا كليا، لكن البعد التوزيعي لهذا النمو حجب عنه مشروعية الاستمرار.[3]
بطبيعة الحال انهمكت الثورة في القضايا الداخلية وأهملت السياسة الخارجية، ولم نشهد أية محاولة لبلورة سياسة خارجية جديدة تتلاءم مع الأوضاع المتغيرة في المنطقة، ومع تعيين نبيل العربي وزيرا للخارجية شهدنا محاولة لاستعادة مساحة تأثير خاصة بوزارة الخارجية بعيدا عن التوجهات التقليدية المحافظة للمجلس العسكري والمؤكدة على الالتزام بكافة الاتفاقيات والالتزامات الدولية، وبدأنا نلحظ خطابا مختلفا بعض الشيء حول ضرورة مراجعة اتفاقيات كامب ديفيد، وأنها غير مقدسة وأنها قابلة للتغيير وفقا لنصوصها، ولن تعوق دور مصر الإقليمي، وكذلك اتفاقية تصدير الغاز لإسرائيل، والعلاقة مع إيران، والموقف من القضية الفلسطينية[4]، كانت هذه التصريحات بمثابة توجه جديد لوزارة الخارجية المصرية التي رأت في الثورة فرصة لاستعادة الملفات التي سلبها إياها نظام مبارك لصالح المخابرات العامة.
وفي عام حكم الرئيس مرسي بدت محاولات جادة من قبل العديد من أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية لمأسسة دور وزارة الخارجية وتوسيع دوائر استشارتها للمتخصصين في العديد من الملفات، وذلك عبر توسع أنشطة الوزارة والمجلس المصري للشؤون الخارجية وانفتاحه على كافة التيارات السياسية، إلا أن استحداث منصب مساعد الرئيس للشؤون الخارجية، كان محل حساسية من قبل بيروقراطية وزارة الخارجية، كما كان محل نقد من قبل المعارضة، ضمن الحملة المبالغ فيها التي كانت تتحدث عن أخونة الدولة المصرية، رغم أن الإخوان لم يكونوا يشكلون أكثر من ثلث الفريق الرئاسي.
مؤسسة الرئاسة أنشأت كذلك المنتدى المصري للسياسة الخارجية، وشهدت مصر تحركات خارجية مكثفة للرئاسة في كافة دوائر الحركة[5]، لكن ربما تم قراءة كلتا الخطوتين من قبل المؤسسات التقليدية ذات النفوذ في عملية صنع السياسة الخارجية كالمخابرات العامة ووزارة الخارجية باعتبارهما خطوتين عدائيتين وتنذران بسحب البساط من تحت أقدامهما، مع هذا تمتعت وزارة الخارجية تحت قيادة محمد كامل عمرو بمساحة للحركة في ملفات سد النهضة، واسترداد الأموال المصرية المهربة للخارج، ومحاولة طمأنة حكومات الخليج بشأن النظام الجديد للحكم، لكن رغم الإشارات الجيدة التي كانت ترسلها الخارجية عبر وسائل الإعلام، لم تتحسن العلاقات المصرية الخليجية، وخاضت الإمارات والسعودية حملات دعائية ضد الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، ورغم أن النظام الجديد استطاع أن يبني شبكة دعم إقليمي جديدة متمثلة في العلاقة القوية مع قطر وتركيا والعراق وليبيا وهي الدول التي مثلت القروض والوعود بالمنح والاستثمارات القادمة منها أملا في ترسيخ النظام الجديد، لكن لم يصمد هذا النظام أمام المشكلات المتوارثة وأمام الأزمات الداخلية وسوء استغلال المجال العام من قبل المعارضة والإخوان وهو ما أفضي للحكم العسكري المباشر.
السيسي والانتقال نحو المخابرات الحربية
في هذه الفترة تعامل السيسي بحذر شديد وشك كبير مع كافة أجهزة الدولة وبالذات الأجهزة السيادية، فجرى تحويل العديد من الملفات من المخابرات العامة ووزارة الخارجية إلى الدائرة الخاصة المقربة من السيسي وبالذات جهاز المخابرات الحربية مباشرة.
كما رأينا جميعا تحركات وحضور اللواء عباس كامل رئيس الجهاز في كل أزمة دورية بين إسرائيل والفلسطينيين، وفي ملف المصالحة، وكذلك اجتماعات المحاور الجديدة التي تتشكل على قاعدة التطبيع الذي رسخته الإمارات سواء في اجتماعات صفقة القرن وتوابعها في المنامة أو الأردن أو شرم الشيخ أو تل أبيب.
الأمر نفسه فيما يتعلق بالمحور الجديد المتعلق بغاز شرق المتوسط الذي مثل مجال الحركة الأكبر للسياسة الخارجية المصرية في هذه الفترة، رغم امتعاضات وزارة الخارجية وبعض التقارير عن اعتراض بعض منتسبيها سواء في موضوع ترسيم الحدود البحرية[6]، أو حتى عمليات التطبيع، لكنه جرى على نطاق واسع عسكرة وأمننة وزارة الخارجية على نحو غير مسبوق.
إذ أصبحت وزارة الخارجية مسرحا لتغييرات هيكلية واسعة، في مطلع عام 2014 بدأت هذه التغييرات بإبعاد جميع السفراء والملحقين والمستشارين الذين تم تعيينهم في عهد الإخوان بعد نشر شائعات عن انتمائهم للجماعة أو تعاطفهم مع ثورة يناير، وقام سامح شكري بعملية إبعاد منظمة وتدريجية للدبلوماسيين والموظفين الإداريين المشكوك في ولائهم للنظام، اعتمدت بشكل أساسي على التحريات الأمنية، كما بدأ استراتيجية تغيير العقيدة المهنية للسلك الدبلوماسي المصري من جذورها، وذلك عبر إخضاع الناجحين الجدد في امتحانات السلك الدبلوماسي والقنصلي بالإضافة للمرشحين للترقيات لتأهيل أمني، يتمثل في إخضاعهم لدورات تأهيل في أكاديمية ناصر العسكرية، وبمعسكرات مغلقة يحاضر فيها مسؤولون بوزارة الدفاع وعدد من الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، لمدة ستة أشهر.[7]
يمكن القول أنه جرى تعميق مفهوم السياسة الخارجية كسياسة تعبئة موارد في هذه الفترة بنجاح، لكن هذه الموارد يتم تعبئتها لخدمة النظام السياسي وتعويمه لأكبر فترة ممكنة لتحقيق مصالح طبقة الواحد بالمئة من المصريين، بالإضافة لمصالح الدول الإقليمية الممولة للنظام السياسي، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، اللتان تحتفظان بموقع المستثمر الأول والمانح الأول والمصدر الأول لتحويلات العمالة المصرية في الخارج، ومؤخرا المستحوذ الأكبر على أصول الدولة المصرية التي يجري تسييلها عن طريق هذا النظام العسكري الحاكم عبر تغيير في القوانين المتعلقة بالاستثمار وملكية الأرض وأصول الدولة المصرية التي ظلت شبه مستقرة لعقود قبله.
يؤسس منظرو العلاقات الدولية لدور وزارة الخارجية باعتبارها مناط تنفيذ سياسة الدولة في المجال الخارجي، والتي تعبر عن مدى وأبعاد سيادة الدولة، لكنها أيضا تشارك بصورة فاعلة في عدة أنشطة، مثل قرارات إنشاء وتطوير أو تعليق وتجميد وقطع العلاقات مع الدول والوحدات الدولية الأخرى، قرارات تقديم معونات عسكرية ومدنية وإنشاء صناديق ووكالات التنمية والانضمام لمعاهدات واتفاقات دولية وعقد المواثيق ومساندة الدول الصديقة في بعض المواقف وقرارات التدخل أو عدمه في أزمات دولية معينة.[8]
ويرى البعض أن السياسة الخارجية المصرية في هذه الفترة وإن نجحت في تحقيق بعض الأهداف المتعلقة باستعادة وتثبيت شرعية النظام السياسي في السنوات الثلاثة الأولى من عمره من يوليو ٢٠١٣ حتى مارس ٢٠١٦ ثم تعويم هذا النظام حتى الآن، فإنها أخفقت في عدة ملفات على رأسها سد النهضة وقضية تيران وصنافير والعلاقة مع المصريين في الخارج، فالسياسة الخارجية المصرية لم تتمكن من استيعاب الاختلاف مع النظام السياسى بين المصريين المقيمين بالخارج، وبالتالي فقد تم اعتبار المختلف عميلا أو خائنا، وفى بعض الحالات تسببت التقارير الصادرة عن السفارات المصرية فى متاعب للكثيرين عند زيارة مصر، في مقابل تقريب مدعى الوطنية الزائفة، والأداء الإعلامي المصاحب لقرارات السياسة الخارجية أو المتعلق بالردود الشعبوية على بعض التقارير الحقوقية أو الإعلامية التي تناولت الشأن المصري.[9]
كان لبعض النجاحات ثمن فادح، فقد استهلكت جهود وزارة الخارجية في الدفاع عن شرعية النظام السياسي، سواء في مواجهة الصورة السائدة عنه عالميا باعتباره انقلابا عسكريا على الثورة المصرية، ما أدى لعزله إفريقيا بتعليق عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي، أو حتى بالدفاع عن السجل الحقوقي سيئ السمعة للنظام، سواء ضد المواطنين أو حتى ضد الأجانب، كما هو الحال في قضية جوليو ريجيني التي كلفت الدولة المصرية تنازلات عدة ترتبط بصفقات مليارية لأسلحة وتنقيب عن الغاز الطبيعي مقابل تسوية هذه الملفات.
لكن إذا نظرنا إلى دور وزارة الخارجية المصرية الحالي، فإن الوزير يصنف باعتباره واحدا من أضعف الوزراء على الإطلاق في تاريخ الوزارة، فقد اكتفى بالدور التنفيذي للوزارة ويقوم بالتنفيذ على نحو كارثي يؤدي لأزمات، ليس أولها أزمة ميكروفون الجزيرة ولا آخرها الأزمة الراهنة مع حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وتصعيده للتصريحات بشأن شرعيتها في الجامعة العربية والمحافل الإقليمية والدولية، ورغم إزاحة ملف المصريين في الخارج من الوزارة لصالح وزارة الدولة للهجرة إلا أن هناك نقد كبير للزيادات المبالغ فيها لأسعار الخدمات القنصلية وتحول القنصليات والسفارات لما يشبه الملحقيات العسكرية والأمنية.
هنا يمكن القول بأن السياسة الخارجية المصرية تصنع وتدار عن طريق السيسي شخصيا ودوائر المخابرات العامة والحربية المقربة منه، وإن كان قد تم إخضاع المخابرات العامة لسلطة وسيطرة المخابرات الحربية عبر تعيين عباس كامل مدير مكتب السيسي والقادم من المخابرات الحربية رئيسا للجهاز، لحسم صراع القوى بين الجهازين السياديين الأهم في البلاد، وتساهم وزارة الخارجية في نطاق ما هو مرسوم في مرحلة التنفيذ فقط.
في التحليل الأخير تشير الانحناءة الشهيرة للرئيس ورئيس جهاز المخابرات ووزير الخارجية في الدوحة إلى ما آلت إليه أوضاع السياسة الخارجية المصرية من انسحاب مصري واضح من الإقليم نحو مشكلاتها الداخلية، وإدارة الدولة كبلد مأزوم يبحث عن موارد، إلى الحد الذي جعل كتابا كبارا في العلاقات الدولية يصفون مصر السيسي بالدولة المتسولة، ويحذرون المتعاملين مع نظامها السياسي من المصير اللبناني والسيرلانكي، جراء سياسة الإفراط في الاقتراض من أجل تمويل المشروعات الشخصية العملاقة التي يتبناها السيسي، لإبهار العالم بعيدا عن أية جدوى سياسية أو اقتصادية لهذه المشروعات، بحيث أصبح يعتمد على الدعم الخارجي والقروض أكثر من أي وقت مضى.[10]
تبقى السياسة الخارجية المصرية محكومة ليس فقط بالتوجهات الخاصة بالسيسي والأجهزة السيادية على أهميتها؛ وإنما أيضا بالاقتصاد السياسي المصري وبالاحتياجات المزمنة للتمويل الدولي، والناجمة بشكل أساسي عن أزمات هيكلية متراكمة ومرتبطة بتراجع القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة لصالح قطاع الخدمات، فضلا عن تخلي الدولة عن مسؤولياتها تجاه هذه القطاعات، واتخاذ سياسات جوهرها ترك الأصول الصناعية حتى تخسر ومن ثم طرحها للبيع والخلاص منها، في سبيل استيفاء شروط المؤسسات المالية الدولية للحصول على قروض جديدة، لتقع فريسة للاستحواذات الخارجية على الأصول الاستراتيجية، وتصبح ملعبا دوليا تابعا لأطراف النظام الدولي وليس حتى لمركزه، ويصبح الخارج أكثر تأثيرا في مجريات السياسة الداخلية المصرية، وعندما يصنع الأخيرة رئيس قادم بشرعية القوة فإنها تصبح عملية خلق وتعميق تبعية بنيوية للخارج.
المصادر
[1] انظر على سبيل المثال، نادية محمود مصطفى، سياسات تعبئة الموارد السياسية الخارجية لمصر في عهد أنور السادات، في علي الدين هلال، محرر، دراسات في السياسة الخارجية المصرية من ابن طولون إلى السادات، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية،١٩٨٧، ص ٢٧٣- ٣١٦، متاحة على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، وكذلك ودودة بدران، سياسة تعبئة الموارد: السياسة الخارجية المصرية في عهد جمال عبد الناصر، صـــ ٢٣١-٢٥٧.
[2] عمر سمير خلف، الثورة والسياسة الخارجية المصرية: دراسة في الاقتصاد السياسي الدولي، رسالة ماجستير، القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ٢٠١٨، ص٧٠.
[3] محمود محمد داغر، الاقتصاد السياسي لتدافع النمو والتوزيع: مصر وتونس، المجلة العربية للعلوم السياسية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد ٣٤ ربيع ٢٠١٢، صـ١٢٢-١٣٨.
[4] وزير الخارجية: بنود كامب ديفيد قابلة للتغيير وإيران ليست عدوا، جريدة الشروق المصرية، عدد 793، الاثنين، 4 /4/ 2011، ص3.
[5] جمال نصار، التجربة السياسية للإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة يناير: الدور والتأثير وآفاق المستقبل، مجلة رؤية تركية، السنة السادسة العدد الأول، صـ149-150.
[6] الجزيرة نت، الجزيرة مباشر تكشف تجاهل السيسي تحذيرات الخارجية حول حقوق مصر بغاز المتوسط، بتاريخ ٤/١٢/٢٠١٩.
[7] عمر سمير، الدبلوماسية المصرية: الوضع الراهن وآفاق التغيير، المعهد المصري للدراسات، 15 نوفمبر، 2019.
[8] إسماعيل صبري مقلد، السياسة الخارجية: الأصول النظرية والتطبيقات العملية، القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2013، ص100.
[9] أحمد عبد ربه، السياسة الخارجية المصرية منذ 2014: الإخفاقات الخمس، جريدة الشروق المصرية، بتاريخ ٢ ديسمبر ٢٠١٧.
[10] Robert Springborg, Snapshot – Follow the Money to the Truth about Al-Sisi’s Egypt, Project on Middle East Democracy (POMED), January 07, 2022.
تعليقات علي هذا المقال