تتداخل العديد من المستويات والفاعلين في رسم مشهد حقوق الإنسان في أية دولة؛ فثمة بُعد محلي حاضر بقوة يتمثل في إرادة وقدرة النظام السياسي، وقوة وتأثير حركة حقوق الإنسان والديمقراطية الوطنية؛ ولكن يتداخل مع ذلك جوانب إقليمية ودولية تؤثر في مجريات الأمور عبر أدوات قانونية وسياسية متعددة، ونحاول في هذا المقال رسم خريطة سياسات حقوق الإنسان في مصر لتحديد مداخل التأثير في النضال الحقوقي طويل المدى؛ فمن هم أهم الفاعلين؟ وما هي أوزانهم النسبية؟ وما هي أهم آليات وقنوات التأثير؟
وضع حقوق الإنسان في مصر عام 2022
يشن النظام المصري هجومًا شرسًا على السياسة وحقوق الإنسان منذ منتصف 2013، كما تحترف آلته الإعلامية شيطنة وتخوين المدافعين عن حقوق الإنسان والقوى السياسية الديمقراطية، ويجيد كذلك توظيف وضعه الجيو-استراتيجي لتقليل الضغوط الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، تلك هي الأعمدة الرئيسية التي يتحرك عليها النظام المصري فيما يتعلق بحقوق الإنسان، داخليا يحاصر السياسة والمجتمع الحقوقي عبر قبضة أمنية مشددة، ترتخي قليلًا بعض الوقت كما هو الحال الآن بالتزامن مع ترتيبات الحوار الوطني وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، لكنها يمكن أن تشتد مرة أخرى في ضوء استمرار الظروف المواتية لها من عدم مسائلة الأجهزة الأمنية، وتوفر الغطاء القانوني للانتهاكات، وإنهاك الحركة الحقوقية والديمقراطية؛ وخارجيا يجيد النظام موازنة الضغوط عبر أوراق تفاوض عدة كأدواره الهامة في مكافحة الهجرة غير الشرعية، والإرهاب، وفي إعادة ترتيب الشرق الأوسط التي تجري حاليًا على قدمٍ وساق.
بعد أحد عشر عامًا من ثورة يناير 2011، لا يزال تصنيف مصر في كل المقاييس الدولية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في ذيل القائمة، فوفقاً لأحدث تقارير “الحرية في العالم” لعام 2022 الذي تصدره منظمة فريدوم هاوس حصلت مصر على 18 نقطة من أصل 100 نقطة وهو ما يجعلها في مصاف الدول “غير الحرة”.[1] وعلى مقياس “الرعب السياسي” الذي يقيس مستوى العنف السياسي الصادر عن الدولة تقع مصر ضمن المستوى الرابع من أصل خمسة مستويات وهو ما يعني أن “انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية طالت أعدادًا كبيرة من المواطنين، وأصبحت ممارسات القبض، والاختفاء القسري، والقتل خارج نطاق القانون أمرًا شائعًا في ظل العنف السياسي الذي يؤثر على كل المهتمين بالسياسة”.[2]
أخيرًا، لا يخفى على المتابع الجيد أن عام 2022 شهد انفراجة -ولو محدودة- في المجال العام، فمع الدعوة للحوار الوطني وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، بدأت بعض الشخصيات المعارضة في الظهور على الشاشات الموالية للنظام للمرة الأولى منذ ثمان سنوات، وكذلك تسارعت وتيرة الإفراج عن سجناء الرأي في قوائم متتابعة لم تصل للمستوى المطلوب من المعارضة بعد، ويدفعنا هذا الوضع الجديد لاستقصاء كيف يمكن أن تستفيد حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان المصرية من هذا التطور.
حركة الديمقراطية وحقوق الإنسان المصرية
يصف الكاتب المصري خالد منصور تجربة منظمات حقوق الإنسان في مصر عن حق بـ “محاولة النجاة بين المطرقة والسندان”؛[3] فالبنية التشريعية تقيد من حرية حركة منظمات المجتمع المدني المصري في نواحٍ عدة، ورغم أن قانون تنظيم العمل الأهلي الجديد 149 لعام 2019 أزال عقوبات الحبس التي كان يقررها سلفه القانون 70 لعام 2017، إلا أنه لم يتجاوز كونه محاولة من الحكومة للتحايل على الضغوط الدولية والمحلية لإلغاء القانون 70 لعام 2017 سيئ السمعة، في حين أنه لم يخفف من القيود المفروضة على العمل الأهلي[4]، يضاف إلى قانون العمل الأهلي ترسانة من القوانين التي حولت حالة الطوارئ الاستثنائية لحالة دائمة بموجب القانون؛ فبالرغم من إلغاء حالة الطوارئ في 25 أكتوبر 2021، إلا أن حزمة من القوانين -تشمل قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لعام 2015، وقانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين رقم 8 لعام 2015، وكذلك قانون تنظيم التظاهر رقم 107 لعام 2013- قد ساعدت في جعل حالة الطوارئ هي الأصل وليس الاستثناء.[5]
رغم هذا السياق الضاغط والقبضة الأمنية المشددة، لم تتوان المنظمات الحقوقية المصرية عن القيام بواجباتها في توثيق الانتهاكات وفضحها، والمطالبة بالمحاسبة والشفافية، والضغط لتحقيق تلك الغاية بكافة الطرق، تحت وطأة الضغوط، قام عدد قليل من المنظمات الحقوقية بالإغلاق أو تجميد النشاط، بينما انتقل البعض الآخر إلى الخارج واستأنف نشاطه، وباقي المنظمات الحقوقية التي بقيت في مصر -وهي الأغلبية- تبنت استراتيجيات عديدة للتعامل مع الأوضاع القائمة منها تقليل الموظفين والأنشطة، لا سيما بالنسبة للمنظمات المحجوز على أموالها في القضية 173 لعام 2011 سيئة السمعة.[6]
أما بالنسبة لقوى المعارضة بالداخل المصري والمتمثلة حاليا بالأساس في الحركة المدنية الديمقراطية، فإنها رحبت ببوادر انفتاح المجال العام، ولا زالت مشاركة في الترتيب للحوار الوطني -الذي طال أجله- أملاً في مزيد من الإصلاحات عبر آلية الحوار، مع التأكيد المستمر على أولوية إصلاح أوضاع حقوق الإنسان وإطلاق سراح سجناء الرأي أولاً كضمانة لجدية الحوار، وفي حين يرى البعض أن كل تلك البوادر ما هي إلا أمور شكلية يحاول بها النظام تزيين وجهه قبل قمة المناخ في نوفمبر 2022، إلا أن الاشتباك معها بصورة إيجابية، وبلورة مواقف موحدة تعلي اعتبارات الديمقراطية وحقوق الإنسان يصب بكل تأكيد في استعادة السياسة وفتح المجال العام، وهي متطلبات أولية لأي إصلاح حقوقي مأمول.
حقوق الإنسان على الساحة الدولية: مداخل وقنوات التأثير
تكمن أهمية الساحة الدولية كميدان لسياسات حقوق الإنسان في تطور تلك الحقوق عبر ثمانية عقود إلى معيار لتمتع الدولة بالشرعية على الساحة الدولية، وكذلك أحد محددات السياسة الخارجية للعديد من الحكومات الغربية، وهو ما يجعل “المستبدين دائمي التظاهر بحب القانون” وفق تعبير ستيفن كوك في مجلة الفورين بوليسي[7]، تجد الأنظمة التسلطية نفسها محاصرة على الساحة الدولية بالانتقادات الحقوقية من جهات عديدة تشمل آليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، وحكومات الدول الغربية، وأخيراً منظمات وحركات حقوق الإنسان الدولية، ويتشابك تأثير الجهات الثلاثة مع نضال حركة حقوق الإنسان المحلية لاكتساب أرضيات جديدة كل يوم.
هل يؤثر المجتمع الدولي بحق على ممارسات الدول فيما يتعلق بحقوق الإنسان؟ على سبيل المثال هل تؤدي التوصيات النقدية التي تلقتها مصر في الاستعراض الدوري الشامل بمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة سواء عام 2014 أو عام 2019 إلى تحسينات فعلية؟ وهل ينتج عن بيانات الإدانة من المفوض السامي لحقوق الإنسان أو المقررين الخواص بالأمم المتحدة توقف بعض الانتهاكات؟ أو هل يؤدي حجب 130 مليون دولار من المعونة الأمريكية للعام الثاني على التوالي إلى أي إصلاح داخلي حقوقي أو سياسي؟
إذا كنت تتوقع تأثير فوري لتلك الآليات فإن إجابة الأسئلة السابقة ستكون بالنفي؛ ففي ظل غياب الإلزام عن النظام الدولي لحقوق الإنسان، وانتصار المصلحة على اعتبارات حقوق الإنسان في السياسة الخارجية للدول الغربية في أغلب الأحوال، فإن تأثير البنية الدولية لحقوق الإنسان يحدث عبر سلسلة متشابكة من عمليات التنشئة الاجتماعية تتنوع بين الحوافز (مكافآت أو عقوبات)، الإقناع والخطاب، وبناء القدرات، وبدرجة أقل الإكراه؛ ويساهم الفاعلون المختلفون بدرجات متفاوتة في مختلف تلك العمليات[8]، على سبيل المثال توظف الدول الغربية الحليفة الحوافز -سواء عقوبات أو مكافآت- للضغط نحو تحسين وضع حقوق الإنسان، بينما تتخصص آليات الأمم المتحدة في عمليات الإقناع والخطاب وبناء القدرات عبر المتابعة والتقييم والتقارير الدورية والبيانات الصحفية والمراسلات المباشرة مع الحكومات.
يمكن تلخيص تأثير المجتمع الدولي على ممارسات الحكومة المصرية في مجال حقوق الإنسان في كونه يقدم غطاء للحماية والدعم والتمكين للحركة الحقوقية المصرية التي تشتبك بقوة مع الآليات الدولية، كما أنه يساهم في الضغط على الحكومة المصرية لإصلاح الأوضاع الحقوقية والسياسية عبر المتابعة والتقارير الدورية المطلوب من الحكومة المصرية تقديمها، أما عن الحماية والدعم فإن مساهمة المنظمات الحقوقية المصرية في الآليات الدولية كالاستعراض الدوري الشامل وأجهزة المعاهدات يسهم في فضح الانتهاكات الحقوقية على نطاق أوسع مما يقوض من الشرعية الدولية للنظام الحاكم، ويدفعه للتراجع عن بعض الانتهاكات لتحسين صورته.
يترتب كذلك على انخراط الحكومة المصرية مع الآليات الدولية تغييرات داخلية قانونية ومؤسسية تسهم بصورة غير مباشرة في تحسين الأوضاع، فعلى سبيل المثال حرصت الحكومة المصرية على عدم الذهاب للاستعراض الدوري بمجلس حقوق الإنسان قبل إقرار قانون تنظيم العمل الأهلي 149 لعام 2019 لتلافي ما تعرضت له من انتقادات دولية بخصوص القانون السابق الذي تم إلغاؤه[9]، كما قامت الحكومة بتعديل قانون المجلس القومي لحقوق الإنسان، وإنشاء “الإدارة العامة لحقوق الإنسان” بمكتب النائب العام، وإنشاء “اللجنة الدولية العليا لحقوق الإنسان” التي تتولى متابعة تنفيذ التزامات مصر الدولية ذات الصلة، بناء على توصيات تلقتها في الجولة الثانية من الاستعراض الدوري لعام 2014[10]، إذن تنشغل الحكومة المصرية بالظهور بمظهر المحترم لحقوق الإنسان، وهو ما يمكن استغلاله للدفع نحو مزيد من الإصلاحات التي تصب على المدى الطويل نحو مزيد من الامتثال.
أخيرا، نعيد التأكيد أنه عندما كانت حقوق الإنسان محض شأن داخلي للدول قبل عام 1945 لم يكن ثمة ملاذ لحركات حقوق الإنسان الوطنية في مواجهة بطش واستبداد أنظمة الحكم، ولكن مع إضفاء الحماية الدولية على حقوق الإنسان وتطور البنية القانونية والتنظيمية للنظام الدولي لحقوق الإنسان، وارتفاع تكلفة الانتهاكات على الأنظمة الحاكمة بات من الممكن الضغط على الدول لدفعها نحو مزيد من احترام حقوق الإنسان، ومما لا شك فيه أن نضالات حقوق الإنسان هي نضالات محلية بالأساس، لكن في القرن الحادي والعشرين يجد المدافعون عن حقوق الإنسان غطاء حماية وتمكين -وإن كانت له حدوده- من المستوى الدولي، وهو ما لا ينبغي تفويته.
المصادر
[1] https://freedomhouse.org/country/egypt/freedom-world/2022
[2] Gibney et. al. 2022. The Political Terror Scale 1976-2021: Documentation: Coding Rules, from the Political Terror Scale website: https://www.politicalterrorscale.org/Data/Documentation.html
[3] Mansour, Khaled. (2018), How to Survive between a Rock and a Hard Place: The Experience Of Human Rights Organizations in Egypt, in Rodríguez-Garavito and Gomez (eds.), Rising to the Populist Challenge: A New Playbook For Human Rights Actors, Dejusticia, Columbia, 113-124.
[4] لمزيد من المعلومات حول قانون 149 لعام 2019: أسئلة وأجوبة: الإطار وبيئة العمل القانونية للمنظمات الأهلية في مصر، هيومن رايتس واتش، 15 يوليو 2021، متاح على:
[5] حالة الطوارئ الدائمة في مصر مستمرة بقوانين قمعية أخرى، بيان مشترك لـ 8 منظمات حقوقية مصرية، 26 أكتوبر 2021، متاح على:
[6] Mansour. (2018), P. 119-120.
[7] Cook, Steven A. (Nov. 2021), Why Dictators Always Pretend to Love the Law, Foreign Policy, available at https://foreignpolicy.com/2021/11/10/why-dictators-always-pretend-to-love-the-law/
[8] Risse, Thomas; Ropp, Stephen C; Sikkink, Kathryn. (2013), The Persistent Power of Human Rights: From Commitment to Compliance, Cambridge University Press.
[9] القاهرة 24، ” “عبدالعال” يدعو النواب للتصويت على “الجمعيات الأهلية”: “عليا ضغط للانتهاء منه” “، 15 يوليو 2019، متاح على: https://www.cairo24.com/2019/07/15/عبدالعال–يدعو–النواب–للتصويت–على–الج/
[10] التقرير الوطني المقدم من مصر للفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري الشامل، مجلس حقوق الإنسان، الدورة 44، نوفمبر 2019، رقم الوثيقة (A/HRC/WG.6/34/EGY/1).
تعليقات علي هذا المقال