يقدم الدكتور معتز الخطيب في هذا الكتاب[1] سيرة فكرية للشيخ القرضاوي، والسيرة الفكرية تختلف عن الترجمة الشخصية بأنها لا تهتم بدراسة الشخص ودقائق حياته ومسيرته بقدر ما تقدم تحليلا مركبا، وتعتني بالسياق التاريخي والفكري من أجل معرفة كيف تكونت شخصية ذلك العالم أو المفكر، وما هي ملامح مشروعه الفكري أو الفقهي.
إن دراسة السيرة الفكرية للشيخ القرضاوي تطلعنا على ما وصل إليه الفكر الإسلامي المعاصر الذي بدأ مع الإمام محمد عبده وتوارد عليه أجيال العلماء جاء هو خاتمتهم، حيث اتصل الشيخ بهذا المسيرة وانتسب إليها علما وفكرا ومعايشة وإضافة، فهو أحد الشهود الكبار على تحولات الفكر والفقه والسياسة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وإليه يعود الفضل مع آخرين في ظهور ما يسمي بالصحوة الإسلامية التي أعادت الطابع الإسلامي إلى الحياة العامة، وحولت ميراث الفكر والإصلاح الإسلامي إلى ميراث شعبي وجماهيري، ومع تقادم الزمن تعاظم دور الشيخ حتى بات يمثل إلى حد كبير الفكر الإسلامي، ويشكل فقيها مجتهدا يمتلك من التأثير والمرجعية ما لا يتوافر لغيره.
وقد جاء الكتاب في عدة فصول بدأها المؤلف في القسم الأول بسيرة تاريخية بدلا من الترجمة الذاتية للعلم الشخص المكتوب عنه على عادة كتب السير الذاتية، انتقي فيها من تاريخ الشيخ ما يخدم تحليله للسيرة الفكرية، ثم كان القسم الثاني للسيرة الفكرية وفيه صلب الكتاب، فصل فيه عن مرجعية الشيخ وسياق تشكلها وخارطة إبداعه الفكري والفقهي، إلى جانب ذكر مؤلفاته، وقد ألحق الكتاب بحوار شامل مطول تم انتقاؤه من حلقات برنامج الشريعة والحياة من 2005 حتى 2008 والذي كان يعمل مؤلف الكتاب على إعداده في ذلك الوقت.
القرضاوي مرجعًا
إن موضوع المرجعية من القضايا المهمة في العالم الإسلامي في الوقت الحاضر، والمرجعية هي الجهة التي يرجع إليها كل مُهتمّ بالشأن الديني سواء كانت الجهة مؤسسة أو فرد، طلبًا للتوجيه أو استفتاء لما يعرض له من مسائل وقضايا يحتاج فيها إلى معرفة الرأي الشرعي بخصوصها.[2]
في الدولة ما قبل الحديثة، كانت الشريعة تقع في مركز العلوم والحياة الإسلامية، فهي تشبه النظام القانوني في الدولة الحديثة، إذ تطبق في المحاكم والقضاء، وهي معيار السلوك والمرجع في الحياة اليومية، ومصدر الشرعية للدولة والمجتمع، ويقوم عليها طبقة الفقهاء، فهي بذلك سارية على الدولة، وبعد سقوط الخلافة قبل مائة عام تقريبا ونشأة الدولة الوطنية، ظهر صراع حاد بين الدولة والتيارات الأصولية حول إسلامية الدولة ومكانة الشريعة، وكان موضوع المرجعية مركزيا في هذا الصراع.
في نفس الفترة كان صراع آخر على المؤسسة الدينية التقليدية بين الإصلاحيين الذين أرادوها أن تنفتح على الغرب والسلفيين الذين أرادوها أن تعود إلي إسلام القرون الأولى، وكانت الدولة أيضا موجودة داخل هذا الصراع في ظل صراعها مع الإسلاميين وسعيها لاحتواء الإسلام عبر المؤسسة الدينية وإدارة الشأن الديني، وهو ما أدي إلي ضعف المؤسسة الدينية وهيأ لظهور مرجعيات موازية تحظى بجماهيرية كبيرة وتستجيب لتحديات العصر.
في ظل هذا السياق من الظروف والصراعات بجانب صراعات أخرى أسهم القرضاوي في بناء مرجعيته وخطابه عبر أكثر من نصف قرن، وأصبحت اجتهاداته تشكل معتقدات وقناعات جمهور عريض من المؤمنين، وتصدر عنها المشروعية الدينية السائدة، وأهله لذلك ما تمتع به من مؤهلات شخصية إلى جانب البيئة المساعدة التي ساهمت في التكوين وتنمية المؤهلات واستثمارها.
أما مؤهلاته الشخصية فقد ظهرت علاماتها مبكرا حيث الجد والاجتهاد والانصراف للعلم وممارسة الدعوة والتصدي للقيادة، فكان زملائه في المعهد يتحاكمون إليه ويعدونه مرجعا لهم إذا اختلفوا في المسائل العلمية، وقد كان له نزعة نقدية بدأت من مناقشاته في المعهد الديني واستمرت لاحقا في الجامعة، وإلى جانبها نزعة نحو المعاصرة بدت من خلال تدريسه الفقه في المرحلة الثانوية، فلم يكن مرتاحا للكتب المؤلفة، إذ لم تكن تنتمي لواقع الحياة وما يحدث في دنيا الناس، بينما البيئة المحيطة التي ساعدته فكانت بداية من التحاقه بالإخوان وتأثره بحسن البنا وصولا لانتقاله إلى قطر في الستينيات، وهو ما ساعد على توسيع علاقاته بأهل العلم والحكم وتكوين مرجعيته، فقد جاب العالم كله انطلاقا منها، وحرص على إقامة الصلات العلمية مع مختلف العلماء.
لقد ساهم القرضاوي في ملء فراغات كثيرة، وحارب هجوم الأيديولوجيات المستوردة وأفكار التطرف والعنف والتشدد وغيرها، وتأسست مرجعيته من خلال عدة نواح، بداية من الشريعة التي كانت الشغل الشاغل له وألف فيها الكتب، وكان برنامجه الشهير على قناة الجزيرة يسمي الشريعة والحياة، وأيضا الوسطية التي كانت من سمات خطابه، إذ عدها روح الإسلام والمعبر عنه، وبدا توجهه الفقهي مبكرا عندما ألف كتاب “الحلال والحرام” في الستينيات، من أجل حاجة المسلمين إليه في أوروبا وأمريكا، وكان ذلك عبر تكليف أستاذه محمد البهي له استجابة لطلب من الخارجية المصرية التي أرسلت لمشيخة الأزهر تطلب منها الكتابة في الموضوع آنذاك ، وقد لاقي احتفاء كبيرا من رموز الفكر والفقه، وترجم إلى كثير من لغات العالم، وعلى هذا المنوال أنتج القرضاوي في ميادين كثيرة في الفقه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ما يسد حاجة الواقع، وهو ما أسهم في عودة الطابع الإسلامي للحياة العامة واستجاب بذلك لتحديات الحياة وواقع الناس.
ولعل من دلالات قوة تأثيره هو حضوره في القضايا الإسلامية الكبرى وليس فقط على المستوى الحزبي الضيق لجماعة أو حركة، كما أن معظم المؤسسات والنشاطات العلمية والخيرية كانت تحرص على وجود اسمه فيها لما يمنحها من مصداقية ومشروعية وجماهيرية، علاوة على قيامه بأدوار عديدة وهي التي يقوم المرجع بها كالإفتاء والإمامة والخطابة والكتابات الأكاديمية والدعوية التي تخاطب الجماهير وتساهم في تشكيل الرأي العام.
الخارطة الفكرية لدى القرضاوي
في عصر التخصص الدقيق الذي نعيشه كان أبرز ما يميز القرضاوي موسوعيته، فهو يمثل استمرارا لنهج العلماء السابقين في حرصهم على الموسوعية في التكوين والتأليف، وقد انقسمت مؤلفاته إلى أقسام عدة، فصنف في التفسير وعلوم القرآن، حيث قدم رؤى إصلاحية في هذا الباب، ومما نبه عليه الاهتمام بالأمور على قدر اهتمام القرآن بها، بمعنى اتخاذ القرآن معيارا لمدى أهمية الشيء، وانتقد اقتصار العقل المسلم على اهتمامه بآيات الأحكام وإهماله لآيات التوجيه الإيماني والفكري والأخلاقي.
وقد ألف في السنة وعلومها، ومما قدم فيها كتاب “كيفية التعامل مع السنة النبوية فهما وتطبيقا” وهو كتاب لم يسبق إليه أحد من المعاصرين، وفي العقيدة قدم مجموعة رسائل تميزت باعتماده على القرآن أولا في الاستدلال والبرهان والمرجعية والتصور على خلاف كتب على الكلام في هذا الباب، وكان يحرص فيها على مخاطبة العقل والقلب معا.
الفقه السياسي من الموضوعات التي انشغل بها كثيرا واستكمل فيها سلسلة طويلة من الدراسات المعاصرة حول الفقه السياسي أو النظام السياسي، وقد أفرد لهذا الموضوع بعض الكتب مثل: “السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها” و”من فقه الدولة في الإسلام” و”غير المسلمين في المجتمع الإسلامي” وغيرها من الكتب.
وفي الفكر الحركي يعتبر الشيخ من أكبر منظري فكر الإخوان المسلمين وأكثرهم تأثيرا، فقد استطاع ملء الفراغ العلمي والفكري في الحركة، خاصة أن كتبه تجمع بين التأصيل والمنهجية وبين التنظير والتطبيق، وفي الاقتصاد الإسلامي صنف كتبا عديدة منها “فقه الزكاة” وهو من أهم كتبه وأظهرها اجتهادا وتأصيلا.
وقدم أيضا في تيسير الفقه وفي باب التراث والصحوة الإسلامية وغيرها إبداعات عديدة، وقد أثارت كثرة مؤلفاته التساؤلات لدى البعض والاستغراب لدى البعض الآخر، إذ كيف استطاع كتابة هذا الكم من الكتب مع كثرة المهام والانشغالات والدعوة التلفزيونية والعضوية في الكثير من اللجان والمؤسسات، إلا أن الشيخ كان حريصا على وقته وقد رزق البركة فيه، إضافة إلى موسوعية تحصيله فقد كان يختزن كما كبيرا من المعلومات والقراءات التي ساعدته على الكتابة دون مصادر أحيانا على مدار عمره الطويل.
تعقيب وخاتمة
صدر هذا الكتاب عام 2009 ومنذ ذلك الحين إلى اليوم وقعت أحداث جسام في البلاد العربية والإسلامية، تصدر الشيخ فيها الفتوى والرأي والتوجيه، وتعرضت فيها الحركة والفكر الإسلامي لهزات عنيفة أدت إلى تفككها في بعض البلدان ومحاولات الاستئصال لها في أخرى، كما أن الجماهير والنخب حدث بينها انقسام واستقطاب حاد، ولا شك أنه فى هذه الأجواء قد تعرضت مرجعية الشيخ أيضا لرجات كبيرة، ومن أسباب ذلك بالإضافة إلى أحادية الصراعات وتصدر الشيخ فيها وشجاعته، كانت حملات التشويه التي قادتها بعض الأنظمة ضده.
ولا شك أيضا أنه بعد هذه الأحداث وبعد مرور الزمن، هناك حاجة إلى قراءات جديدة لما قدمه الشيخ، خاصة في مجالات الفكر والحركة الإسلامية والفقه السياسي، بالإضافة إليها واستكمال ما بدأه، أو بمراجعة بعضها الآخر، وأيضا تدعو هذه الأحداث إلى العودة إلي إنتاج الشيخ من أجل الاستفادة منه وتفعيل ما تجاهلته الحركة الإسلامية.
المصادر
[1] المقالة هي مراجعة كتاب (القرضاوي فقيه الصحوة الإسلامية سيرة فكرية تحليلية ) للدكتور معتز الخطيب وهو كاتب وباحث، وأستاذ المنهجية والأخلاق – مركز التشريع الإسلامي والأخلاق – جامعة حمد بن خليفة. ولا تغني المقالة عن اقتناء الكتاب وقراءته لما فيه من تفصيلات وتحليلات كثيرة.
[2] المرجعية الدينية الإسلامية: المحددات، عوامل التشكّل والإشكاليات
تعليقات علي هذا المقال