ما بين مريض أخفاه المرض عن الساحة، وميت طوته الأرض عن الجماهير المتعطشة لمواقف العلماء الربانيين، ومسجون غيبته الأنظمة المستبدة عن صفوف الشعوب كي تعيث في البلاد فسادا، وآخرين لا يزالون صامدين في وجه الظلم ومحاولة خطف الأمة عن طريقها، باتت شجرة علماء الصحوة الإسلامية المعاصرة تتساقط أوراقها وثمارها اليانعة، وكأنها تستقبل الشتاء بعدما أذبلتها رياح الخريف، ولعل آخر أولئك الأفذاذ الذين أفجع الأمة نبأ وفاته العلامة الإمام الفقيه الداعية المجتهد يوسف القرضاوي رحمة الله تعالى عليه.
لم يكن موت الإمام يوسف القرضاوي مجرد موت عالم حمل العلم في رأسه ودرّسه طلابه، فقد كان الرجل عالمًا من صفوف الأمة، التف حوله الملايين من الناس في كل بقاع الأرض، كان يتحرك بين الناس بروحه وجسده وكلماته وفتاوى فقهه الواسع اليسير، لذا جاء نعي الرجل معبرًا عن ضمير الأمة اليقظ المتعطش إلى مواقف العلماء البطولية التي ترجمها بين صفوفهم في ميادين الثورة والكلمة، فتناول كل عالم من علماء الأمة وباحث من باحثيها في نعيه للشيخ جانبًا مشرقًا من جوانب علمه وعمله وجهاده وحركته، ولأنني أعد نفسي من أولئك الذين حالفهم الحظ حين عملت لفترة على تحرير وصناعة محتوى صفحات الشيخ من كتبه وخطبه ومحاضراته، فإنني أتناول في تلك السطور القليلة بعض معالم المنهجية التربوية التي أسس لها الشيخ -رحمه الله- في تراثه وخطبه ومقالاته وقصائده ومواقفه البطولية، التي أجبرت خصومه على إجلاله قبل أن تملأ قلوب أتباعه بحبه واحترامه والاقتداء به.
الصبر والصمود بكافة أشكالهما
الصبر في حياة القرضاوي تمدّد ليشمل حياته طولا وعرضا، إذ قد عانى لأواء الحياة وآلام اليتم والفقر والعمل من الصغر ليكفي نفسه وبيته، ومما قاله الشيخ عن نفسه وأنقله بتصرف: “لقد شاركت في تنقية الدودة من القطن، ثم كنت أعمل في جني القطن وهو عمل شاق بطبيعته فضلًا عن كونه في أشد أيام الحر، وكنت أعمل وعلى ما أذكر أن الأجرة كانت قرشين صاغ، لكنني لم أكن أقدر على مثل هذه الأعمال الشاقة، ولعل الله قد دبر لي ما يناسبني، فكل ميسر لما خلق”.
الشاهد هنا أن حياة القرضاوي رحمه الله لم تكن حياة أبناء الأثرياء والأغنياء بل كانت حياة عامة الشعب المصري في زمانه، طفل يتيم تربى في بيت عمومته، ولعل ذلك ما جعل قلب الشيخ ينبض بحب الناس ويتفاعل مع أوجاعها حتى مماته.
إن القارئ الحصيف لكتب الشيخ، والمشاهد المنصف لأعماله يجد في كلام الرجل وفتواه وشرحه وتفنيده وتقليبه المسائل ما يبهر العقل بجودة الحفظ ودقة الفهم وقوة الترجيح، وهو ما يبين لنا بأن رحلة الشيخ في طلب العلم لم تكن رحلة عادية مما يسلكها بعض الدعاة والوعاظ، وإنما كانت رحلة جادة شاقة، كابد فيها الرجل منذ بدأ دراسته في المعهد الديني بطنطا، بعد انتسابه له واستئجاره حجرة بمبلغ ثمانية عشر قرشا يسكنها ثلاثة من الطلاب، لم يكن للشيخ وابن عمته فيها سوى حصيرة يفترشها على الأرض الترابية، بل لم يكن يُسمح له باستخدام مرحاض المنزل إلا للضرورة القصوى، والأصل المتفق عليه أن يستخدموا حمامات البلدية العامة التي كانت على بعد خطوات من مسكنه.
وبين القراءة في الكتب والتتلمذ على يد العلماء الكبار والأئمة الأفذاذ مضى القرضاوي يقطع أيام حياته، حتى آخر أيامه، ولعل من أشهر كلماته: “أنا تلميذ وسأبقى تلميذا إلى آخر عمري”. من يعرف الشيخ يعرف أنه في أواخر أيامه واصل الليل بالنهار مع فريق مكتبه من أجل إصدار موسوعة أعماله الكاملة التي جاوزت المائة مجلدا، ليكون بها من أغزر أعلام الأمة إنتاجًا.
لم يقتصر إنتاج القرضاوي على الكتب والأبحاث والمقالات، بل ترك لنا مئات المحاضرات المسموعة والمرئية، وسافر إلى عشرات الدول محاضرًا وخطيبًا، وشارك في مئات الندوات والمؤتمرات الدعوية والفكرية، وعلى رغم كل ذلك لم يغب يومًا من الأيام عن قضية كبيرة أو صغيرة من قضايا الأمة، فأنى للرجل كل ذلك إن لم يكن قد تزين بالصبر على البذل والعمل والسهر والحركة، وحمل هم دعوة الله في فؤاده وعقله قبل أن تحملها صفحات كتبه وشاشات إعلامنا إلينا.
منذ أن وعى الشيخ ومن أول يوم استمع فيه إلى خطبة الإمام الشهيد حسن البنا -يرحمه الله- في شعبة الإخوان قرب ميدان الساعة بطنطا عن الهجرة النبوية، والتي حفظها القرضاوي عنه، ارتبط رحمه الله بالعمل للإسلام، وتملكت هموم أمته من قلبه وفؤاده، فراح يتحرك بالدعوة إلى الله، يرشد الناس إلى الخير ويدلهم على طريقه ويبين لهم معالمه، كما راح يشارك في كل فعالية تخدم قضايا الأمة في كل مكان، وعلى رأس تلك القضايا جميعها قضية فلسطين الحبيبة، فقد حكى عن نفسه قائلا: “كانت قضية فلسطين طيلة المرحلة الثانوية قضية هامة وحية وساخنة في نفوسنا”.
ومن الثانوية حتى مماته لم يتأخر القرضاوي يومًا من الأيام عن نصرة فلسطين، ودعم المقاومة، بل كانت كلماته التي تناقلها الملايين وهو يبكي ويتودد إلى الله أن يعيش حتى يشارك في فتح بيت المقدس ويسقط شهيدًا في ساحة حرب التحرير بعدما تأتيه رصاصة تفصل هذا الرأس النقي عن الجسد الذكي، أسأل الله له أجر الشهداء.
حفلت حياة الشيخ -رحمه الله- بالمحن منذ بدايتها، حيث اعتقل في عهد عبد الناصر، وتعرض لألوان العذاب، وقد سرد الشيخ في أكثر من لقاء وكتاب وهو يبكي مواقف موجعة ومشاهد مروعة مما تعرض له وإخوانه في سجون الظالمين، لعل منها ما حكاه يوم نادى السجان على كافة المعتقلين أن يخرجوا إلى ساحة السجن ليجدوا حمزة البسيوني وحوله عساكره وزبانيته المجرمين، ثم أمر جميع المعتقلين بالوقوف في شكل دائرة وجعلهم يدورون أمام العساكر الذين صبوا عليهم جام حقده وحنقه على دين الله ودعاته، فجلدوهم بالسياط، ولم ينته التعذيب حتى سقطوا واحدًا وراء الآخر من تعب الدوران، ولم يرحم الظلمة ضعفهم حتى بعد سقوطهم، بل كانوا يزيدون عليهم العذاب.
الربانية في حياة الإمام
ما كان للقرضاوي ولا لغيره من علماء الأمة الأفذاذ أن يصلوا إلى قمة العلم والجهاد إلا بارتباط القلب بالله، وتعلق الفؤاد بالمولى جل وعلا، والربانية التي نقصدها هنا تتمثل في أربعة عناصر شملتها مقالة مطولة للشيخ محمد الشناوي بعنوان “الربانية في حياة الإمام يوسف القرضاوي” وهي: الإيمان بالله والعبادة والإخلاص له وحده، وتعلم القرآن والسنة علمًا متقنًا، والعمل بما يتعلمه العالم بما يتوافق مع فقه الإسلام قبل أن يأمر به العامة من الناس، وأن يحمل العالم علوم دينه يرشد بها الناس ويدعو بها إلى الله ويبين بها سبيل الحق ويدحض بها سبل الباطل والإفك.
ونحسب أن الإمام القرضاوي قد قام بحق الربانية بالقدر الذي وفقه الله له، فلم يأل جهدا في التعلم والعلم والعمل والحركة والدعوة والسعي بدين الله بين صفوف الناس في مشارق الأرض ومغاربها عن علم وفقه ووعي وإدراك باختلاف البيئات والظروف والنفوس والطبائع ومستجدات القضايا العامة في حياة الشعوب والأمم.
أما عن إخلاصه فهو أمر بينه وبين ربه؛ لكن شواهد ثمار حركته وسعيه تترجم أن الرجل لم يكن يقصد بعمله ولا كلماته سوى وجه الله وحده، وإلا لما ذاق ويلات السجن، وهجران الوطن والأهل، والتنكيل بابنته وزوجها، ومطاردة ابنه بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر، بل قد حكم عليه قضاة الظلم والبغي في مصر بالإعدام، وقد قابل كل ذلك بتفويض الأمر لله ثابت القلب واثق الخطى، مستمرًا في دعوة الشعوب إلى مقاومة الطغاة ومدافعة الظلم حسبة لله وحده.
الوسطية والتيسير في الفتوى
“المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال” هذا من كلام الإمام الشاطبي رحمه الله، والعلامة القرضاوي قد اتبع منذ أول أيامه المدرسة الوسطية، بل وكان رائدًا من روادها، والمدرسة الوسطية في تعريف القرضاوي: “لا تغفل النصوص الجزئية من كتاب الله تعالى ومن صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لا تفقه هذه النصوص الجزئية بمعزل عن المقاصد الكلية، بل تفهمها في إطارها وفي ضوئها، فهي ترد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، والمتغيرات إلى ثوابتها، معتصمة بالنصوص القطعية في ثبوتها ودلالتها … ومتشبثة كذلك بما أجمعت عليه الأمة إجماعًا يقينيًا حقيقيًا”.
يقول رحمه الله: “ومن معالم الفكر الذي ننشده أنه فكر وسطي الوجهة والنزعة، فكر تتجلى فيه النظرة الوسطية المعتدلة المتكاملة للناس والحياة … بعيدا عن الغلو والتقصير”. وفي وضوح جلي يقول رحمه الله: “ومما أحمد الله تعالى عليه أني تبنيت منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة، اتباعا للمنهج النبوي الكريم، فقد بعث صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن وأوصاهما بقوله “يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا”، وروي عن أنس أنه قال “بشروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا”.
تفعيل فقه الأولويات في حياة الأمة
من معالم المنهج التربوي عند الشيخ -رحمه الله- إعمال فقه الأولويات في الأمة بعدما غابت معالمه وانطمست آثاره، وذلك من خلال وضع كل شيء في مرتبته، فلا يقدم ما حقه التأخير، ولا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يصغّر كبيرًا، أو يكبّر صغيرًا، وقد ألّف وكتب في هذا الفقه ما يكفي لتبصرة المسلم بالقضايا الحقيقية التي يجب أن يشغل بها نفسه بعيدا عن مضيعات الوقت والجهد في غير ما فائدة، لذا كان الشيخ سباقا في الكلام في قضايا الأمة الكلية، مثلما رأيناه في الثورات العربية، وقضايا مسلمي الغرب، واحتلال فلسطين، ومحنة سوريا واليمن ومصر وغيرها.
كما كان يعرف العدو الأولى بتوجيه الرمية إليه من غيره، ويقول في ذلك ويوجه، لذا لم يفت الشيخ -رحمه الله- أن يتكلم في واجبات كل وقت بما لا يضيع الفرصة على الأمة للاستفادة من الأحداث التي تمر بها، لتجتمع الصفوف وتتضافر الجهود في الخير والحق، ومن تابع حلقات برنامج “الشريعة والحياة” تبين له من مقدمة كل حلقة كيف تناول الشيخ قضايا الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، وكيف تواصل بحبل الله مع مسلمي العالم في كل مكان، حتى صار عالمًا عالميًا لا داعيًا محليًا.
مناصحة الحكام ومقاومة الطغاة
دأب الشيخ القرضاوي على توجيه النصح للحكام في أكثر من مناسبة بما يمليه عليه ضميره وبما يوافق الشرع والحق، وقد حاول جاهدًا أن يجمع بين الأنظمة الحاكمة والشعوب المقهورة على ما فيه خير الدين والدنيا، ولعل ذلك يتبين لك من كتاباته وخطبه وحلقاته التلفزيونية، لكن لما استفحل الأمر وطغت الأنظمة وقتلت الشعوب بدم بارد للبقاء على سلطتها ومصالحها دون مصالح العباد ثارت ثورته ضدهم، وشهد كل العالم ثورة الرجل في الوقت الذي تخفّى فيه غيره عن ساحة الأمة المسكينة.
لم يكن الشيخ القرضاوي يداهن في مناصحة الكلام ومناصرة الشعوب مع أي من حكام الدول، ولا حتى دولة قطر التي أقام فيها سنوات عمره الطوال بعدما خرج من سجون مصر، ولعل الجميع شاهد كلمته الشهيرة لما سأله المقدم ماذا تقول في القاعدة الأمريكية في قطر، وموقفها من دولة الاحتلال الإسرائيلي، كيف أن الرجل ثار وأنكر وقال بوضوح أنه لا يداهن في الحق، وقال على منبره يوم استضافت الدولة مسؤولًا من دولة الاحتلال: “وجب على كل من صافحه أن يغسل يده سبعًا إحداهن بالتراب بداية من الأمير”. وعلى هذا النهج مضى حتى لقي الله ثائرا محتسبا أجره عند ربه.
تعليقات علي هذا المقال