مع رحيل الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله عن عالَمنا، فقدنا شخصية عزَّ أن تجد لها مثيلًا في نطاق الإسلام المعاصر، حيث جمع الشيخ بين المعرفة الغزيرة للعالِم الفذّ والروح الوثّابة للناشط السياسي الدؤوب، وعلى مدى العقود الأخيرة كان الشيخ أكثر نشطاء الإسلام تبحُّرا وثراء في العلم، وأكثر علماء الإسلام حركية ودأبًا، لذلك كان من المنطقي أن نولي هذا الاهتمام الخاص لما يمكن أن نصفه بـ “الفقه الحركي في الإسلام” الذي كان القرضاوي من أبرز رواده.
وأنا هنا أستخدم كلمة “الفقه” بمعناها اللغوي الأصيل وهو “الفهم العميق” أو “الفطنة”، حيث لا ينبغي بالضرورة فهمه في إطار الارتباط بالأحكام الفقهية، على الرغم من أنه قد يكون هناك بعض التداخل، لأن احتياجات الحركة الإسلامية المعاصرة قد تستدعى إنشاء اجتهادات جديدة في مجال الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة، فما هي إذن مساهمة الشيخ القرضاوي في الفقه الحركي؟ وعلى الرغم من أن هذا السؤال قد يتطلب دراسة خاصة به لسبر أغواره، إلا أنني أريد أن أغتنم الفرصة هنا لمحاولة استكشاف مجالا واحدا محددا أسهم فيه الشيخ، حتى لو لم يكن متفردًا في هذا المنحى بين معاصريه، وهو تقديم تصور إسلامي عن الديمقراطية.
محاولة التوفيق بين الإسلام والديموقراطية
حاول الشيخ القرضاوي تقديم تأصيل شرعي لمفهوم الديمقراطية في فتوى شهيرة، تم نشرها قبل حوالي ثلاثين عامًا[1]، وقد اعتمد في ذلك على القرآن والسنة، ليؤكد حينها أن استخدام الديمقراطية كوسيلة لتنظيم المجتمع الإسلامي لا يتناقض مع جوهر الإسلام أو الشريعة، شريطة أن يتم فهمها بالشكل الصحيح، ومن أجل إيضاح هذا الموقف، أضاف الشيخ شرطًا هامًا لذلك، وهو أنه: كقاعدة عامة، لا يمكن أن يُسمح للديمقراطية في المجتمع الإسلامي بتمرير قرار أو سياسة أو قانون يخالف الشريعة، إذ لا يمكن للتصويت الشعبي أن يحلِّل حراماً، أو يحرِّم حلالاً أجمعت عليه الأمة، على حد قول الشيخ.
ولكن بعض النقاد، وخاصة في الغرب، احتجوا بأن هذا التناول يُعد بمثابة استهزاء بالديمقراطية، حيث تساءلوا عن جدوى الديمقراطية إذا لم تكن هناك حرية في اختيار عدم التقيد بضوابط الشريعة؟ في الحقيقة، ما لم يدركه هؤلاء النقاد هو أنه حتى الديمقراطية في الغرب تخضع لقيود، وسواء أسميناها ديمقراطية “ليبرالية” أو نسبناها لبلد معين، مثل أن نقول الديمقراطية “الأمريكية”، فهناك دائماً قيود مفاهيمية أو وطنية أو دستورية تخضع لها الديمقراطية في الغرب، وللدلالة على ذلك، ربما تكون الحالة الأكثر وضوحًا في الغرب في هذا الصدد، هي التأكيد على أنه لا يمكن أن تُترك الديمقراطية دون قيود، في حالات معينة، مثل اختيار الأغلبية في البلاد اضطهاد أقلية ما أو إبادتها، على غرار ما حدث في ألمانيا النازية في الأربعينيات، علمًا بأن الديمقراطية بالأساس لا تنطوي على أي قيود من هذا القبيل، حيث تُعتبر هذه القيود، على الرغم من أهميتها البالغة، دخيلة على مفهوم الديمقراطية، الذي يؤكد ببساطة أن للأغلبية الحق في أن تفرض رأيها في إطار عملية جماعية لصنع القرار، كما أن النازيين، بهذا المفهوم، لم ينتهكوا الديمقراطية عندما شرعوا في إبادة الشعب اليهودي.
لقد كانت الديمقراطية الليبرالية في الغرب هي التي وضعت قيودًا أخلاقية معينة تحظر بشكل عام الانزلاق إلى اضطهاد الأقليات في الدول الديمقراطية، وبطبيعة الحال لم تكن مثل هذه القيود تُطبق على المستوى العالمي، حيث وثَّق العلماء على نطاق واسع أن القتل الممنهج للملايين على يد القوى الاستعمارية كان مدفوعًا في كثير من الأحيان بأجندة ليبرالية، مع تبرير ذلك بأنه من باب الضرورات التي تستدعي قيام الأوروبيين الليبراليين بفرض “التحضُّر” على تلك الشعوب البربرية خارج نطاق أوروبا[2]، بل يمكن القول إن الحروب الأخيرة التي شنَّها الغرب في الشرق الأوسط -مثل الحرب على العراق- هي في الحقيقة النسخة الحديثة من “مهام فرْض التحضُّر” على هذه الشعوب والتي تضطلع بها الديمقراطيات الليبرالية، ومن الواضح من هذه الأمثلة أن محاولات الليبرالية لتقييد مثل تلك الدوافع تخضع هي نفسها لقيود وعراقيل صارمة، وبناء على ما تقدم، فإن علينا إدراك أن الديمقراطية ليست تلك الفضيلة غير المشروطة، وهي الحقيقة التي اعترف بها القرضاوي دون مجاملة حينما وصفها بأنها “آلية صحيحة في الجملة، وإن لم تَخْل من عيوب”[3].
دول علمانية وقيم مقدسة
أما المثال الثاني الذي يمكن طرحه هنا فيأتي من دولة ديمقراطية ذات دستور، في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا تستطيع أغلبية ديمقراطية بسيطة أساسًا أن تتجاوز حق أو التزام منصوص عليه في الدستور، وهذا هو أحد الأسباب في صعوبة جعل القوانين الأمريكية المتعلقة بحق حيازة الأسلحة تتوافق مع مثيلاتها في العالم المتحضّر، لذلك؛ سواء كان الأمر يعود إلى “الليبرالية” أو إلى “دستور” ما لدولة معينة، فإن الديمقراطية في الغرب عمومًا مقيَّدة بشدة من بعض “القيم المقدسة” أو “النصوص المقدسة”، ولكن لا يمكن وصف تلك القيم أو النصوص في هذه المجتمعات، في العادة، بأنها “مقدسة”؛ فهي ترى أنها مجتمعات علمانية، ولذلك فهي تنظر للدين على أنه “رجعية”، خاصة عندما يتدخل في شؤون السياسة.
ومن المفارقات في هذا الأمر؛ أن هذه المجتمعات الغربية غالبا ما تكون غير مدركة أنها تتصرف -هي نفسها- بنفس الشكل تقريبا الذي تتصرف به تلك المجتمعات الدينية التي يحتقرونها، وذلك يرجع إلى أن المجتمعات العلمانية هي نفسها في الحقيقة مقيدة ببعض “القيم المقدسة” التي تعتبرها غير قابلة للتجاوز، وفي المجتمعات الليبرالية أيضا، هناك قيم مثل الحرية والمساواة والفردية وحرية التعبير، وما شابهها، والتي غالبا ما تكون كذلك مقيدة “بنصوص مقدسة”، مثل الوثائق الدستورية والسوابق القانونية، وما إلى ذلك، نعم؛ يمكن وصف هذه القيم بأنها “من وضع الإنسان”، لكن هذه الحقيقة، في غالب الأمر، لا تقلل من حقيقة أنها غير قابلة للتجاوز في إطار النظام القانوني للدولة العلمانية، كما يتضح ذلك من قضية الحق في حيازة السلاح، الذي ينص عليه الدستور الأمريكي.
وهذا أحد تلك الأسباب التي تجعل انتقاد الشيخ القرضاوي في تقييد الديمقراطية في العالم الإسلامي بالاستناد على القيم والنصوص المقدسة، دليلًا على المعايير المزدوجة لدى هؤلاء، ويمكننا القول: إن هذا الأمر لا يرتكز أبدًا على مبررات منطقية، ولكنه قائم في الأساس على رغبة العلمانيين في تجاوز القيم الإسلامية باسم القيم الليبرالية أو غيرها من القيم العلمانية، وهو ما يُعتبر ضربًا من ضروب الأنماط الاستعمارية القديمة المستمرة حتى اليوم.
الحرية مفتاح الوصول لديموقراطية إسلامية
لقد كان تنظير القرضاوي في مجال الديمقراطية لا يزال في بداياته المبكرة، ولذلك فإنه يمكن القول بأن انتقادات بعض العلماء الغربيين لهذا الأمر تبدو في غير محلها، لقد تطورت النظرية الديمقراطية بشكل منهجي في الغرب في مجتمعات كانت تتوفر فيها الحرية بما يكفي لممارسة شكل ما من أشكال تلك الديمقراطية، وقد وضع أبرز منظري الديمقراطية المعاصرين أمثال: روبرت دال، و برنارد كريك، و إيان شابيرو، على سبيل المثال، نظرياتهم في مجتمعات كان يُمارَس فيها بالفعل شكلا من أشكال الديمقراطية، كما ساعدهم أيضا في ذلك عدم إقامتهم في دول يمكن أن تقيد قدرتهم على انتقاد حكوماتهم أو حتى حكومات الدول المجاورة.
وأخيرا؛ فقد عمل هؤلاء العلماء في مؤسسات علمية تحترم مرجعيتهم وتدرك أهمية ما يسهمون به من أجل مجتمعاتهم، كما أن نخب مجتمعاتهم كانت تدرك بالفعل أن أفكار هؤلاء العلماء شكلّت الأسس الفكرية التي تم تنظيم مجتمعاتهم على أساسها، إن كل هذه الشروط ضرورية لكي يكون بالإمكان تطوير نظرية ناضجة للديمقراطية، أما في حالة القرضاوي، فلم يتحقق إلا القليل من تلك المتطلبات الواجب توفرها بالضرورة، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن إنجازات الشيخ من حيث الأفكار التي كان قادرا على تطويرها وتوريثها للجيل القادم من العلماء والناشطين، لم تخلُ أبدا من الأهمية.
وفي نفس الوقت؛ لا تُشكّل الجهود التي بذلها القرضاوي سوى البدايات، وليست بأي حال نتائج نهائية لاجتهاداته، وستكون المرحلة التالية الضرورية هي تحويل الشرق الأوسط إلى دول ديمقراطية تستطيع -من خلال الممارسة- أن تشرع في التعبير عن الشكل الذي يجب أن تكون عليه الديمقراطية الإسلامية، لقد حاول القرضاوي المساهمة في مثل هذا التحول قبيل نهاية حياته من خلال دعمه للثورات العربية، لكن جهوده في هذا الصدد لم تُكلل بالنجاح في نهاية الأمر.
لذلك؛ يجب أن تكون مساهماته في المجال السياسي من أجل الجيل القادم حافزا لنا لإدراك أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين علينا القيام به، إن جمع الشيخ ما بين طموح المُصلِح السياسي وآمال المُنظِّر السياسي، في الوقت الذي يكون فيه هو نفسه عالما مجتهدا يحظى باحترام كبير بين الناس، هو بمثابة تذكير لنا بمجموعة المواهب والخبرات اللازمة لتهيئة الظروف من أجل التغيير.
وسواء تحقق هذا التغيير في حياة المرء أم لم يتحقق، فإن رحيل القرضاوي يذكّرنا بأن الهدف في نهاية الأمر لا يتمثل فقط في نجاح جهودنا، ولكن في بذل قصارى جهدنا لإحداث التغيير الذي نريد رؤيته في هذا العالم، حيث قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: “الأعمال بالنيات”.
أسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ القرضاوي خيرا على نيته في السعي لتحقيق التغيير الديمقراطي في المنطقة، وأن نأخذ الدروس من أخطائه (المأجور عليها أجرا واحدا) في سياق الجهود المنوط بنا القيام بها في المَرَّة القادمة التي تلوح فيها مثل هذه الفرصة للإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا.
المصادر
[1] https://www.academia.edu/38175408/Yusuf_al_Qaradawi_on_Democracy
[2] https://press.princeton.edu/books/paperback/9780691127910/a-turn-to-empire
تعليقات علي هذا المقال