في حلول الأزمة المالية هيجان ينزع لفرض نفسه على البشر العاديين، فيأخذهم لحماً ويُلقيهم أشباحاً بلا هوّية، بلا مأوى، جيوبهم مُثقلة بالذكريات، وعيونهم مُسلطة على الطريق، لا يجدون مفرًا من السير إلى الأمام نحو الحُرية التي أطلقتها النوائب.
العالم هو مأواهم، والأوجه المُترهلة ترعى فيهم الحياة، ويتحول خفقان القلب إلى صوت عجلات على الطريق، ولا تنفك المصابيح أن تستحيل إلى عيون حقيقية تُرشد الضالين، وتوحد الشاحنات على الطريق مع مالكيها، وتنفلت الحياة من راحة يد الكون إلى كُرسي غير مُريح في سيارة تشعُر فيها أنك في بيتك الحقيقي.
عينٌ على الفيلم:
فيلم (Nomadland) من إخراج (كلوي تشاو ــ Chloé Zhao) ومن بطولة (فرانسيس مكدورماند ــ Frances McDormand) مُقتبس من رواية للكاتبة (جيسيكا برودر ــ Jessica Bruder) تحمل اسم ” Nomadland: Surviving America in the Twenty-First Century”.
يسير الفيلم على نهجِ أفلام كلوي السابقة، وكأنها تصنع ثُلاثية عن الجنوب الأمريكي أو ما شابه ذلك، كما في الفيلمين السابقين، تصور كلوي في مواقع طبيعية تعتمد على أقل قدر ممكن من الإضاءة الصناعية، لذلك أغلب التصوير صباحي تحت ضوء الشمس أو في (ساعة الغروب – Golden Hour) حيث تستطيع أن تلتقط أكبر عدد من (اللقطات الواسعة ــ Wide Shots) أو ما يُمكننا أن نسميه (اللقطات التأسيسية ــ Establishing shots) التي تستخدمها كلوي في أكثر من موضع؛ لتصنع فيلمًا ابن بيئته ينتمي إلى تلك القطعة من الأرض بشكل أكثر خصوصية من أفلامها الأخرى.
تلك العلاقة الثلاثية بين البيئة والرحّالة والمُشاهد، والتي رُبما يُمكننا القول أنها تسموا بالمشاهد عن أرضية القصة ذاتها وحكايات الطُرق الوعرة والرحالة المنتشرين، إلى السبب الذي يدفع تلك الحكايات أن تطفوا على الأفواه مثل الزبد، وتوفر سببًا رئيسيًا للمُشاهد لكي يرى ما يراه أولئك الناس، مُختبرًا مساحة هائلة من طبيعة الأرض الحقيقية، بقيمة جمالية تسموا فوق الخطر الذي يُمكن أن يُداهم الشخص الرّحال لدرجة أن يضيع فيه.
تلك اللقطات الواسعة والكثيفة بشكلٍ عكسي تؤسس لشعورٍ بالخطر، وتُرسِخ لخوفٍ حقيقي، بيد أنه مشحون بلذة غير مألوفة، لذة لا يعرفها سوى أشخاصٌ ضائعون بإرادتهم، يحملون أنصاف حكايا، ويتحلقون حول النار ليحكوا أقاصيص خيبات الأمل، وانحلال المُجتمع الأمريكي، وانهيار نظام أُسري مُقدس؛ في سبيل العيش على الهامش.
ليس لأن ذلك أفضل خيار مُمكن رغم ما يتمتع به الرحالة من مزايا لا تتوفر في المجتمع الصناعي، بل لأنهم لا يملكون رفاهية الاختيار في الأساس.
تدور قصة الفيلم حول (فيرن) امرأة مُسنة تفوق الستين، ظلت طوال حياتها تعيش مع زوجها فيما يُسمى (Tract housing)، وهي مجموعة من المساكن تُبنىَ على قطعة أرض كبيرة تُقسم إلى أجزاء صغيرة فردية، تحمل نفس الشكل والنمط بغرض توفير عدد أكبر من المساكن، وبهدف التنمية السكنية والصناعية.
تضطرب حياة فيرن بعد انكباب الأزمات المالية على البلاد بما لا يسمح باستمرار فرع الشركة التي تعمل فيها مع زوجها، الذي يموت متأثرًا بالمرض، والتي حسب ما شاهدنا توفر لها المسكن.
تُغلق الشركة تمامًا لذا لا يوجد سبيل للمكوث في المنزل، انهار كُل شيء مع انهيار القيمة الصناعية والإنتاجية للمكان، الأزمة الاقتصادية كانت مُمثلة لانهيار أخلاقي واجتماعي تام، أضحت الحياة ماديّة أكثر من اللازم، ومع الانقلاب القاسي في الحالة الاقتصادية كان على بعض البشر أن يقعوا ضحايا للمُجتمع الذي ساهموا في بنائه لسنوات طويلة، تلك النزعة في التغير دفعت البعض للبحث عن مُجتمع آخر بقيمٍ جديدة، بحيث لم يسمحوا للمادة أن تنتزع عنهم إنسانيتهم.
تلجأ فيرن مثل الكثيرين غيرها بما يُسمى (Nomads)، أو حياة الرحَّالة، حيث تشترى شاحنة وتصنع لها مأوى داخلها بما يوفر لها الحياة والمسكن، لتتحول حياتها بما يُشبه اللاجئين الآن، حياة دون مأوى، صديقك الوحيد هي العجلات، ومصابيح الإنارة الأمامي، ولافتات الطريق الذي بطبيعته غير آمن في كُل وقت.
أنا لست مشردًا.. أنا بلا مأوى:
تحاول فيرن أن تجد عملًا لتوفِرَ المال، لذا تُرغَم على العمل فيما هو متاح، فتتنقل بين عملٍ وآخر، بيد أنه بمرور الوقت نجد أن فيرن لا تود الاستقرار، وهو ما يظهر في رفضها عدة عروض من أصدقائها لتستقر في منزل، وتستريح على سرير وثير.
من خلال ذلك تُحجِم فيرن عن الراحة وتشتهي الهجر والارتحال، تشعُر بروحها تحوم في الخلاء، وتنتمي للفضاء الواسع المجهول، ترضخ للكُلي مُمثلًا في الطبيعة، وتُجانب الجُزئي المحتوم بالزوال في صورة المجتمعات الصناعية، تلتمس الاستقرار في جسدِ الشاحنة مُشعلةً النار في أحد البقاع الخالية، وجالسة تتلمس الذكريات في الصور، كأنها فقدت القدرة على خلق ذكرياتٍ وحاضرٍ جديد بموت زوجها.
تتشبع فيرن بثقافة البدو والرَحَّالة، حيث تحاول الفرار من الوحدة بحضور ما يُسمى اجتماعات أو لقاءات وديّة بين رحّالة آخرين، لتكتشف أنها ليست وحيدة، تتعرف لأكثر من شخص وتدخل في حكايات فرعية منقوعة في مسحوق حُزن هائل، كُل شخص من هؤلاء مكسور من داخله ليس لكونهم رحالة، إنهم يُحبون ذلك، بل بسبب الوحدة والفقد، التقاعس والتقهقر في أخذ قرار الانطلاق، الانحلال والتشتت في داخل المُجتمع الأمريكي، الرأسمالية الصناعية التي لا تسمح بتكوين علاقات وطيدة بين البشر.
مرثية أمريكا المنسية:
هُنا يبدأ الحكي بالصورة بشكل عام، اللقطات التي تُظهر الطبيعة كجاذب حقيقي لفيرن، يصل هذا الانجذاب لدرجة التوحد مع الطبيعة في بعض المشاهد، حاولت كلوي أن تحتفظ بأسلوبها الخاص في الحكي، وتطوعه لسرد تلك الحكاية التي تميزت بحبكة مُختلفة.
الحبكة بعيدة تمامًا عن النمطية في الحكي، بحيث لا يوجد بداية حقيقية أو نهاية مفهومة للنص أو حتى ذروة تفاعلية، هي خلق علاقة إنسانية بين الجماد/الشاحنات وبين البشر، وعلى نفس المنوال صُنع علاقة تجمع بين الطبيعة والبشر، وأنا أقصد هُنا محاولة “أنسنة ما هو غير إنساني”، وذلك عبر إعمال الكاميرا بطريقة توضح بغية القصة.
استخدمت كلوي اللقطات الواسعة في وصف الطبيعة، وترك تأثير مُهم على المُشاهد، وتصدير مفهوم واضح للعلاقة بين الطبيعة والإنسان، فأظهرت اللقطات الواسعة فيرن كشيء عارض في رحابة الطبيعة كشيء غير مُهم، ليست الطبيعة فقط بل العالم بأسره تعاطى مع فيرن كشيء ثانوي.
سنجد بعض اللقطات التي تؤكد تلك الفكرة عند مُشاهدة الفيلم، مثلًا لقطة فيرن وهي تقف أمام مُجسم الديناصور لتبدو ضئيلة وغير مُهمة، مُقارنة بأصالة الطبيعة التي هزمت الديناصورات.
في مشهد آخر، تقف فيرن فيما يُشبه الغابة بين أشجار “السيكويا العملاقة” وهي أضخم الأشجار على وجه الأرض، فضلًا عن عُمرها الطويل الذي يُمكن أن يزيد عن ثلاثة آلاف عام، تتلمس متن الشجرة كأن المُخرج يعقد مُقارنة بين الإنسان والشجرة.
الكثير من اللقطات الأخرى التي تقف فيها فيرن كأنها نقطة لا تُقارن بفوران الطبيعة، بيد أن لتلك اللقطات أثر عكسي أيضاً، يُمكننا رؤيته مع إصرار فيرن على الترحال والتضحية بكُل شيء من أجل الطيران على العجلات، وهذا يُعطي تلميحًا بانبساط الأرض ورحابة العيش في الخلاء، وكأن الإنسان لم يُخلَق لكي يستقر ويلتئم مع مكان واحد بل جُبِل ليطوف جنبات الأرض.
وكل هذا الإصرار على تهميش الإنسان المهجور من قِبَل المؤسسات الرأسمالية والطبيعة، يومض بإشكالية الإنسان المُتمركز حول ذاته، ويُلمّح أن العالم ينفلت من بين يد الإنسان لينتقل إلى الأنظمة ككيانات حاكمة لميثاق الحياة والشبكات الاجتماعية، فقط الطبيعة هي التي ستحتضنك حتى تتلاشى داخلها.
ليس مجرد فيلم:
حاولت المُخرِجة كلوي أن تؤسس لحياة رحّالة أصيلة، عالم مُتكامل، بمناخ مُغلق على ذاته، بيد أنه فضفاض ليس لهُ آخر، يُعانون جميعًا من نفس الظروف، وينتمون لنفس البيئة، ويحملون نفس الروح العجوز.
أغلبهم ــ الممثلون الذين شاركوا في الفيلم ــ رحّالة أصليون، مما أعطى الفيلم انطباعًا تسجيليًا بجانب وجود الممثلة المُهمة والشجاعة (ماكدورماند)، التي انطلقت في رحلة مُدتها أربعة أشهر كاملة على عجلات بين عدة ولايات لتصوير الفيلم، وتجريب هذا النمط من الحياة التي تُمثله، مما جعلها تقترب بل تتوحد مع الدور، وتنسلخ عن كونها ابنة لمجتمعات صناعية، وتختزل كينونتها في عربة.
يُمكننا تصنيف الفيلم كفيلم دراسة حالة يقوم على شخص واحد، ويصنع قصته من خلال خلفيته التاريخية، ويقتبس حبكته من الحوادث والوقائع الطفيفة التي تحدث يوميًا، بجانب الأقاصيص الفرعية التي تصطدم بها البطلة.
لذلك فإن الفيلم يحمل خصوصية كبيرة لبطلته وثقافته التي تغرق فيها حد الأذنين، مُقدسًا لليوميّ، ومؤرخًا لحيوات بشر اختاروا الحياة على هامش المجتمعات الصناعية، والولوج في الطبيعة التي تنهب منهم وتعطيهم في الوقت ذاته.
وفي نفس الوقت تحمل فيرن في داخلها علامات استقلالية تامة وفردانية صرف، بجانب أمارات انهيار المجتمع الأمريكي، أو الحُلم الأمريكي المُثير للضحك، ذلك النمط الذي يتم الترويج له بشكل يوميّ منذ أواخر القرن السابق، والبخس من قيمة الفرد في ذاته بالنسبة للحكومة، أو دوره في المجتمع بشكل عام.
في نهاية الأمر؛ الفيلم يحمل في داخله لذة وحلاوة البقاء على قيد الحياة، المثابرة لحفظ أكبر قدر من الذكريات، وتقديس اليومي، لذلك يعتبر مرثية حقيقية لأساليب حياة طارئة، وجماعات أوشكت على الانقراض تحت أنقاض الشركات الكُبرى.
كما حدث هُنا، أغلقت مدينة كاملة لأن الشركة أفلست، نمط الحياة المُرتبط بالصناعة يجعل الشخص مُجرد أداة تحتكرها الصناعة لا يتوفر له الكثير من الخيارات للعيش كما يُريد.
الجدير بالذكر أن الفيلم رُشِحَ لأربع جوائز (غولدن غلوب) وفاز بجائزتين، بجانب فوزه بجائزة (الأسد الذهبي) في مهرجان البندقية السينمائي، بالإضافة لفوزه بأوسكار أفضل فيلم، وأفضل ممثلة، وأفضل مُخرِج.
تعليقات علي هذا المقال