يتذكر المصريون جيدًا تلك الفترة، ويسمونها الجيل الذهبي، حين حازت مصر كأس الأمم الإفريقية ثلاث مرات على التوالي، وهزمت إيطاليا بطل كأس العالم في كأس القارات، ولعبت مباراتها التاريخية أمام البرازيل، واحتل منتخب مصر في تصنيف الفيفا المركز التاسع عالميا، محققا أفضل إنجاز لمنتخب عربي أو إفريقي في ذلك التصنيف.
أسهمت هذه الإنجازات في دخول الفكر الاستثماري إلى عالم كرة القدم المصرية، على سبيل المثال؛ سعر حقوق بث الدوري المصري الممتاز قبل عام 2007 كان يبلغ 1.5 مليون جنيه، في حين بلغ عام 2012 ما يقارب 160 مليون جنيها قبل أن ترتفع لتبلغ في عام 2021 نحو 250 مليون جنيها، مع حق الأندية في تسويق مبارياتها بشكل مستقل، وبالتالي زاد الإنفاق على رواتب اللاعبين التي وصلت إلى أسعار قياسية لم نكن نعرفها قبل خمسة عشر عاما، وبصعود نجم محمد صلاح كمثال، أصبح احتراف كرة القدم وسيلة أسهل للارتقاء الطبقي وتحقيق الحلم في مصر، إذا جرى مقارنته مع التعليم وسوق العمل التقليدي.
الاستثمار في أحلام البسطاء
الكشاف، هو الوضع الطبيعي لكرة القدم منذ القدم، يُكلف النادي شخصًا يكون ذلك مسماه الوظيفي، ويطوف في أنحاء الجمهورية، وفي دورات المدارس، وبطولات مراكز الشباب المحلية، والدورات الرمضانية الأهلية ذات النطاق المحدود، ليكتشف ذوي الموهبة ويستدعيهم لفترة معايشة في النادي، إما أن يجتازوها، أو يتم رفضهم بعدها، وبتلك الطريقة عرفت الكرة المصرية أهم مواهبها دائما وأبدا.
الآن، ومن أجل أن تصبح لاعب كرة قدم، عليك أن تذهب أنت بنفسك إلى اختبارات الأندية، وهنا، تبدأ صفحة أخرى من صفحات الدفع من أجل اللعب.
تبلغ أسعار استمارة اختبارات النادي الأهلي مثلا عشرة جنيهات، فضلًا عن بيعها في السوق السوداء بمبلغ مائة جنيه، بينما تبلغ قيمة استمارة غريمه التقليدي نادي الزمالك 60 جنيها، أما نادي المقاولون العرب الذي أخرج محمد صلاح تبلغ استمارة اختباراته عشرين جنيه.
يتقدم لاختبارات تلك الأندية عشرات الآلاف من الأطفال، أي إن تلك الأندية تحقق ربح مليوني مضمون من خلال شراء الاستمارة فقط، والتي يشتريها الأب من أجل أن يلعب ابنه في تقسيمة 15 دقيقة على الأكثر، إن لمس فيها الكرة من الأساس.
باجتياز مرحلة الاختبارات، تبدأ رحلة أخرى من الدفع، فبعد أن يُقبل ثلاثة أو أربعة لاعبين من بين آلاف المتقدمين، يتوجب عليهم الدفع من أجل الاستمرار، فكثير من الأندية تجعل لفرق الناشئين ميزانية مستقلة تعتمد على نفسها من خلال دفع اللاعبين مبالغ تتراوح بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف جنيها، وهذه مفارقة، لأنك حينما تلعب كرة القدم يكون طموحك أن تكسب المال لا أن تخسره.
الرياضة أم الخبز؟
منذ عام 2017 قامت وزارة الشباب والرياضة بحملة نشيطة لتطوير وتحديث مراكز الشباب في المناطق المحلية المختلفة، والتي تمثل شريان ومتنفس حيوي لأبناء الطبقات الدنيا في المجتمع.
قامت تلك الحملة بإعادة تجهيز المراكز بصالات جيمانزيوم ومكتبات وملاعب تراعي تنوع الأنشطة والألعاب، وحاولت أن تتخلى عن مركزية كرة القدم بالنسبة لأي مركز شباب، غير أن رفعت سعر الاشتراك الشهري في المقابل.
حينما كنت في المدرسة الابتدائية، كنت عضوًا في مركز شباب الحبانية، وملتحقا بمدرسة كرة القدم، كان يدفع لي أبي 15 جنيها كل شهر، في الفترة ما بين 2008 حتى 2010، لم يكن ذلك المبلغ كبيرا وقتها، ويمكن دفعه إلى جانب مصاريف الدراسة ومتطلبات الحياة اليومية للمنزل.
الآن؛ حين نتحدث عن مراكز شباب في ذلك المستوى في تلك الأحياء المتوسطة، تبدأ أسعار الاشتراك الشهري من 500 جنيه، علما أن الحد الأدنى للأجور في 2010 كان يبلغ 400 جنيه، وفي عام 2023 وصل إلى 2700 جنيها.
أي أن اشتراك مركز شباب في حي للطبقة المتوسطة في عام 2010 كان يبلغ ما نسبته 3% من الحد الأدنى للأجور، مقارنة ببلوغه نسبة 15% عام 2022.
ما معناه زيادة تقارب أربعة أضعاف من الراتب الشهري، علما أن سكان منطقة مثل الدرب الأحمر يُدرجون في الاقتصاد غير المنظم، أي أن هناك من لا يحصل منهم على الحد الأدنى للأجور من الأساس.
تلك الزيادة بشأنها أن تؤثر على عملية صقل المواهب التي كانت تبدأ مسيرتها من الاشتراك في المركز المحلي التابع لمنطقة سكنها، ثم تتدرج خطوة تلو الأخرى في المسيرة الاحترافية.
أكاديميات الكرة: قصص الاحتيال المنظم
في مجال اختبار المواهب واكتشافها، دخلت الشركات الاستثمارية الكبرى، فإلى جانب “سيتي كلوب” نجد شركة “زد” لمالكها نجيب ساويرس، التي أنشئت ناديا يحمل نفس الاسم، صعد حديثا للدوري الممتاز، كما أنشأت مؤسسة مستقلة تدعى “زد تالنتس” أعلنت أن غرضها اكتشاف المواهب في ربوع مصر، وصقلها من خلال الاعتماد على أسماء نجوم سابقين مثل عماد متعب وأحمد حسن.
تتبع “زد تالنتس” بحسب صفحتها الرسمية نظاما جديدا من خلال بيع دقائق اللعب لاختبار الناشئ، فتجد باقة اختبار على الأرض لمرة واحدة تكلفتها مائة جنيه، أما إذا أردت 6 اختبارات يكون عليك دفع 480 جنيها.
إن استطعت دفع تلك المبالغ، فتلك ليست النهاية، إذ يمكنك إلقاء نظرة على تعليقات الأهالي في الصفحة الرسمية للمؤسسة، لتكتشف أن هناك عملية احتيال منظم.
إذ يشتكي الأهالي من أنهم يتلقون رسالة مباركة آلية بأن أبناءهم اجتازوا المرحلة الأولى وسيكونون في اختبارات المرحلة الثانية، ثم لا يرسل لهم أحد أي شئ بعد ذلك، كما تفشل جميع محاولاتهم استرداد أموالهم التي دفعوها.
كابيتانو مصر: السيسي وألف محمد صلاح
“عايزين ألف محترف زي محمد صلاح”
عبد الفتاح السيسي
كانت تلك كلمات السيسي، التي استجابت لها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية بأن تُطلق مشروع “كابيتانو مصر” الذي يهدف لرعاية المواهب الكروية في مصر.
سياسة البرنامج المعلنة، هي أن الاختبارات يؤديها الأطفال بداية من مواليد 2008 وتكون على مستوى الجمهورية وتركز على المحافظات المهمشة، والأهم في كل ذلك أنها مجانية وخالية من الواسطة.
انطلق البرنامج مع بدايات عام 2023 مطلقا كثيرا من الوعود كالعادة، التي ستكون الأيام كفيلة بكشف حقيقتها، لا سيما مع بروز مخاوف حول كون المشروع مجرد برنامج رياضي غرضه الربح، خاصة أن المشرفين عليه هما شركة “ستادات” المالكة لسلسلة سيتي كلوب، وشركة “برزنتيشن” التي تحتكر البث الإعلامي للرياضة المصرية.
كان ياما كان: دورة رمضانية
لا يُذكر لعب الكرة في الشوارع في مصر إلا وتحضر في الأذهان قبل أي شيء الدورة الرمضانية، والتي كانت مكانًا يجتمع فيه الكشافون لاصطياد المواهب الكروية في أنحاء الجمهورية، والأمثلة عديدة على النجوم الذين اكتشفوا في لعب الدورات الرمضانية، أبرزهم النجم أحمد الكاس لاعب الزمالك والأولمبي والمنتخب المصري السابق.
لا يمكن على التعيين أن نكتشف متى بدأت الدورة الرمضانية في مصر، ولكن يمكن نظرًا للتاريخ الشفهي أن نحدد أنها قديمة جدًا، وأبرز تاريخ نعرفه هي “دوري الفلكي” في مدينة الإسكندرية والتي تأسست عام 1976 على يد شخص يدعى السيد الفلكي، وذاع صيتها حتى أن نجوما من أمثال حمادة إمام القائد التاريخي لنادي الزمالك وأحمد الكأس ظلوا أوفياء للاشتراك فيها لفترة طويلة.
لكل منطقة كبرى في مصر “فلكها” الخاص وبطولتها الكبرى، والتي تنتظم في شوارع الحي بالجهود الذاتية، حيث تجمع فرق الدورة الأموال بينهم، ويشترون بها التجهيزات اللازمة، والجوائز التي يضعونها نصب أعينهم في النهاية.
في منطقتنا كمثال، كانت تنظم دورتين كبيرتين على مستوى القاهرة، دورة ساحة السلطان حسن التي كانت تقام في المساحة المفتوحة بين جامع السلطان حسن في حي القلعة وجامع الرفاعي، ودورة قصر عابدين التي كانت تقام في المساحة الخضراء الشاسعة أمام قصر عابدين الرئاسي الأثري.
لكن وبسبب تطوير ذلك المكان الأثري وجعله متحفا مفتوحا تم التعدي على حق الأهالي في الفضاء العام، وكأن الدورة الرمضانية ليست جزءًا من فولكلور الأهالي الذي يُكمل الصورة التاريخية لمنطقة الدرب الأحمر وعابدين.
ربما ما تعرضت له الدورتان في السنوات الأخيرة يدلل على شيء تتعرض له الدورات الرمضانية ما يسبب اندثارها، وقد تعرضت دورات أخرى كانت تقام في الشوارع إلى الإيقاف بسبب منع الشرطة أي تجمهر ولو كان للعب الكرة في الأحياء الشعبية.
استغلت شركات الاستثمار الكبرى ورؤساء مراكز الشباب الصغرى، مفهوم الدورة الرمضانية استغلالا جيدا بعد تجريفها من الشوارع، فجعلتها امتدادا لكل ما هو غير مجاني.
مثلا؛ في الدورة الرمضانية لعام 2022 بمركز شباب الحبانية، بلغت رسوم اشتراك الفريق 1000 جنيه، كما نظمت الشركة الاستثمارية الكبرى في الرياضة المصرية “سيتي كلوب” دورتها الرمضانية لأعضائها على مستوى الجمهورية بقيمة ألف جنيه أيضا، ولغير الأعضاء بقيمة 2500 جنيه.
بهذه الطريقة، تحولت الدورات الرمضانية من المساهمة الرمزية لأهالي الحي إلى بطولة تستوجب رسم اشتراك غالي الثمن، ما أدرى لتراجع شعبيتها إلى حد كبير.
كشافو بيبسي والدرس المغربي
في عام 2003، وبينما كان يتم إحلال وسيلة الاختبارات بدلا من الكشافين، انطلقت دورة بيبسي لاكتشاف المواهب في المدارس، تلك الدورة التي حرصت على تقديم صورة ذهنية لشركة بيبسي ودورها التنموي في المجتمع المصري.
بموجب تلك الشراكة بين بيبسي ووزارة التربية والتعليم، نظمت دورات بيبسي حتى الظهور الأخير لها عام 2018 واشترك فيها أكثر من مليون طالب موزعين على 5500 مدرسة في أنحاء الجمهورية.
قدمت شركة بيبسي للكرة المصرية، ما لم تقدمه خطة مدروسة وضعتها وزارة الشباب والرياضة واتحاد الكرة على مدار سنوات طويلة، فقد استطاعت بيبسي منذ اللحظة الأولى لدورتها أن تقوم بدعاية جيدة للدورة على مدار سنواتها.
استفادت الكرة المصرية من مشروع بيبسي كثيرا، حيث ضم جيل منتخب مصر الذي بلغ مونديال روسيا 2018 محققًا الحلم التاريخي للمصريين لاعبو دورات بيبسي، من أمثال: محمد صلاح وأحمد الشناوي وأحمد حجازي والنني وتريزيجيه ورمضان صبحي.
كما ينشط لاعبون آخرون في الدوري المصري من خريجي دورات بيبسي، مثل: حسام عرفات، وحسام حسن مهاجم نادي سموحة، وإبراهيم حسن لاعب نادي الإتحاد السكندري.
وتوج مشروع بيبسي بصعود فريق النجوم للدوري المصري الممتاز عام 2018 والذي تشكل غالبية لاعبيه من خريجي دورات بيبسي للمدارس.
كان مشروع بيبسي، إلى جانب مشروع كوكاكولا الذي لم يحقق نجاحات بنفس القدر، هو آخر آمال الموهوبين لأن تتاح لهم فرصة الولوج لعالم كرة القدم دون العقبات المادية التي يتطلبها لعب الكرة في مصر الآن.
وانتهى ذلك المشروع بخلاف بين وزارة التربية والتعليم وشركة بيبسي وصل إلى النيابة العامة حيث اتهمت الوزارة شركة بيبسي بأنها لم تؤد الدور المطلوب في دعم الرياضة المصرية وصقل مواهبها.
في نفس السياق؛ تبرز أكاديمية محمد السادس كمثال على التخطيط المدروس والإنصاف للمواهب، في دولة لا يختلف وضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي كثيرًا عن مصر.
منتخب المغرب الذي كسر سقف الطموح لما يمكن أن يفعله منتخب عربي في كأس العالم بعد وصوله إلى نصف نهائي مونديال قطر، كان حصادا لثمار وضعتها أكاديمية محمد السادس بعد الغياب المتكرر للمغرب عن المناسبات الكبرى ومنصات التتويج.
تلك الأكاديمية التي أنشئت عام 2007 لتكون مسئولة عن رعاية موهبة 60 طالبا رعاية شاملة بتكلفة وصلت إلى 16 مليون دولار، وهو رقم زهيد مقارنة باستثمارات الكرة المصرية، وأخرجت ثلاثة لاعبين من نجوم جيل المغرب في مونديال 2022، هم يوسف النصيري هداف المنتخب، ونايف أكرد مدافع ويستهام الإنجليزي، وعز الدين أوناحي المحترف بالدوري الفرنسي، ولا يزال المشروع مستمرا.
تعليقات علي هذا المقال