يعتبر الطعام عنصرا أساسيا في حياتنا كضرورة أساسية للبقاء، وإحدى أهم الممارسات اليومية والاستثنائية، كما أنه يرتبط باستقلالية الشخص وتواصله مع جسده، بما في ذلك إنتاج غذائه بنفسه أو على الأقل قدرته على اختيار ماذا سيأكل ومن سيشاركه الطعام.
فالطعام وتناوله يشكلان ثنائيا يشبه تماما الكلمات ونطقها لا ينفكّان، ونوع المأكول يعبر بصورة مباشرة عن صحة متلقيه، حيث يساعد الإنسان على البقاء قويا، أو يضعف الجسد فيعاني الأمراض التي سميت بالأمراض غير المعدية مثل السكري وقرحة المعدة والضغط وهشاشة العظام وغيرها.
في السجون من يطهو الطعام ينسى أن من هم معتقلون ما زالوا بشرا، ولأن الصراع بين الحرية والسلطة هو أحد الصفات الأكثر وضوحا في أجزاء التاريخ المألوفة منذ القدم، فتحرّم حرية ممارسة حق الطعام الجيد على السجين بعد تألمه من الفقد والظلم، أضف إلى ذلك خسارته لصحته بسبب أساليب الطعام السيئة المفروضة عليه.
سوسيولوجيا العقاب ومفهوم الجسد المسجون
يميل مفهوم الجسد المسجون إلى أن يُنظر إليه بشكل أساسي على أنه موضوع للسلطة العقابية، إنها يوتوبيات القرن الماضي المتمثلة في أن الغاية من وراء العقاب هي الإصلاح، ولكنها أفكار لم تعط نتيجة في الواقع.
ومع ازدياد المؤسسات السجنية والظهور الملحوظ في صناعة العقاب والتفنن في أنواعه، فإن السلطة أصبحت اليوم مجردة من الثياب، حيث كشفت الأبحاث أن مهمة السجن هي الثأر والعقاب والجزاء، وأن هذا الفضاء أصبح بؤرة للتنظيمات الإجرامية.
خلاﻝ ﺳﻨﺔ 1832، ﺣﺴﺐ ﻓﻮﻛﻮ، ﻇﻬﺮ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﺠﻦ الذي يسيطر على ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻟﻠﺴﺠﻨﺎﺀ، اﻧﻄﻼﻗا ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎﺕ ﺍلاﺳﺘﻴﻘﺎﻅ وﺍﻟﺼﻼة والعمل وﺍﻟﻐﺬﺍﺀ والنوم، ﻭﻳﻀﺒﻂ أيضا ﺣﺘﻰ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﺴﺠﻴﻦ ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ وﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ.
ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻛﺪ ﺃﻥ ﻫذا النظام تناﻭﻝ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﺭﻛﻴﺰﺓ ﻟﻠﻮﺟﻮﺩ ﺗﻤﺖ ﺍﻹﺣﺎﻃﺔ ﺑﻪ ﺑﺄﺭﺑﻊ ﺃﺳﻮﺍﺭ ﻭﺳﻂ ﻇﺮﻭﻑ ﻣﺰﺭﻳﺔ، تشمل ﺍﻟﺘﻜﺪﺲ، ﺍلاﺧﺘﻨﺎﻕ، ﺍﻟﺒﺮﺩ، ﺍﻟﺠﻮﻉ، وﺍﻟﻀﺮﺏ، ﺑﻬﺬﺍ؛ ﻓﻘﺪ ﺃﺻﺒﺢ ﺍﻟﺴﺠﻦ ﻳﺆﺧﺬ ﺿﻤﻦ ﻧﻈﺎﻡ ﻣﻦ ﺍﻹﻛﺮﺍﻫﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺤﻈﻮﺭﺍﺕ ﻭﺍﻟﺤﺮﻣﺎﻥ بما في ذلك ﺗﻘنين ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ وﺍﻟﻀﺮﺏ وﺍﻟﻌﺰﻝ وﺍﻟﺤﺮﻣﺎﻥ ﺍﻟﺠﻨﺴﻲ ﻭ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﻲ.
ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺼﺪﺩ ﻳﺴﻠﻢ ﻓﻮﻛﻮ في ﻋﻤﻠﻪ ﺍﻟﻤﺮﺍﻗﺒﺔ ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺏ، ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻃﺮﺃ ﻋﻠﻰ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺎﺕ ﻫﻮ ﺯﻭﺍﻝ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺘﻌﺬﻳﺐ ﺍﻟﻌﻠﻨﻴﺔ ﻭﺗﺤﻮﻟﻬﺎ إﻟﻰ ﺗﻌﺬﻳﺐ أكثر ﺧﻔﺎﺀ، حيث ﻳﻨﺪﺭﺝ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﺍﻟﻤﺠﺮﺩ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺘﻘﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺟﺴﺎﺩ ﺍﻟﻤﻘﻄﻌﺔ إﻟﻰ ﺃﺟﺴﺎﺩ ﻣﺴﻠﻮﺑﺔ ﻓﻜﺮيا ﻭإراديا.
أفترض أن ما أسلفته من حديث فوكو عن العقاب يبين إلى أي مدى وصلت أجهزة الدول بالبطش، فقد استخدم الطعام في السجون كوسيلة من الدولة لتحكم سلطتها بإنشاء تسلسلات هرمية بينها وبين السجين، فتفرض قوتها عليه، وتستخدمه أيضا كوسيلة خفية للتعذيب البطئ الذي يرتكز على الألم، فيصبح الطاهي ﻣﺮﺁﺓ ﺗﻌﻜﺲ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﺼﺐ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪ المحكومين.
أساسيات الطعام لدى الإنسان: خبز وملح وشمس
“يبقى المعتقل مربوطا إلى الكرسي داخل ظلام الكيس، يرفع الجندي الكيس عن الفم مرة في اليوم، ويعطون السجين كسرة خبز وماء” رواية باب الشمس لإلياس خوري
يعد استعمال الخبز رمزا متطورا، وقد اعتدنا كمجتمعات عربية بذكره في العديد من المواطن، فهو يرمز لكسب الرزق بعمل ما، وأحيانا نستبدل اسمه بالنعمة، فهو نعمة الله وأساس الغذاء، وعندما يرتبط بالملح يصبح دالا على الصداقة والمشاركة، ولكن في السجون خرج الخبز عن إطاره المعتاد، حيث لم نعتد أن يقدم كسرة من الخبز مع جرعة ماء لنبقى على قيد الحياة.
حين يصبح الإضراب عن الطعام هو وسيلة النجاة، والطريقة الوحيدة للاعتراض على تجديد الحبس الاحتياطي والتعذيب والقبض غير القانوني، يدخل الملح كرفيق لرحلة السجين ومنقذ لأمعائه، فيمنحه القوة والصبر إلى حين الوصول لحريته.
هنا ألقي الضوء على المعاني الرمزية الشهيرة والعميقة التي تحملها الشمس؛ من خلال التركيز على السجان وكيف تعامل واستفاد من أهميتها، وأيضا من خلال بعض الشهادات الأدبية التي وثقت بعض تجارب وأفكار المعتقلين في السجون السياسية، لأن السجن السياسي هو إحدى أبرز الوسائل التي تستخدمها السلطة للقمع وانتهاك الحقوق.
حرمان: الشمس غذاء أساسي وفره الخالق لجميع البشر ثم يأتي السجان ليمنح لنفسه الحق بحرمان البشر منها، ففي السجون السياسية يمنع السجين من رؤية الشمس طوال سنين اعتقاله مهما دامت، لتصبح رؤية الشمس هي المعنى المراد من الحرية.
تهديد: أخفيك وراء الشمس، عبارة مشتركة لدى جميع السجون السياسية العربية، تقال من قبل الجلاد، خصوصا في فترة التحقيق أو السجن الانفرادي، عندما يكون المعتقل معصوب العينين، ويطلب منه الإمضاء على أوراق التحقيق، فإما أن توقع أو تخفى وراء الشمس.
أداة للتعذيب: من الغريب أن أذكر الشمس كوسيلة تعذيب أساسية، كما وصف عبد المعطي تجربته في رواية باب الشمس لإلياس خوري، حيث يأتي في سرده عن تجربته في السجن على الواقع الفلسطيني المؤلم، ويسهب في وصف التعذيب في ذلك المعتقل.
“التشميسة كانت وسيلة التعذيب الأساسية يربطون يديك ورجليك، ويلقون بك تحت أشعة الشمس، فتتلوى وتتبرم وتتدحرج باحثا عن لحظة لتخفيف احتراقك، تبقى هكذا من طلوع الشمس حتى غيابها، ثم يأتي الضابط ويأمر بفك قدميك ورجليك، ويطلب منك الوقوف، فتكتشف أنك صرت عاجزًا عن أي شيء، الشمس غابت تحت جلدك، والنار تعشعش في داخلك والغروب هو اللعنة والموت”.
قوة: كانت مصدر قوة للمعتقلين الفلسطينيين، حين استعادوا شمسهم أعلنوا العصيان، هكذا ذكرت الشمس في رواية شمس الجبل لموسى الشيخ ومحمد البيروتي.
“وفي ساحة السجون، أسرى الجبال يتصدون لمخططات إذلالهم وقهرهم، يتمردون على القيد والاستعباد، يتمردون على نظام العمل المذل، وعلى إجراءات الإهانة والحرمان والتعذيب وحفلات القمع المستمرة، يستعيدون إنسانيتهم وشمسهم، ويعلنون العصيان في خطوات نضالية متواصلة، فتتحول السجون إلى مدارس وخنادق ودولة أخرى، وصوت مدوي للحرية يسطره إضراب عسقلان التاريخي، وإضراب نفحة وأرواح الشهداء والمعركة لا زالت مستمرة”.
الطعام خارج سياقه: خلق قاموس للغة السجن
تعرف الثقافة عند الأنثروبولوجيين إلى أسلوب الحياة الذي يميز مجتمعا عن غيره، ومن المؤكد أن هناك ثقافة لحياة السجن، كي تستجيب للظروف التي يعيشونها في الداخل، تكريسا لمبدأ التضامن بين السجناء، وكمثال على ذلك هنالك قاموس للغة السجن، تتعلق بالطعام ومكان النوم وغيرها.
مثلا في مصر؛ تبدأ رحلة تحرير المحضر بـالثلاجة، التي هي رمز لحجز المباحث، وهو مكان لا يوجد به فرش أو تهوية، منعزل عن العالم، ثم هنالك حجز القسم الذي يدخله “والأكل الملكي في بطنه”، تعبير عن الطعام الذي أكله آخر مرة قبل اعتقاله.
بعدها ينتقل إلى السجن، وفي العنبر يتحول السرير بمساحة شبر وقبضة إلى “نمرة”، وتستمد نورك من فتحة الباب أو “النضارة”، فهي تقوم بنفس الوظيفة حيث يعتبر السجين نفسه أعمى بدونها، ومن خلالها يطل على مساحة أوسع، يرى وجوها من عنبر آخر ويتحدث إليهم، وفي الليل تصدح بالأناشيد والأشعار والهتافات، فتصبح وسيلة للتعبير عن حرمانهم من هذه الحقوق؛ حقوق التعبير عن الأفكار والمعتقدات.
التعيين، المطبخ يأمن، الأخير يحفظ، البواقي حرام، كلها عبارات تخص الطعام وتقال كل في موضعها، وبعد ذلك عندما يحق للسجين طلب الطعام من أهله، يطلب منهم عيش وحلاوة أو شئ يدوم لوقت طويل.
سوس مسوس، أو سوس مفوّل .. عبارة ساخرة قالها الشيخ كشك، واستخدمها المعتقلون من بعده، لوصف الفول الفاسد الذي يقدم لهم، وفي النهاية تصبح أدوية ألم المعدة من قائمة احتياجات المعتقل الأساسية في السجون.
كيف لخيال السجين أن يكون منقذه؟
تستخدم السلطات المؤسسية للسجون ظروف المكان والطقوس المتعلقة بالطعام، فضلا عن الطعام بحد ذاته، لتخلق لدى السجين شعورا بالغربة بين ذاته وجسده، لأن الإنسان منغمس في محيط يتشكل مما يدركه عبر حواسه.
ولكن هذا المكان كما وصفه جورج أورويل في كتاب الطريق إلى رصيف ويغان: “المكان يسبب لي الحزن والكآبة، ليس بسبب القذارة والروائح والطعام الردئ فقط، بل بسبب الشعور بالانحطاط الراكد التافه بالهبوط إلى مكان تحت سطح الأرض”.
فيصبح السجين مجبرا على افتراض وجود آخر، يتخطى حدود مكان العنبر أو حتى السجن ككل، ليبدأ بتجربة تجاه حواسه، كي يتخطى فكرة الفضاء بمفهومه البصري، ويفتح نوافذ ذاكرته وخياله لتسكّن ألم شعوره، لأن العالم الذي يعيش فيه من خلال جسده ليس مهيئا لبشري. كما نقل الصحفي تيسير النجار تجربته لزوجته ماجدة الحوراني برسالة من عنابر الأمنيين في سجن الوثبة الإماراتي بعنوان “مخزون الأكل العاطفي .. مخزون حبك يا ماجدة”.
إذ يقول: “منذ 970 يوما أعيش على الطعام المفترض للأكل الذي كنت تصنعينه بشغف لا يقل بأهميته عن شغف حبك لي، كيف يحدث ذلك الطعام المفترض للأكل؟ أجلس كل يوم وأفكر بالأكل الذي تصنعينه، وذلك قبل أن تبدأ وجبات الأكل المكررة، ومن ثم أبدأ بتذكر كل طبق كنت تعدينه لي، وهذا ما يستدعي مني أن أعد قائمة أسبوعية لرغباتي بوجبات الطعام التي كنتِ تعدينها، واعتمَدتها مخيلتي كبرنامج مفترض لي، الطعام المفترض للأكل يشبه نوعًا ما الطعام المفترض للحب، مع الفارق الذي يحدد وفق المخزون العاطفي”.
وفي الختام؛ آلاف المعتقلين يتم القضاء عليهم بطرق تعذيب خفية، فيذوقون ألم الموت البطيء بسبب طعام السجون، فهل نسي أحدكم أن من في السجون ما زالوا بشرا، أم تراكم تتناسون؟!
تعليقات علي هذا المقال