رحل الشيخ يوسف القرضاوي، وبقي بعده -أو أبقى هو بعده- أكثر ما يُخلّد للناس في الناس ذكراهم؛ العلم، والشعر، أما العلم ففيه اتفقوا واختلفوا، وما زالوا يتفقون ويختلفون، على اختلاف المذاهب والطرق والعقول والمرجعيات، وفيه تحدث العلماء والفقهاء، والطلاب والمريدون، والجاهلون وأبواق الجاهلين، وأما الشعر، فعليه اتفق جميع هؤلاء، فلا أحد من المشركين أو المنافقين أو المؤمنين ينكر أن حسان بن ثابت كان شاعرًا بليغًا، ولا ينكر قاتل أهل الخنساء نفسه أنها كانت شاعرة مخضرمة، كما لا ينكر أصحاب الحياء والخجل أن امرؤ القيس كان شاعرًا، على جرأة لسانه، الشعر لا إنكار فيه لمحبٍّ أو مريد، أو خصم أو كاره، والإنصاف عزيز.
متلازمة الفقه والشعر
ارتبط الشعر في كثير من الأحيان بالفقه، ومن الفقهاء من نظم الشعر كأنه شاعر متفرغ لا يشغله في الدنيا غير أبياته، ومنهم من رأى انشغاله بالشعر يطغى على انشغاله بعلمه وعمله، فخشي، وتركه مجبرًا بحكم نفسه على نفسه، وليس في هذا أحد أصدق من الإمام الشافعي رحمه الله، حين قال:
وَلَولا الشِعرُ بِالعُلَماءِ يُزري ** لَكُنتُ اليَومَ أَشعَرَ مِن لَبيدِ
وللشافعي نفسه ديوان يزخر بقصائد تجري الآن على ألسنة الناس مجرى الحكَم والأمثال، وهو الذي يقول في إحدى أشهر قصائده:
سافر تجد عوضًا عمن تفارقه ** وانصب فإن لذيذ العيش في النصبِ
وهو صاحب الأبيات المعروفة:
تَموتُ الأُسدُ في الغاباتِ جوعاً ** وَلَحمُ الضَأنِ تَأكُلُهُ الكِلابُ
وَعَبـــدٌ قَد يَنــامُ عَلى حَريــــرٍ ** وَذو نَسَبٍ مَفارِشُـهُ التُرابُ
وعلاقة الشعر بالدين علاقة وطيدة، ولو كانت معقدة، وفيها نرى حسان بن ثابت، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونرى الرسول نفسه يستمع إلى أبيات كعب بن زهير “بانت سعادُ”، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث صحيح متفق عليه رواه أبو هريرة رضي الله عنه: “أشعَرُ بيتٍ قالته العربُ كلمةُ لَبيدٍ: ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطلُ، وكاد أميَّةُ بنُ أبي الصَّلتِ أنْ يُسلِمَ” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان الشعر والعلم متلازمين، صاحبين يخدم أحدهما صاحبه، لكن علاقتهما غالبًا تكون عصية على الاكتمال إلى النهاية، فيؤثران الفراق أحيانًا لتكتمل رسالة واحد منهما، ويظل الآخر ذكرى تغص الحلق وتقض المضاجع حتى آخر نفس في حياة صاحبه.
يروي الصحفي الموريتاني محمد المختار الخليل، عن لقاءٍ جمعه بالقرضاوي، طلب فيه من الشيخ أن يلقي بعضًا من شعره، ومزح معه قائلًا: أسمعنا من شعر الشعراء لا من شعر العلماء؛ فرد عليه القرضاوي ضاحكًا: إن للعلماء من الشعر ما للشعراء من العلم.
القرضاوي: صراع داخليٌّ مبكر
حين تسمع شعر القرضاوي، وجمعه بين اللفظ السهل والمعنى العميق، تتلذذ بانسيابية تدفق الأبيات إلى أذنيك، فيهبط منها ما يهبط إلى القلب، ويصعد منها ما يصعد إلى العقل، ويتسرب بعضها فيحرك الجوارح، لقلتَ والله لولا أن الذي شغل القرضاوي عن شعره كان علوم الدين، لرجوت أن لم يكن شغله في حياته عن الأوزان والقوافي والعَروض والقصائد شاغل، إلا صلاته وعملٌ يأكل منه رزقًا حلالًا، ولا شيء آخر إلا ديوان بعد ديوان.
وفي ذلك يقول القرضاوي في قصيدته “أنا والشعر” وقد كان عمره حينها نحو 24 عامًا:
أريد له هجرًا فيغلبنـي حبـي ** وأنـوي، ولكــن لا يطاوعنــي قلبـــي
وكيف أطيق الصبر عنه وإنما ** أرى الشعر للوجدان كالماء للعُشبِ
فكم شدّ من عزمٍ وبصّر من عمىً ** وأيقظ من نومٍ وذللَ من صعـبِ
كان هذا الصراعُ قائمًا إذًا منذ ذلك الوقت البعيد، بين يوسف الشاعر، ويوسف الفقيه، بين البيت والفتوى، وبين القصيدة والحُكم، وبين أصحاب المعلقات.
نشأ القرضاوي في أسرة بسيطة رقيقة الحال، متوقد الذهن، ذكي العاطفة، التحق بالكتاب وهو ابن خمس سنوات، وحفظ القرآن قبل أن يتم عشر سنوات من عمره، وفي هذا أول علامات النبوغ، ولحفظ القرآن في حفظ اللسان وتقويم البيان ما يعجز ما عداه عن فعله، فيغذي الحصيلة اللغوية، ويغذي الصور البيانية، ويدرّب اللسان على الفصاحة، والعقل على التأمل، والقلب على الشعور.
وبعد دراسة القرضاوي لأصول الدين التحق بتخصص تدريس اللغة العربية، والتحق بمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، حتى حصل على الدبلوم العالي في شعبة اللغة والآداب.
وليست الدراسة ولا النشأة ولا الكُتاب ولا الأزهر ولا الريف وحدهم من يصنعون من الرجل أديبًا، وإنما الأحداث العظام، وطريقة تلقيه لها، فيأتي الشعر من الشعور، وتتنامى الموهبة من القدرة على التقاط الإشارات حول المتلقي، ومن التفاعل الوجداني العميق مع الأحداث في محيطه، فقد يكون الرجل غير متعلم، ولم يدرس بصرح الأزهر العظيم، ولم يتعلم العَروض في المعهد الثانوي، ويكون شاعرًا بليغًا على قدر لسانه، لكن صوره أفصح من شاعرٍ يملك حصيلة تفوقه مليون مرة، لأن الصور لا تحتاج اللسان بقدر ما تحتاج إلى العين.
كان القرضاوي هو هذا الرجل الذي جمع حسن الفصاحة ورقة الإحساس معًا، وقد عايش الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الإنجليزي لمصر، وثورة فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، وحرب النكبة، ووقوع فلسطين في يد العصابات الصهيونية، واعتقل في أيام الملك فاروق عشرة أشهر، عام 1949، وكان حينها في الثالثة والعشرين من عمره، واعتقل ثلاث مرات بعدها في وقت لاحق، هذه الأحداث العظيمة كلها كانت في نحو عقد واحد من عمره، في الفترة التي يتكون فيها شخصه، وتستعد شخصيته، فخرج شعره معنيًّا بهموم الأمة حوله، متأثرًا بأساتذته من الأزهر ومن رواد الحركة الإسلامية.
مسرحية يوسف وما بعدها
في الصف الأول الثانوي، كان يوسف جالسًا يجرب لأول مرة حظه، ويترك لقلمه العنان، يحرره من خوفه، ويخط به مسرحية “يوسف الصديق”، متأثرًا على طريقة شوقي أمير الشعراء في “مجنون ليلى” و”مصرع كليوباترا”، وضاعت للأسف هذه المسرحية، لكن ربما عُثر على نسخة منها فيما بعد، لم تطبع وتدرج في أعماله، نقل منها الأديب الفلسطيني حسني أدهم جرار مما اطلع عليه عند الشيخ القرضاوي نفسه، وقد كتب الشيخ في إهدائها:
إلى من رمته العاديات بسهمها ** فبات يعاني الضرَّ إذا عضه الدهرُ
إلى من طواه العمر وهو معذبٌ ** لياليه ســـــوداءُ وأيــــامه غبــــرُ
إلى من رماه الهم في جُب حيرةٍ ** وأُدخل سجن البؤس ليس له وزرُ
لمن غالبَ الأيــام حتى غلبْنَهُ ** وظنَّ محالًا أن يكــــون له نصـــــرُ
إلى من جافاه حِبّه وهو هائمٌ ** فظـــل كئيبــــــًا لا يبـــشّ له ثغـــــرُ
وبات مهيض القلب في عينه قذى ** وفي صدره جمرٌ وفي فمه صبرُ
كانت هذه الأبيات الرقيقة في مطلع المسرحية، فتخيل كيف كانت المسرحية نفسها، فعساها تنشر في يومٍ ما مع تراث القرضاوي، فنعرف إلى أي حد كانت رقيقة، كأنه استشعر أن نبي الله يوسف -عليه السلام- كان أمامه، كان يوسف معه في السجن، في ليلته الأولى، وهي أصعب ليالي السجين على الإطلاق، يربت على كفه، ويهديه أبياته، فيهدّيه بها، فكانت خير سلوى.
وكل هذا؛ وكان يوسف في عداد المراهقين، في الصف الأول الثانوي، لكنها كانت سمته، وسمة هذا الزمان، أن يكون المتعلم بحد ذاته عالمًا، ومطالع نصوص الأدب في الصف الدراسي أديبًا، وقد كان كثيرٌ منهم هكذا، وتستطيع تبيّن ذلك من الرسائل والمكاتيب والمراسلات حينها، بين الطلاب وأهلهم، وبين المسافرين وأسرهم، حتى تظن أن كل شاب في مصر مجازٌ في البلاغة.
وقد كتب يوسف نفسه لنفسه في مطلع مسرحية “يوسف الصديق” إهداءً بسيطًا، ينمّ عن براءة شعور هذا الفتى، وعن موهبته معًا، قال في إهدائه:
أَمُصور الأجســام والأبــدانِ ** هلا تصـــور حكمتـي وبيانـي؟!
أتصوّرَن وجه الرجال وتتركَن ** تصويرَ ما بهمو من العرفانِ؟
المـرءُ ليس بوجههِ أو جسمهِ ** لكــــن بفكــــرٍ ثاقـــبٍ ولســـانِ
لو كان قدر المرء جسمًا لا حجًا ** لسمــا عليه الثـورُ بالجسمانِ
من يقول إن هذا فتى لم يبلغ العشرين بعد؟ من يخمن أن هذه الأبيات ليست لشاعرٍ مخضرم يكتب فيها -على عجل- زبدة تجاربه وحياته، وخلاصة ما توصل إليه بعد عمرٍ فنى بين حوادث الدهور وتقلبات الأزمان؟ لا أحد يستطيع تخمين ذلك، لكنها بدايات الأدباء النجباء، والفقهاء الأذكياء، كان يوسف واحدًا من هؤلاء، أو ربما كان يوسف وحده، هذا الرجل الخاص جدًّا، بتفرده، وفطنته الشعرية، وعذوبته اللغوية، الذي اختار هو بمحض إرادته أن يضع أبياته جانبًا، من أجل رسالة يؤديها في بيوت الله، فلم يكتب تقريبا شعرًا منذ بلغ الأربعين، وتفرغ فقط لدعوته وميدانه، لكن حين ترى لقاءً له ينشد فيه من شعره أو أناشيده أو يتحدث عن شيء منه أو ذكريات تخصه، وجدت في عينيه من الألقِ ما يؤكد حنينه إلى القوافي، وكان كل ما كتبه ونُشر له، ونُقل عنه، حسب ما دَوّن أو دُوّن له، لا يجاوز العشرين قصيدة.
وعلى الرغم من قلة عدد القصائد، كانت أبياتها من النوع المكثف المركز، يتناول الموضوع أو القصة أو القضية في نحو سبعين أو ثمانين بيتًا، ويغلق القصيدة، فتشعر ألا شيء يقال بعدها، وقد لخص ما فيها، وأسهب في الآن ذاته، فلم يكرر الألفاظ ولم يبتذل الأوصاف ولم يبخل بالمعاني، وهنا إشارة مهمة أن قصائد الرجل الطويلة تنمّ عن النهر الذي في داخله، لكنه كُبح بسدٍّ منع عنا فيضانه، والحقيقة أنه كان حبسًا لا سدًّا، لا يمنعه عنا وإنما يحرمنا نحن منه، وهو القائل في قصيدته مناجاة ليلة القدر:
سمَّوْه شعرًا وإني لا أراه سوى ** آهــات قلبي وإحساسات وجداني
نفحات الشاعر يوسف ولفحاته
في ذكرى المولد النبوي، كتب الشيخ يوسف القرضاوي، وكان في الرابعة والعشرين من عمره، قصيدةً في ستة وستين بيتا، يقول في مطلعها:
هو الرسول فكن في الشعر حَسّانا ** وصُغ من القلبِ في ذكراه ألحانا
ذكرى النبيّ الذي أحيا الهدى وكسا ** بالعلم والنورِ شعبًا كان عريانا
ويقول:
خلفت جيلًا من الأصحاب سيرتهم ** تضوع بين الورى روْحًا وريحانا
كانت فتوحهمُ بـــرًّا ومرحمــــــةً ** كانت سياستهم عـــدلًا وإحسانـــا
لم يعرفوا الدين أورادًا ومسبحـــــةً ** بل أشربوا الدين محرابًا وميدانـا
ويقول من أجمل ما قيل في رثاء رسول الله وذكراه وتذكره:
يا سيـــد الرُّسْل طب نفسًا بطائفـــةٍ ** بـــاعوا إلى الله أرواحًا وأبدانــــا
قادوا السفينَ فما ضلوا ولا اضطربَت ** وكيف لا! وقد اختاروك رُبّانـا
أعطوْا ضريبتهم للديـــن من دمهــــم ** والناس تزعم نصر الدين مجانا
أعطوا ضريبتهم صبـــــرًا على محنٍ ** صاغت بلالًا وعمارًا وسلمانـا
وقال في القصيدة نفسها ما يحكي به عن فلسفته في فهم المحن:
قالوا: إلى الطور، قلنا: ذاك مؤتمـــرٌ ** فيه نقرِّر ما يخشــــــاه أعدانـا!
فهو المصلَّــى نزكِّــي فيــه أنفسنـــــا ** وهو المَصِيف نقـوي فيه أبدانا
معسكـــر صاغنـــا جندًا لمعركــــــة ** ومعهـــد زادنــــا للحـــق تبيانا
من حرَّموا الجمع منا فوقَ أربعةٍ ** ضموا الألوف بغاب الطور أُسدانا!
رامـــوه منفًـى وتضييقًا، فكــــان لنـــا ** بنعمة الحـب والإيمـان بستانا!
هذا هو الطـــور شاءوا أن نـــذوب به ** وشـــاء ربــك أن نزداد إيمانا
تخيل أن هذه قصيدة، بكل ما فيها من معانٍ، بما ذكرناه منه وكثير لم نذكره، لفتى في الرابعة والعشرين من عمره، أكرر السؤال ولكنه ليس تكرار الابتذال، وإنما تكرار واقعي، ستسأله لنفسك بين كل بيتين تقريبًا للقرضاوي، لن نعلق كثيرًا على الأبيات ومعانيها، فمقام المعنى أكبر من أن يفسره واحد، ومقام اللفظ أرقى من أن يتحدث فيه مثلي، واللفظ لفظ أديب مفوّه عظيم البيان ومهيب اللسان.
وقال القرضاوي يرثي صديقه زكي الدين أبو طه، أحد رفاق المحنة، رثاءً رقيقًا مبكيًا، وقد لقي من التعذيب ما لقي حتى توفي بعد خروجه من السجن:
أبكي على غصنٍ نما في روضةٍ ** للحق، أذبله المنون ذبولا
أبكي على نجمٍ أنار ضياؤه ** دهرًا وأسرعَ للمغيب أفــــــولا
أبكي فتى فوق الثريا نفسه ** يلقى الممات ولا يعيش ذليــــلا
أبكي فتى صلبًا تكاد تخاله ** عُمَرًا، يخيف ولا يخاف قبيـــلا
صعبٌ علينا أن نرى بدرًا هوى ** ونرى التراب على سناه مهيلا
صعبٌ بأن نجد الذي حمل الهدى ** أمسى على أعناقنا محمـولا
صعبٌ علينا أن يباعد بيننا ** هذا التراب فلا نراه طويـــــــــــلا
يا من ضربتَ لنا المثال مضحيًا ** وأريتنا صور الجهاد الأولى
فحييتَ في ظل العقيدة ثابتًا ** وأبيتَ إلا أن تموت أصيــــــــــلا
قد كان آخر ما نطقت بذكره ** “الله أكبر” رُتلت ترتيـــــــــــــلا
ألقوك في ظلَم السجون وظلمها ** فأضأت في ظلماتها قنديــــــلا
وصبرتَ صبر الأنبياء كأنما ** تلقى ثباتك من يديْ جبريــــــــلا
يا مؤمنًا كانت حياتك قدوةً ** ستظل روحك في الطريق دليـــــلا
نَمْ يـا زكيّ الدين إنك خالدٌ ** ما كان ذكرُك يا أخي ليــــــــزولا
نم يا شهيد الحق مسرورًا، فقَد ** كان المنام لديك قبلُ ثقيــــــــلا
أي رقةٍ، وأي عذوبة وأي بكاء؟ من أين جاءت كل هذه الدموع يا شيخ؟ ومن أين أتيت بهذا الجمال المبكي؟ حتى ليظن القارئ أنك ما فقدت في حياتك صاحبًا قبله ولا بعده، وأي أثر تركه في نفسك حتى تغسله بدموع الناس بعد وفاته بسبعين سنة؟
ولعل أجمل وأعظم وأطيب ما كتب القرضاوي في الشعر، هي نونيّته الخالدة، التي ألفها في السجن الحربي عام 1955، وفيها تصوير لما قاسوه داخل السجون في هذه الفترة العصيبة، ويعرف الناس منها ما اشتهر في نحو خمسين بيتًا، لكنها قصيدة أكبر من ذلك، أكثر من 6 مرات! فعدد أبياتها ثلاثمائة وبضعة وعشرون بيتًا، ولم يحفظها المعتقلون فيما كتبوه، لأن الأوراق والأقلام كانت ممنوعة، وإنما حفظت في الصدور، حتى جمعت فيما بعد ودُونت قصيدة كاملة، نذكر منها ما يلي:
ثارَ القريضُ بخاطــــري فدعونـــي ** أفضــــي لكمْ بفجائعي وشجونــي
فالشعرُ دمعي حينَ يعصرني الأسى ** والشعرُ عودي يومَ عزفِ لحوني
كم قال صحبي: أين غرُّ قصائـــــــدٍ ** تشجي القلوبَ بلحنها المحــزونِ؟
وتخلّــــــد الذكــــرى الأليمةَ للورَى ** تُتلى على الأجيــــالِ بعـــدَ قرونِ
ما حيلتــــي والشعـــرُ فيضُ خواطرٍ ** ما دمـــــتُ أبغيــهِ ولا يبغيني؟!
واليوم عاودنـــــي المــــلاكُ فهزنــي ** طربًا إلى الإنشــــادِ والتلحيــنِ
أُلهمتُها عصمـــــاءَ تنبُــــع مِن دَمِي ** ويَمُدُّها قلبـــي ومـــــاءُ عيونــي
نونيـــــةٌ والنــــونُ تحلـــــو في فمي ** أبـــــدًا فكدتُّ يُقال لي ذو النونِ
صَـــوَّرتُ فيها ما استطعتُ بريشتــي ** وتركـــــتُ للأيــــامِ مـا يعييني
ما هِمْــــــتُ فيها بالخيــــــــالِ فإنَّ لي ** بغرائــــبِ الأحداثِ ما يُغنيني
أحـــــداثِ عهدِ عصابــــةٍ حكموا بني ** مصـــرٍ بلا خُلـــق ولا قانـونِ
أنستْ مظالِمُهُمْ مظالــــمَ مَــــن خلَــوْا ** حتّى ترحمَنــــــا على نيـرونِ!
ويقول في وسطها أشهر أبياته، وأشهر ما انتشر في أوساط الحركة الإسلامية:
إنّا لعمـــــري إن صمتنـــا برهــــــة ** فالنـار في البركان ذات كمـونِ
تالله مـــــا الطغيــــــان يهـــزم دعوةً ** يومـًا، وفي التاريـــخ بر يميني
ضع في يدي القيد، ألهب أضلعــي ** بالسوط، ضع عنقي على السكينِ
لن تستطيع حصار فكــــري ساعـةً ** أو نــــزع إيمانـــي ونور يقينـي
فالنور في قلبـي.. وقلبـــي في يـديْ ** ربي، وربــي ناصـري ومعيني
سأعيــــش معتصمــا بحبــل عقيدتي ** وأمـــوت مبتسمًــا ليحيـا ديني!
ويختمها بأبياته:
يا مَن أجبت دعاء نوحٍ “فانتصر” ** وحَمَلْتَــــه في فلكــك المشحـــــونِ
يا من أحـــال النار حول خليلــــه ** رَوْحًا وريحانًا بقولـــك: “كُونـــي”
يا من أمـــرت الحــوت يَلْفِظُ يونسًا ** وسترتَه بشُجيـــــــرة اليقطيـــــنِ
يا رب إنا مِثلــــــه في كُربــــــــــةٍ ** فارحــــم عبــــادًا كلهـم ذو النونِ
ولو لم يكتب القرضاوي في حياته كلها، طوال 94 عامًا، إلا هذه القصيدة، لكفَته.
وللقرضاوي قصائد أخرى في السعادة ومعانيها حيث هي ثماني قصائد في قصيدة واحدة، وغيرها مما تجده في ديوانه الذي حرره الأستاذ حسني جرار، “نفحات ولفحات”، لكن المقام هنا لا يتسع لأن نذكر أبياتًا من الديوان كله فنختم بمقتطفات أخيرة، وكلما قلت مقتطفات أخيرة وجدتني أريد اقتطاف الديوان كله، لكن هذا وعد هذه المرة بأن نذكر بعض الأبيات، وللقارئ أن يستزيد ما يشاء من المنبع.
يقول في الابتهال وقد كتبها في زنزانته، وألقاها القرضاوي من قبل وهو يبكي:
يا من له تعنو الوجوه وتخشـــــعُ ** ولأمره كل الخلائق تخضـــــــــــعُ
أعنــــو إليك بجبهــــــةٍ لم أحنِهــــــا ** إلا لوجهك ساجدًا أتضــــــــرعُ
ولكم ذكرتُك خاليًا فوجدتنـــــــي ** والقلب في وجـــلٍ، وعيني تدمـــــعُ
هل لي رجاءٌ أنني ممن دعــــــوا ** يومًا إليكَ وقال: توبوا وارجعـوا؟!
وحملتُ مصباح الهداية مرشـــــدًا ** أهناك كالقرآن نورٌ يسطـــــــــعُ؟!
ومشيتُ في ركب الهداة، وإن أكُن ** أبطأتُ في طلب الكمال وأسرَعوا!
حسبي أحبهم وأقفو خطوهـــــــم ** ولكَم أرى حب الأكابــــر يشفــــــعُ
وفي المناجاة حين اشتد مرضه قبل نحو خمسة وثلاثين عامًا، وظن أن موعده قد اقترب، قال:
يا رب ها جسمي يشيخ ويمرضُ ** والوهن وافاني سريعًا يوفــــضُ
ولّت سنــــو عمري كرؤيــا نائمٍ ** ومضى شبابي مثل برقٍ يومـضُ
ودنا الرحيــــــــل ولم أهيئ زاده ** وخيــام أيامي تكـــــاد تقــــوضُ
كل النفائس قد تُعوض إن تضِع ** والعمر -إن ضيعتَ- ليس يعوضُ
ما بعد نضج الزرع غير حصاده ** هي سنـــــةٌ لله ليســـت تُنقـــضُ
ما لي سواك إذا الخطوب تفاقمت ** أمرى إليك على الدوام مفــوَّضُ
لو كــــان لي ربٌّ سواك رجوتُه! ** فلمن أمد يدي ومن أستـقرضُ؟!
وقال في الكفاح وهو طريح الفراش في مرضه عام 1985:
يا أمتـــي وجب الكفـــاح ** فدعي التشـدق والصيــاحْ
ودعي التقاعس ليس يُنـ ** ـصَرُ من تقاعس واستراحْ
ودعي الريــــاء فقد تكلـــ ** ــمت المذابــحُ والجــراحْ
وكتب في الغزل ما ستقرأه الآن:
أنثــى تــــروق أخـا الهيام ** حسناء فارعة القـوام
جســــم رشيـــقٌ زانَـــه ** عنــقٌ حكى عنقَ النعام
بنت الصعيـــــد كريمــة ** من طينــة القوم الكرام
قنويّةٌ لكنها ** بيضاء كالبدر التمام[1]
والحق أن هذه القصيدة كتبها القرضاوي متغزلًا في “قُلة” قناوية، مصنوعة يدويًا من الفخار لحفظ الماء باردًا كانت ترافقه في زنزانته في السجن الحربي.
وكتب القرضاوي، قصائد أخرى، تجدونها كاملة كما أسلفنا في “نفحات ولفحات”. فضلا عن العديد من الأناشيد التي ما زالت تتغنى بها الحركة الإسلامية حتى الآن، ومنها: يا سجون اشهدي، ومسلمون، ونشيد العودة، وفتى القرآن، والله أكبر، وأنا المسلم.
ونختم ببيتٍ من قصيدته “أنا والشعر”:
وقفتُك يا شعري على الحق وحده ** فإلم أنَل إلاه قلت لهم: حسبي!
مات القرضاوي، رحمه الله، وبقي لنا مما ترك لمن أراد أن يستزيد من بعده، علمًا ودينًا، وشعرًا وأدبًا، هذا الرجل الذي ملك مفاتيح للفصاحة لم يملكها معاصرون معه وسابقون له، فاستطاع أن يسوق الحجج برجاحة عقله وفصاحة قوله ودقة نقله، واستطاع أن يفلت أحيانًا من هيمنة العلم فصاغ لنا في الأدب خالدات تبقى بعده، وترك كلمات تجري مجرى الحكم، وأبياتًا لها وقعٌ خفيف على النفس، ثقيل في القلب، وقصائد تحوي من الدرر ما تحوي البحور من اللآلئ، وعذوبةً وُلدت من العذاب، وعساها بذلك الجمال لأنها ولدت بهذه الطريقة، فلن تسمع عن الوطن أجمل مما يخرج من فم مغترب أو منفيّ، ولن تسمع عن الحبّ أجمل مما ستسمع من فم مجروحٍ قلبه، ولن تسمع عن رحمة الله أجمل مما ستسمع من فمٍ عاصٍ تائب، ولن تسمع شعرًا رقيقًا عذبًا خاصًا حلوًا جسورًا، يجمع كل تلك المحاسن، لفقيهٍ اشتغل بالعلم واعتزل الشعر، كما تسمع من قليل، ضمنهم يوسف القرضاوي.
المصادر
[1] قنوية يقصد من قنا
تعليقات علي هذا المقال