تتناول هذه المقالة بإيجاز مدخلا نظريا لفهم إشكال علاقة السلطة بالثقافة وبصفة خاصة في حقبة الحداثة المعاصرة، ثم إشارات تطبيقية حول أهم ملامح تطور هيمنة الدولة الحديثة في مصر على أدوات إنتاج وتوريث الثقافة. وفي البداية، أستعير مقولة د. وائل حلاق في كتابه قصور الاستشراق: “يمكن للمرء أن يقضي عمره كله في دراسة مجال الواقع الذي يُبرز التداخل بين المعرفة والقوة دون أن يفهم قوتها الكاملة أبدا، ناهيك عن بنيتها وتفردها ونسبها“، أستعيرها لتخفيض سقف التوقع قبل المضي في القراءة، كونَ المقالة لن تتعدى محاولة لخدش السطح حول هذا الموضوع الإشكالي الضخم.
مفردة الثقافة بين سياقين مختلفين
استعمال مفردة “الثقافة“ في الخطاب العربي يُعد حديثا جدا لا يتجاوز بدايات القرن العشرين، وهي بالأساس ترجمة للمصطلح الإنجليزي “culture“ وكذلك مصطلح “intellectual“ الذي يُترجم إلى “مُثقف“. ولضيق مساحة المقال سنتجاوز جدل التعريفات غير المحدود، لنشير أولا: إلى تعريفنا للثقافة بمعنى المعرفة التي تتحكم في توجيه سلوك الناس وتحديد أنماط حياتهم، وعند الحديث عن ثقافة مجتمع ما فنعني بذلك القاسم المشترك المعرفي الذي يحدد الجوامع العامة لهذا المجتمع ومن ثم تنبني عليه أنماط اجتماعهم وأسس حياتهم، واستمرار وجود هذا المشترك هو ما يضمن بقاءهم كمجتمع بحكم التعريف. وثانيا: إلى كون هذه المفردة ليست فقط وافدة من سياق لغوي مختلف، وإنما أيضا وافدة من سياق حضاري مختلف بما يعني أن إشكالاتها ومن ضمنها علاقتها بالسلطة هي إشكالات وافدة من سياق الاجتماع الغربي الحديث (وهذا ما سنعود إليه مرة أخرى لاحقا).
القوة والمعرفة بين فوكو وسعيد وحلاق
من أهم دارسي علاقات المعرفة بالسلطة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وباختصار -قد يكون مُخلّا بعض الشيء- يرى فوكو أن أية معرفة سائدة هي مرتبطة حتما بعلاقات القوة، بمعنى أن ما يمكن تسميته بديهيات أو مسلمات فكرية عند البعض هو في الحقيقة إيحاءات مصدرها بنية السلطة السائدة، هذه الإيحاءات لا تكون توجيها مباشرا من سلطة ما لمجموعة من المثقفين والمفكرين، وإنما هي بنية مبثوثة في الخطاب والممارسة والتنظيم عبر آلاف الإشارات المتداخلة تؤدى في النهاية إلى ما يشبه برمجة خفية لعقل المثقف في اتجاهات محددة، وقد تستند بعض أفكار فوكو في هذه الصدد على نظريات كارل ماركس أيضا حول الأيديولوجيا والطبقة.
امتد تأثير فوكو ليشمل عددا غير محدود من الباحثين والمفكرين الذين اختلف بعضهم في تأويله وفهم نظرياته، منهم إدوارد سعيد الذي بنى نقده للخطاب الاستشراقي الغربي تأسيسا على أفكار فوكو حول المعرفة والسلطة، فاعتبر سعيد أن مجمل الدراسات الاستشراقية الغربية ارتبطت بالعقلية الاستعمارية التي أنتجت ووظفت المعرفة من أجل أغراض الكولونيالية، ما يعني مرة أخرى ارتباط السلطة بالمعرفة.
بينما نجد وائل حلاق في نقده الحاد لمشروع إدوارد سعيد يعتقد أن قصور رؤية سعيد منعته من إدراك ارتباط الكولونيالية نفسها بالحداثة، بمعنى أنه لا يمكن الاكتفاء بنقد الخطاب الاستشراقي في إطار رده للسلطة الاستعمارية، ولكن يجب رد الاثنين معا لمشروع الحداثة الذي أنتج كلا منهما، ويعتقد حلاق بأن هذه الفرضية تعبر بشكل أقرب عن أفكار فوكو. وما يعنينا من حاصل هذا الجدل هو فهم فرضية أن إشكال علاقة الثقافة بالسلطة هو إشكال مرتبط بالحداثة والتحديث كما أسلفنا، ومقارنة هذا الأمر بخبرة التاريخ الإسلامي قبل الحديث –مثلما فعل وائل حلاق– أثبتت أن الارتباط بين القوة والمعرفة لم يوجد بهذا الشكل القسري في تاريخنا القديم. ومن ثم سننتقل للسؤال الأهم في هذه المقالة: كيف حاولت الدولة الحديثة في مصر احتكار أدوات بناء الثقافة؟ وكيف حاربت الأطر التقليدية المجتمعية التي كانت قائمة على إنتاج الثقافة المشتركة وتوريثها في المجتمع المصري ما قبل التحديث؟
الدولة الحديثة في مصر واحتكار أدوات بناء الثقافة
يمكن تصور دعائم بناء القيم والثقافة المشتركة داخل المجتمع المصري القديم من خلال عدة أركان رئيسية: التعليم الأهلي، شبكة علماء الأزهر، الطرق الصوفية، روابط الحرفيين والصناع، ومؤسسة الأسرة القادرة على التماسك. تعمل هذه المؤسسات (بالمعنى الاجتماعي التحتي للكلمة وليس المعنى الإداري الفوقي لها) بشكل متداخل على إنتاج ثقافة المجتمع وتوريث قيمه، وتستمد حيويتها واستقلاليتها ماليا من خلال مؤسسة الوقف، وإداريا من خلال كونها مؤسسات أهلية تنشأ بمبادرة من قبل الناس أنفسهم وإذا ما ثار بينهم خلاف يلجئون لقضاة يحكمون وفقا للشريعة التي قننتها المذاهب الفقهية عبر سلطة الضمير والوازع الديني الجماعي. هذه التكوينات أثبتت فعالية في حينها جعلت بعض المؤرخين، كما يذكر جوان كول، يتحيرون من مقاومة المصريين المنظمة للحملة الفرنسية التي نظمتها بشكل خفي هذه التكوينات المبثوثة في بنية المجتمع. ربما كان مفترضا لمسارات التحديث والتقنين في مصر أن تؤدي إلى ضبط وتقنين هذه الشبكات والتكوينات بينما لم يكن مطلوبا تفكيكها واستبدال أخرى بها عبر قرارات من السلطة، إذ أن السلطة يجب أن تساهم في تنظيم المجتمع لا أن تصيغه وتنشئه من جديد.
يرتبط مشروع التحديث في مصر بالاستعمار، والاستعمار في بلادنا نشأ قبل المستعمرات واستمر بعدها. فمِصر، موضوع المقال، سقطت في دائرة النفوذ الأجنبي قبل الاحتلال البريطاني الرسمي عام ١٨٨٢، واستمرت في دائرة النفوذ الاستعماري أيضا بعد جلاء قوات الاستعمار عام ١٩٥٤، يُذكر هنا على سبيل التدليل على بداية النفوذ الاستعماري قبل مجيء الاستعمار المباشر أن أول مجلس وزراء (نظار) في مصر الحديثة الذي أنشأه الخديوي إسماعيل عام ١٨٧٨ ضم في عضويته وزيرين أجنبيين أحدهما انجليزي للمالية وآخر فرنسي للأشغال، مما يعني أن عمليات التحديث منذ تلك الأثناء تمت في ظروف وشروط استعمارية.
نقاط على مسار تحديث إنتاج الثقافة في مصر
من خلال المحطات التالية، سنتتبع بإيجاز أبرز محطات سيطرة الدولة الحديثة في مصر أثناء رحلة تأسيسها على موارد إنتاج الوعي وتشكيل الثقافة، من خلال النقاط التالية:
أولا:تعد أول محاولة في مصر لوضع وتقنين أسس بناء الدولة الحديثة، هو مرسوم “سياست نامه“ الذي أصدره محمد على باشا عام ١٨٣٧ لتقنين سياسة إنشاء الدواوين، ومن بينها “ديوان المدارس“ الذي كان منذ من سلطاته الإشراف على المدارس الرسمية، الابتدائية والتجهيزية، وكذلك على مطبعة بولاق وجريدة الوقائع. ومع ذلك ظل التعليم الأهلي موجودا، والصحف الأهلية كذلك، واقتصرت هذه الوظائف الرسمية، بما فيها المدارس الأميرية، على المهام السيادية للدولة وعلى رأسها بناء الجيش وإمداده بالعناصر البشرية المؤهلة نفسيا وبدنيا للتجنيد، بينما ظلت للمجتمع في المقابل أيضا روافده الحية ومؤسساته. ومن ثم نلحظ بدايات الانشطار الثقافي في مصر الحديثة.
ثانيا:مع إنشاء الخديوي إسماعيل مجلس النظار عام ١٨٧٨، توسع “ديوان المدارس“ وتحول إلى “نظارة المعارف“ التي توسعت سلطاتها لتشمل المدارس والمكاتب الأهلية إلى جانب الأميرية، وكذلك الإشراف على الأوقاف التي مثلت رافدا لاستقلال مؤسسات المجتمع المصري وشبكاته زمنا طويلا. ونشأت في نفس العام أيضا “نظارة الداخلية“ التي ضمت إلى سلطاتها المطابع الأهلية، و“نظارة الحقانية“ التي سيطرت على المحاكم الشرعية قبل أن يتم إلغاؤها بالكامل في خطوات تحديث لاحقة.
ثالثا:في عام ١٩٣٩ أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، ومن ضمن صلاحياتها المتسعة في ذلك الوقت: الإشراف على دور السينما والموالد وأدوات الإرشاد والدعاية ومحاضرات التثقيف وغيرها.
رابعا: بعد حركة ضباط يوليو عام ١٩٥٢، تأسست وزارة الإرشاد القومي، وجاء في قرار تأسيسها النص على “دورها في توجيه أفراد الأمة وتيسير سبل الثقافة الشعبية“. وفي بداية تأسيسها كانت تحمل اسم وزارة الاتصال والإعلام وتغير الاسم بعد شهور للإرشاد القومي والثقافة ثم إلى وزارة الإرشاد القومي، واستمرت قائمة حتى عام ١٩٦٥ لتنفصل وزارة خاصة تحمل اسم وزارة الثقافة، ولا حقا عام ١٩٨٢ أنشئت وزارة الدولة للإعلام للمرة الأولى.
رابعا:في تعريف وزارة الثقافة رسميا لنفسها أشارت إلى كونها امتدادا لعدة أجهزة سابقة في تاريخ بناء الدولة المصرية الحديثة، مثل “دار الكتب المصرية“ التي تأسست منذ عام ١٨٧٠ في عهد الخديوي إسماعيل، و “مصلحة الآثار“ التي أنشئت في عهد الخديوي سعيد، و “الإدارة العامة للثقافة“ التي تأسست عام ١٩٣٦ ضمن وزارة المعارف و“مصلحة الفنون“ التي صدر قرار إنشائها من رئيس الجمهورية في ١٩٥٥ لرعاية فنون المسرح والسينما والفنون التشكيلية.
بهذا القدر من الاختصار، أردت توضيح مسار التحديث في مصر بما مَثَّلَهُ من عمليات هيمنة مركبة ومتداخلة على عمليات إنتاج الثقافة وبناء الوعي في مصر الحديثة، وبقدر تعقيد وتركيب مفهوم الثقافة وعدم إمكان التعبير عنه بكلمات محدودة يتضح أيضا حجم التداخل والتعقيد والتركيب في محاولات مأسسته وتشكيلة إداريا. وكما أشرنا من قبل ارتبطت كافة هذه التطورات بالشروط الاستعمارية -بالمعنى البنيوي عند فوكو- وبالعلمانية التي بدأت جذورها الأولى في حكم محمد علي وذريته خاصة إسماعيل.
تفكيك البُنى المجتمعية التقليدية.. الخط الموازي للبناء
من أجل استقرار هذه البنى الحديثة، كان هناك خط آخر يعمل بالتوازي لتفكيك البُنى المجتمعية التقليدية بدلا من تحديثها من داخل قواعدها أو حتى تقنينها، وما بدأ منها بالتقنين انتهى بالتفكيك وما بدأ بالاحتواء انتهى بالإقصاء الكامل. وفي نقاط محددة أيضا يمكن فيما يلي استعراض بعض المحطات على سبيل المثال داخل هذا الخط:
أولا:أصدرت الدولة أول لائحة تنظيمية رسمية بشأن الطرق الصوفية عام ١٩٠٣، تأسس على إثرها مجلس الطرق الصوفية، وكعادة المحاولات الأولى كانت تلك محاولة هادئة لتنظيم آليات اختيار وانتخاب مشايخ الطرق. لاحقا، في اللائحة الصادرة عام ١٩١٠ أصبح شيخ مشايخ الطرق الصوفية بما له من سلطة معنوية كبيرة يُعيَّن من قبل رئيس الدولة، وصولا لقانون عام ١٩٧٦ الذي من خلاله أصبح المجلس الأعلى للطرق الصوفية يضم في عضويته ممثلين عن وزارة الأوقاف ووزارة الداخلية ووزارة الثقافة ووزارة الحكم المحلي وهو المسئول عن تعيين مشايخ الطرق، كما أصبح إنشاء أي طريقة جديدة يتم بقرار من وزير الداخلية ووزير الأوقاف بعد موافقة المجلس.
ثانيا:استُهدفت الموارد المالية المستقلة للمكونات المجتمعية بدءا من إنشاء ديوان عمومي للأوقاف عام ١٩٣٨ تقتصر مهمته على حصر الأوقاف وضبط حساباتها وصولا لقانون عام ١٩٥٣ الذي أعطى للدولة صلاحية إلغاء شرط الواقف والتصرف في الوقف كما ترى الدولة، إلى أن استُبدلت بأعيان الوقف عام ١٩٥٧ سندات خزانة وضُمت أراضي الأوقاف لوزارة الزراعة للتصرف فيها. ما أدى في النهاية إلى تقويض قدرات المجتمع على الاحتفاظ بمؤسساته سالفة الذكر، وبالأخص شبكة علماء الأزهر التي تطور استهدافها هي الأخرى عبر مراحل عديدة يطول استقصاؤها، حيث بدأت بقيام محمد علي بإلغاء الأموال التي كانت توقف على علماء الأزهر في عام ١٩٠٨ (إحباسيات الرزق)، ثم فصل القضاء الشرعي عن الأزهر عام ١٩١٠ وقانون منع الأزهريين من الاشتغال بالسياسة عام ١٩٢٠ وامتدت لاحقا إلى أن صار منصب شيخ الأزهر مُعَيَّنًا من قبل رئيس الجمهورية في قانون تطوير الأزهر عام ١٩٦٨.
خاتمة
حاولتُ في السطور الماضية، بما تقتضيه محدودية المساحة، أن أرسم صورة أولية لحرب صامتة ممتدة حاولت فيها السلطة احتكار موارد إنتاج الثقافة والخطاب المعرفي والديني طوال عمليات تأسيسها، في ظروف اتسمت بالارتباط بالاستعمار من جانب وبالعلمنة من جانب آخر. هذه المسيرة لم يكن الناس فيها مجرد فاعل سلبي متلقي، بل ظلت محاولات المقاومة ممتدة أيضا على طول الخط، فطالما بقيت محاولات فرض الثقافة من أعلى قائمة بقيت محاولات المقاومة من الأسفل قائمة كذلك. أما صور هذه المقاومة الممتدة المتعددة ونتائجها فلها حديث آخر.