في العام 2014، عاد صديق مصري مغترب إلى مصر. وضمن حديثي معه، أخبرني أنه لاحظ ظهور نمط جديد للعيش وسط أصدقائه الشباب، ألا وهو “العمق“. كان صديقي يقصد أولئك الذين يثيرون أسئلة وجودية، ويتحدثون بمصطلحات مقعرة، ويحيلون إلى فلاسفة وعلماء في معرض حديثهم، ويَشعرون أن العامة لا تفهم ما يقولون.
يمكن اعتبار هذا العرض الكاريكاتيري للشخصية “العميقة“ أحد أشكال تطور شخصية “المثقف“، ولكن في جيل “السوشيال ميديا“. للـ“عميقين“ أو “المثقفين“ سلطة فكرية في المجتمعات، إذ هم أحد أهم روافد تشكيل الفكر بقدر اقتناع الناس بأنهم أهلٌ للثقة والاتباع. ولكن، متي وكيف ظهر “المثقفون“؟ بل من هم “المثقفون“ أصلًا؟ وما هو معيار الثقة في سلطتهم الفكرية؟
المثقفون كهوية
وُجِد أصحاب الفكر والمعرفة في كل عصر ومصر، وتنوعت هوياتهم التي يكتسبون بها سلطتهم الفكرية. فقد كانت هوية بعض أصحاب الفكر في الحضارة اليونانية القديمة الفيلسوف، وفي الحضارة الإسلامية العالم (الشرعي)، وفي الحضارة الهندوسية البراهمة، وهلم جرا
أما المثقف فهوية حديثة، يعيد الدارسون تبلورها الأول بهذا الإسم إلى فرنسا نهايات القرن التاسع عشر . والقصة أن الجيش الفرنسي قد اتهم أحد ضباطه (دريفوس) بالخيانة العظمى زورًا، لا لشيء إلا أنه يهودي. وأمام المحاكمة الهزلية التي تعرض لها دريفوس، وقف جمع مِن المفكرين مدافعين عن العدالة في التعامل مع الرجل. سُمي هؤلاء المفكرون بـ“المثقفين“. ورغم أن تسميتهم بهذا الاسم كانت بهدف تسفيه معرفتهم بالسياسة، إلا أن هذا المصطلح صار يعبر عن مكانة اجتماعية لأصحاب الفكر، خاصة هؤلاء الأحرار الذين يصدعون بالحق أمام السلطة. أما في المجتمعات المسلمة، فقد ظهر المثقفون بعد إدخال نظم التعليم المدنية ضمن مشاريع التحديث، ليجاور وينافس المثقفون العلماءَ من أهل التعليم الديني وأصحاب السيادة الفكرية في المجتمعات المسلمة لقرون طويلة.
من هُم المثقفون؟
تنوعت تعريفات المثقفين بين دارسيهم، بين التضييق والتوسيع والتصنيف، بل والتأكيد على أهمية عدم التعريف. وقد دارت معظم محاولات تعريف المثقفين حول ثلاث نقاط: علاقتهم بعالم الأفكار، والدين، والطبقات الاجتماعية. الشيء المحوري وشبه المتفق عليه في تعريف المثقفين هو اهتمامهم الرئيس بعالم الأفكار لا عالم المادة. فالأصل في معظمهم انصباب جلّ جهدهم في أمور مجردة عن الإنسان، أو المجتمع، أو الطبيعة أو الكون، سواء تمثل هذا في العلوم أو الفلسفة أو الفنون أو الدين. ولعل “سيمور ليسبت“ قد وسّع الإطار ليصبح أي أحد ينتج، أو ينشر، أو يمارس “الثقافة“ واقع ضمن إطار المثقفين. أمّا علاقة المثقفين بالدين، ففيها نقاش، إذ أن ظهور المثقفين صاحب عمليات العلمنة التي أتت بها رياح الحداثة الغربية، خاصة في فرنسا. ورغم وجاهة الطرح القائل بأن المثقفين نتاج حداثي (كما أسلفنا)، إلا أن كثيرين من دراسي المثقفين قد اعتبروا المثقفين شكلًا من أشكال أهل العلم الذين وُجدوا في كل زمان ومكان، وبالتالي اعتبروا علماء الدين من المثقفين. ولعل اعتقاد بعض الدارسين بالاختلاف الجذري بين أهل الفكر العلماني والفكر الديني هو ما دفعهم لإخراج علماء الدين من إطار البحث. أما أنا فاعتقد أن تفاعل الناس مع الأفكار فيه كثير من التشابه، كان هذا الفكر دينيًّا أو علمانيًّا.
أما علاقة المثقفين بالطبقات الاجتماعية فكانت من أكثر النقاشات رواجًا في أدبيات علم اجتماع المثقفين، لأهميته في الصراع اليساري-الرأسمالي. وقد انقسم الباحثون في طبيعة تلك العلاقة إلى ثلاث فرق. فالأولى ترى أنه ليس للمثقفين انحياز طبقي، بل إنهم يعملون للصالح العام دون النظر إلى مصالحهم أو مصالح طبقاتهم. أما الثانية فترى أن كل طبقة اجتماعية تنتج مثقفيها، ولعل تعبير “المثقف العضوي“ لـ“أنطونيو جرامشي“ هو الأشهر في التأسيس والتعبير عن هذا الاتجاه. أما الاتجاه الثالث فيرى المثقفين كطبقة مستقلة، تنافح عن مصالحها كأي طبقة أخرى. ولعل الواقع يقول أن المثقفين لا يقعون ضمن تصنيف واحد من تلك الثلاثة، وأن الأمر يختلف باختلاف المثقف والسياق.
نستخدم في هذا المقال مصطلحات عديدة كالمثقفين، وأهل العلم، أو أهل الفكر، أو أصحاب السلطة الفكرية لتعبر عن نفس الظاهرة التي هي هلامية بطبعها.
السلطة الفكرية من “الأئمة“ إلى “الإنفلوينسرز“
يومًا ما سألتني إحدى الصغيرات بانبهار عندما أخبرتها عن عملي كباحث قائلة: “يعني هتطلع على التليفزيون“؟ نمّ هذا السؤال عن تصور ضمني لأصحاب السلطة الفكرية: أولئك الذين “يطلعون على التلفزيون“ لم يصلوا لهذه المرحلة إلا لمعرفتهم التي تؤهلهم للحديث و“الفتوى“ في فنون شتى. لعل تلك الصغيرة لا تعرف أن الظهور على التلفاز أحيانًا هو من يصنع المثقف، لا العكس.
لسلطة أهل العلم أبعاد مختلفة غير تلك المتعلقة بالعلم ذاته. فكثرة التلاميذ في الماضي كانت ذات أهمية بالغة لتكريس سلطة أحد العلماء. بل إن مرجعية المدارس الفقهية الأربعة يرجعها البعض لكثرة طلاب الأئمة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل. ومع تطور أدوات الطباعة، صار كتاب الجرائد والمجلات والكتب أصحاب السلطة الفكرية في المجتمعات.
ولعل شيوع المذياع والسينما والتلفاز أنشأت شكلًا جديدًا من أشكال السلطة الفكرية، التي لم تعد تعتمد فقط على الكلمات (التي هي عصب الفكر)، بل قد تتأتى قوتها من الصوت والصورة (كالغناء والتمثيل والتلحين وباقي الفنون) التي أمكن عرضها على نطاق واسع. مع هذا التطور، اتسعت السلطة الفكرية أكثر لتشمل “الفنانين“ غير المثقفين، كبعض الممثلين والمغنيين الذين لا يمتلكون مواهب فكرية بقدر ما هي مواهب مادية (جسد جميل وصوت حسن مثلا). ولم يعد فقط من الطبيعي أن يفتي بعض الممثلين والمغنين في السياسة والدين، بل وأن يصبح لهم أتباع يعتقدون بصحة ما يقولون لاعتقادهم بأن أولئك أصحاب المعرفة.
أما ظهور “السوشيال ميديا“ فقد أتاح مساحة أكثر ديموقراطية واتساعًا بحيث يستطيع الكثير من خلالها حيازة سلطة فكرية. ولعل تسمية مشاهير السوشيال ميديا بالـ“مؤثرين“ له دلالة. إذ السلطة الفكرية هي القدرة على التأثير في الناس، دون استخدام سلطة باطشة (سواء بالعنف، أو التهديد الاقتصادي، أو المعنوي). ولذا، صارت أعداد المتابعين والمشاهدات ذات دلالة على السلطة التي يمتلكها الناس في عالمنا اليوم. في هذا المشهد، استعت رقعة “المثقفين“ لتضم أيضًا أولئك الذين ينقلون مقولات حكيمة مع صورة منمقة لكتاب، ويكتبون جملًا رنانة مع صورة مكتبة مكتظة بالكتب، أو يدونون خواطرهم في منصة هنا وهناك.
الثقافة وحدها لا تكفي: لمن تكون السلطة الفكرية؟
تبرز السلطة الفكرية لأحد المثقفين في أعداد من يعتبرون كلامه ذا وجاهة وحجّيّة. وللمفارقة، فليست عبقرية المثقف ولا براعته كفيلتان ببسط سلطته على الناس. ويفصل علم الاجتماع في أسباب نجاح المثقفين، غير تلك المتعلقة بألمعية الفكر وبراعة المفكر. من أهم تلك العوامل امتلاك المثقف وسائل تواصل لترويج ذاته وأفكاره مثل وسائل التواصل المباشرة (في الجامعات، النوادي، المسارح، المقاهي، الجوامع) أو المقروءة أو المسموعة أو المشاهدة كالتي سبق وتحدثنا عنها. ضف إلى هذا أهمية مباركة المثقفين وتثمينهم لجهود أحدهم في صناعة المثقف وشهرته وترميزه، إذ تصبح أعماله موضع اهتمام ونقاش. ولعل شبكة العلاقات هنا مركزية، إذ يوضح “راندال كولنز“ أن معظم الفلاسفة الذين لمع نجمهم على مر العصور، كانوا تلامذة لأساتذة كبار قبلهم يمدونهم “برأس مال ثقافي“ يؤهلهم لاكتساب السلطة الفكرية. ومن أسباب بزوغ نجم المثقفين أيضًا موضعة آرائهم بشكل يمس الناس ويماشي تطلعاتهم. وأخيرًا، فإن نجاح المثقف يعضَّد بمدى إبراز بعض الرمزيات التي ترفع من قدره، كتخرجه أو عمله في جامعة عريقة، أو نشر أعماله من دور نشر مرموقة، أو عرض أعماله في معارض عالمية، وهلم جرا. والشاهد أن كثيرًا من العباقرة والعلماء والفنانون لا يعلم عنهم إلا القليل، وأن ظهور العبقري والفنان أصلًا يحتاج إلى أسباب وظروف تتهيأ لهم كالتعليم والرعاية وقد لا تتهيأ لغيرهم ممن فيهم بذرة العبقرية والفن. فالظروف والمواهب والاجتهاد أمور تتفاعل معًا، وقد تكون الظروف أهم من الموهبة في صناعة المثقف، كما أن العكس صحيح.
لمن (يجب) أن تكون السلطة الفكرية؟
في معرض الحديث عن سياسات الخصوصية الجديدة لـ“واتساب“، أرسل لي صديق رسالة مفادها أنه “مفيش فايدة“ ودلّل بمنشور على الفيسبوك. ما أثار انتباهي هو أن كاتب هذا المنشور باحث في حقوق الإنسان، وليس معروفًا عنه أي تخصص في أمور التكنولوجيا أو الأمن المعلوماتي. من هنا بدأت أفكر كيف اعتبر صديقي هذا الباحث مرجع في هذا المجال، وتساءلت عمّن له الحق في أن نستمع له؟ وباختصار شديد، فإن إجابتي على هذا السؤال هي: أهل الاختصاص.
يجب التنبيه أن التدقيق في كل الأمور صعب، حتى على “المثقفين“ والعلماء، وأن عقولنا تستسهل المعرفة خاصة في الأمور التي لا نر لها أثرًا مباشرًا (من نفع أو ضرر) في حياتنا. الإشكالية تكمن في اختلال البوصلة حينما يتعلق الأمر بأمر محوري في حياتنا، بحيث نعطي “المثقفين“ سلطة لا يستحقونها، فيفتون في أمر لا يعرفونه، وندفع نحن الثمن. ولذا فإني لا أعترف بسلطة “المثقفين“، إذ هي كلمة تدخل فيها أصنافًا شديدة التنوع والاتساع. فقد يكون الفنان مثقفًا حقًّا، لكن سلطته في أمور السياسة محدودة. وقد يكون الفيلسوف مثقفًا، لكن بضاعته في أمور علم الاجتماع مزجاة، وهلم جرا. وصاحب الاختصاص الذي أتكلم عنه ليس شخصًا قد قرأ كثيرًا في موضوع ما وكتب عنه الكثير (كالكثير من المدونين اليوم على المنصات الصحفية بأنواعها). ذلك أنه على الرغم من دورهم المحمود في تبسيط المعلومات ونشرها، فإن الاكتفاء بقراءة المعلومات وإعادة تجميعها يعد أول مرتبة في التخصص. فالعلوم قائمة على أربعة أعمدة: معلومات، نظريات، مناهج للبحث، ونماذج معرفية. والمختص في نظري هو من بلغت معرفته الإلمام بالأعمدة الأربعة.
ويجدر الإشارة أن قضايانا في الواقع معقدة وليست حكرًا على تخصص واحد. بل إنه من المهم النظر في القضية الواحدة من رؤى مختلفة، فلسفية، وفنية، وسياسية، ونفسية، واجتماعية، وأخلاقية. لكن علينا أن نعي أن سلطة المختص تقف عند حدود تخصصه. وعلينا أن نسائل تخصص أصدقائنا من أهل “العمق“ و“الثقافة“ قبل أن نُسلّم بما يقولون.
المصادر
- Robert J. Brym, “Intellectuals, Sociology Of,” in International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences (Elsevier, 2015), 277–82, https://doi.org/10.1016/B978-0-08-097086-8.32078-5.
- Edward shils, “Intellectuals,” in International Encyclopedia of the Social Sciences, vol. 7 (New York: Macmillan & Free Press, 1968), 399–415.
- Seymour Martin Lipset, “American Intellectuals: Their Politics and Status,” Daedalus 88, no. 3, (1959): 460–86.
- Charles Kurzman and Lynn Owens, “The Sociology of Intellectuals,” Annual Review of Sociology 28, no. 1 (August 2002): 63–90, https://doi.org/10.1146/annurev.soc.28.110601.140745
- Scott Frickel and Neil Gross, “A General Theory of Scientific/Intellectual Movements,” American Sociological Review 70, no. 2 (2005): 204–32.
- Randall Collins, The Sociology of Philosophies: A Global Theory of Intellectual Change (Cambridge, Mass: Belknap Press of Harvard University Press, 1998).