فرضت الأغنية الشعبية في مسماها الجديد “المهرجان” نفسها على الأوساط المصرية، فبعدما كان يعيش مبتكرو هذا الفن حالة من الحصار والهجوم والاتهام بالابتذال، فُتحت لهم قاعات الأفراح، ورحب بهم أيضًا المنتجون في الإعلانات والمسلسلات والأفلام، بالغناء وصناعة الأفلام، لكن وإن كان المهرجان قد فرض نفسه على تلك الأوساط لأسباب تجارية في الأساس، فلا زال يتعرض لهجوم واسع بقدر ما يُرحب به قطاع واسع أيضًا، ولا يستهدف المقال الحديث عن شخصية حمو بيكا بصفته أحد القطط السمان -إن جاز لنا أن نستعمل ذلك المصطلح الانفتاحي الذي عبر عن طبقة جديدة من الأثرياء- تفتقد لقيم الطبقة الراقية، لكنها تشاركها الثروة، ولكننا نتحدث عن ظاهرة المهرجان باسم نجمها الأشهر حاليًا، وما تتشابه فيه مع الأغنية الشعبية القديمة ونجمها الأشهر حينها أحمد عدوية، ومع تشابه الظروف التي تمخضت عنها الظاهرتان، وما انتهت إليه ظاهرة عدوية، يطرح هذا السؤال نفسه: هل تصبح ظاهرة المهرجان يومًا ما تراثًا فنيًا؟
في البدء كان الحزن
لماذا الأغنية الشعبية؟ على عكس حلول الهرب وبالإضافة إليها، يشيع في العالم المتخلف الاجترار السوداوي للمأساة الوجودية، ومن هنا يمكننا أن نفهم طغيان الطابع الحزين على الحالة المزاجية للإنسان المقهور، وهو طابع يعمم على كل شئ، ويتجلى في الأغاني الشعبية التي تدخل في إطار المراثي، وتلك الأغاني الشعبية تندر فيها الأغاني ذات الطابع الفرِح المتفائل، أو المفعم بالحيوية في الموقف من الحياة، فالأغنية تعبير فصيح عن المعاناة الوجودية عمومًا، وتمركزها حول عذاب وآلام العشق ليس إلا ستارًا يخفي آلام الوجود التي تسقط على علاقة الحب.
الأغنية الحزينة مرآة يرى فيها إنسان مجتمعات القهر ذاته، ويعيش من خلالها إحباطاته، فهو يعيش حياة قاسية غالبا ما يكون مصدر معاناته أسباب اقتصادية معيشية، تفجر هذه الظروف داخله عدوانية طفلية كامنة في أعماق اللاوعي، ترتد على الذات وتشكل تهديدًا خارجيًا، وهذا المقهور الذي يرضخ لاعتباط الطبيعة، يتعرض بالتالي لتحرك هذه الانفعالات الأثرية في نفسه، وهو تحرك كفيل بأن يفقده كل شعور بالأمن، ويضعه أمام خطر الفناء، وهذا القلق تظهر انعكاساته في مواضيع الهجر والفراق الشائع في الأغاني الشعبية، وفي قسوة الحبيب وتجاهله للإنسان المحب الذي يجتر آلامه ويعاني من خوائه الداخلي، تلك السوداوية الشائعة في أغاني الجماهير المقهورة لا تكون تعبيرًا عن الحرمان الجنسي الفعلي فقط، بل هي وسيلة للتعبير عن الحرمان الوجودي أيضا، فقسوة الحبيب وتجاهله ليسا سوى الرمز الجلي لقسوة الحياة ووطأتها، وتلك بدورها تعود فتتصل بموضوع الحب من خلال إثارة قلق الهجر الطفلي، إن تلك المواضيع تشيع بشدة في أغاني عدوية وفي المهرجانات، وإن اختلفت الكلمات المعبرة وفقًا لكل عصر، ولكي يتضح الأمر لنلق نظرة عابرة على ظاهرة أحمد عدوية.
السح الدح إمبو
في كتابه “الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر” أورد والتر آرمبروست [1]عام 1993 شهادة على عدوية، فبينما كان في أحد “الميكروباصات” مع اثنين من أصدقائه وهما من أعضاء نقابة المحامين، استمعوا لأغنية “زحمة يا دنيا”، كانت الأغنية تثير إعجابه وتثير اشمئزاز صديقيه، فعدوية المغني الذي تحتقره وسائل الإعلام الرسمية لإمعانه في السوقية، ومن النادر أن تُذاع أعماله في الراديو أو التليفزيون، بل يمكنك الحصول عليها من حي العتبة السوقي أيضًا.
زحمة هي أغنية لعدوية في فيلم “شعبان تحت الصفر” لعادل إمام، والذي كانت تعد وسائل الإعلام أعماله سوقية هو الآخر في الثمانينيات، هذا الفيلم الذي ينتهي ومشكلات أبطاله المتحيزين للطبقة الوسطى غير محلولة.
تجتذب أغنيات عدوية الناس من الطبقة الدنيا الذين يشعرون بالإهانة على يد المؤسسة التي كان يجب أن تسهل صعودهم في السلم الاجتماعي، ويستجيبون لهذا الموقف بترديد كلمات أغنية يستنكرها نمط الناس الذين يسيطرون على المؤسسات، كأمثال نقابة المحامين والفنانين ووسائل الإعلام التي تتنكر لظاهرة عدوية.
كان عدوية في السبعينيات ثورة غنائية، فلم يكن يستخدم تقنيات الصوت المميزة للموسيقى العربية الكلاسيكية، بل كان يعتمد على مساحة صوته وحدته وقدرته وتصاعده، ولا تلتزم نغماته بإيقاع واحد حيث تكون سريعة جدًا وبطيئة جدًا في نفس الأغنية، وكلها تغنى على “الواحدة ونص”، كما كان عدوية يستفيد من الفلكلور في الكلمات والنغم على حد سواء، وأشهر ما قدمه في ذلك الصدد كان أغنية “السح دح إمبو” والتي هوجمت كأغنية تافهة بلا معنى، إلا أنها كانت قادرة على استقطاب المهمشين، فبالإضافة إلى أن عدوية كان يغني من الفلكلور الخاص بهم، كان يشير كذلك إلى الأماكن التي يعرفونها في أغانيه مثل كوبري عباس، وكان عدوية أيضًا يتميز بأن أغانيه ذات حس جنسي وغزل صريح وشعبي في محبوبته، وكان هذا المزج الموسيقي بين كلمات الأغاني البلدي والعنصر الحسي الجنسي، هو ما جعل عدوية مشهورًا، إلا أنه في زمانه كان مغضوبًا عليه من الصحافة والإعلام لأنه مبتذل، ولكن توجهه المباشر الصريح للجماهير بدون تطعيمه بأي من عناصر خطاب رفع مستواهم الثقافي، هو ما جعله مشهورًا في الشارع.
ومن عدوية إلى حسن الأسمر انتهاءً بمحمود الليثي والحسيني، عرفت الأغنية الشعبية تطورات مختلفة في موسيقاها وأدائها، ووصل هذا التطور ذروته في “المهرجان”.
ثورة المهرجانات: الصخب كفن شعبي
ما يميز المهرجان من اسمه أنه يشير إلى معنى أكبر من مجرد أغنية، فهو يشير إلى نمط احتفالي هيستيري.[2]، دشنه في البداية لاعبو الدي جي من أمثال فيجو وعمرو حاحا والسويسي، ونظرًا لأن ثقافة لاعب الدي جي تمتد لما هو أبعد من الأغنية العربية، وبتطور آلية صناعة الموسيقى من الآلات إلى برامج جاهزة على الحاسوب، أصاب إشعاع حداثي الأغنية الشعبية بموسيقاها التي دشنها عدوية، لتأتي في شكلها الجديد أكثر ضجة وإزعاجًا وسرعة، لتناسب الشباب والمراهقين المتحمسين للرقص بشكل جنوني، لقد كانت موسيقى المهرجان متأثرة بالنمط الموسيقي الغربي أكثر من النمط الكلاسيكي العربي، ولكنها تُغنى بكلمات عامية سوقية، ما جعلها مسخًا مرعبًا ومزعجًا لآذان النخبة التقليدية في وسائل الإعلام، وأعضاء نقابة الموسيقيين.
ولم تتوقف موسيقى المهرجان تلك عن التطور، فقد استفادت من أنماط غنائية تقاطعت معها مثل الراب، وهو ما أضفى على المهرجان الشعبي شكلًا أكثر اختلافًا عن الأغنية الشعبية المعهودة، ولكنهما في الأصل قد تمخضا عن خلفية واحدة، منذ عدوية وحتى حمو بيكا، فما هي؟
الهروب من المؤسسة
منذ ثورة يوليو 1952 والدولة المصرية تحاول السيطرة على وسائل الإعلام، بهدف تسخيرها لخدمة مشاريع الدولة القومية، لذلك كان لا بد من الموافقة على جميع الأعمال الفنية قبل بثها على القنوات التلفزيونية، كما كان يجب على الفنانين الانضمام إلى النقابات الرسمية، وبعد تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، أعطى شريط الكاسيت مساحة أكبر للعمل خارج نطاق سيطرة الدولة، والشريط هو الذي شهد ولادة عدوية كظاهرة غنائية للطبقات الدنيا، التي ضجرت من الأنماط الغنائية الكلاسيكية المكررة.
ولم يتوقف الأمر عند الشريط، فتسعينيات القرن العشرين وثورة القنوات الفضائية غير الحكومية، وبالتعاون مع الإنترنت، بعدها بعقد من الزمن زادت المساحة التي يمكن للفنان أن يعمل خلالها خارج سيطرة الدولة.،بإستغلال موقع “يوتيوب”، كان صانعو المهرجانات يعرضون أغانيهم في صفقة كانت خاسرة في البداية، ولكنها متنفسًا لهذا النوع من الفن الذي لم يلبث أن انتشر كالنار في الهشيم، وفتحت لهم أبواب قاعات الأفراح لتقدم هذا النمط الجديد من الأغاني، وما تبعه من ذلك من تطور المنصات الاجتماعية ودخول الإعلان والربح فيها شكل مصدر دخل واسع وحر بعيدًا عن ضرائب النقابة ورقابتها، واختبارات عضويتها للفنانين، وأمكن للمغني الشعبي الذي يكون فقيرًا مهمشًا غير متعلم على الأغلب، باستوديو تكلفته حوالي ألف جنيه مصري، أن ينطلق إلى عالم الشهرة والمال.
إن ظاهرة المغني الشعبي سواء كانت لديه موهبة الغناء أم لا، تندرج تحت تصنيف يسمى شباب الظل، للمفكر وعالم النفس مصطفى حجازي.[3]، وشباب الظل هم الأكثر عددًا في المجتمع العربي، فهم يمثلون الشريحة المهمشة الفائضة عن الحاجة والمستغنى عنها، وهي فئة مغبونة ماديًا محرومة من الإشباع الملائم لحاجاتها الأساسية، وهي محرومة ثقافيًا أيضا، حيث تشيع الأمية في الوسط الأسري، وتتدنى نوعية الحياة ذاتها، ولا تدخل في حسابات السلطة ومخططاتها إلا في مجال الحظر والقمع، لذلك ظهرت تلك الفئة من المغنيين في مناطق شعبية عشوائية مثل المطرية وحي السلام والدخيلة.
وكان من الطبيعي أن تحمل كلمات تلك المهرجانات ما لا تريد النخب التقليدية أن تسمعه ،من عنف وجنس وترويج للمخدرات، فكل تلك المشاكل تذكر الحكومة بأدوارها التي تقاعست عن علاجها، لذلك تحاول التضييق عليهم بقدر المستطاع من خلال النقابة، وعبر العديد من القوانين المطاطة، كالتي تمنع المغنيين الشعبيين من الغناء في المنشآت السياحية والملاهي الليلية، أو التي تعتزم إصدار تصاريح غناء لهم لمدة عام واحد، بشرط اجتيازهم اختبارات أمام لجان تحكيم نقابية من أجل مراقبة كلمات الأغاني.
صناعة المهرجانات كصناعة غير مؤسساتية لا تخضع للرقابة الحكومية، تتيح فرصة كبيرة للربح، فنظرة واحدة على موقع socialblade[4] تمكنك من الإحاطة علمًا بما يربحه أبطال المهرجانات الشعبية، مثل حمو بيكا شهريًا من موقع يوتيوب، وهو ما يعادل ملايين الدولارات في السنة الواحدة.
وحمو بيكا هو شخص يتشاطر نفس الماضي البائس مع أشخاص يشبهونه، وفي مجتمع استهلاكي دأب على تقليص صور النجاح التي تعرفها البشرية من العمل الجاد، واختزالها في ما يحقق كسب مادي واسع، بالإضافة إلى صعوبة المعيشة في مصر يتجه الكثيرون إلى المهرجانات كوسيلة للكسب السريع، خصوصًا إذا ما قورن بقلة التكلفة لصناعة مهرجان واحد وترويجه.
المهرجان كتراث: المعادلة الصعبة
إن المهرجانات تعطي فرصة شبه مضمونة لفئات كانت مهمشة وبائسة لاختراق الأبراج العاجية للنخب التقليدية والطبقة العليا، والمثير للسخرية أن ذلك يحدث من خلال الحديث في الأغاني عن مشكلات تعلمها الحكومة بالفعل، ولكنها تلك المرة في صورة مشكلات قابلة للرقص عليها، وتفجير الطاقة الكامنة داخل الشخص المقهور لتعبر عنه.
فهل تتحول تجربة المهرجانات المبتذلة في نظر النخبة التقليدية إلى تراث فني يومًا ما؟
ربما، وهذا ما تؤكده شواهد الحالات السابقة، فأحمد عدوية بعد أن أصابه الهرم والعجز أصبح مثالًا للأغنية الشعبية المصرية، تتشدق به وسائل الإعلام التي كانت تهاجمه في الماضي، وحين بدأ المهرجان في غزو الساحة الفنية المصرية في أعقاب ثورة يناير 2011، رأينا أن النخب الإنتاجية المرموقة وقفت في وجه تلك المهرجانات، باستخدام جيل سابق من المغنيين الشعبيين مثل عبد الباسط حمودة، الذي تصدر حملة إعلانية لبيبسي في عام 2013 مع المطربة نيكول سابا، والآن يغزو مطربو المهرجانات الشعبية الإعلانات والأفلام والمسلسلات، فهل يعد ذلك يومًا ما تراثًا؟
إن التراث بوصفه تراكمًا من الآداب والفنون والعادات والتقاليد تعبر عن عصر ما، هو بالطبع يتسع لأن يحوي في داخله ظاهرة شعبية كظاهرة المهرجانات، فحين استفادت طبقة المهمشين في المجتمع من تقنيات الحداثة الغربية لتصنع شكلًا من أشكال الفن، سواء كان مبتذلًا أم محترمًا، إلا أنه كان خير معبر ومجسد لمأساة المهمشين بمشكلاتهم وأحلامهم في مجتمع رأسمالي معولم، تتسع فيه الهوة الطبقية على أشدها، مثلما كانت ظاهرة عدوية تعبر عن نموذج المهمش الناجح في عصر الانفتاح الاقتصادي في القرن العشرين.
المصادر
[1] الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر – والتر آرمبروست
[2] https://www.equaltimes.org/how-egypt-silences-popular-and?lang=en#.YMpR3mgzbIV
[3] الإنسان المقهور – مصطفى حجازي
[4] https://socialblade.com/youtube/channel/UCiiD_R4dsPT3ZZg5KuJd0hg