في كتابه “تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط” الذي نشرته “دار الشروق” من ترجمة أمينة للباحث والمترجم “شريف يونس”؛ يتجاوز الكاتب “زكاري لوكمان” نقد “الاستشراق” الذي قدمه إدوارد سعيد عام 1978 في كتابه الشهير الذي أحدث زلزلة في الأوساط الأكاديمية المختصة بدراسة الشرق الأوسط في الغرب. كان واحدًا من المآخذ والنقد الركيك الذي وُجه لإدوارد سعيد أنه كتب الكتاب غير متحرر من ذاتيته وأيدلوجيته، وتلك كانت إحدى الاتهامات الرئيسة التي وجهها إليه المستشرق “برنارد لويس” حين وصف الكتاب قائلًا: “سعيد وغيره من ناقدي الاستشراق اتهموا كل الباحثين الذين درسوا الإسلام والشرق الأوسط بالاشتراك في مؤامرة عميقة وشريرة في خدمة السيطرة الغربية. ليست هذه الهجمات على الاستشراق جديدة حقًا، فمؤخرًا بدأ العرب مدفوعين أولًا بمعارضتهم الإيديولوجية للصهيونية وإسرائيل و\أو الولاء للماركسية؛ سلسلة من الهجمات الفجة المفرطة على الاستشراق“. [1] ومن هنا، تكمن أهمية دراسة “لوكمان” عن الاستشراق ومفهمة الشرق الأوسط بالنسبة للغربيين، فـ”لوكمان” أستاذ كرسي دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة نيويورك هو كاتب يهودي الديانة وأمريكي الجنسية، حصل على الدكتوراة بدراسة مهمة عن تاريخ الحركة العمالية المصرية، وقد ظل مدة طويلة يعمل على هامش المجال البحثي في بلاده بسبب مواقفه اليسارية، إذ ينتمي “لوكمان” إلى تيار يساري من الباحثين أمثال “جويل بينين” و”رجر أوين”، الذين تهتم دراستهم البحثية بالوقوف ضد المنظومة الفكرية الاستشراقية الأوسع التي تحمل سمات عنصرية بها رؤية انتقاصية تجاه العرب والمسلمين، ويهتم بالوقوف إلى جانب مساندة الحقوق النسوية ومكافحة العنصرية ضد الأمريكيين السود وضد التقسيم العالمي للعمل الذي يأتي على حساب مجمل شعوب العالم الثالث، وهكذا كان هذا الجيل من الباحثين يعيد صياغة المجال البحثي في شئون الشرق الأوسط. إلى جانب ذلك، ينشط “لوكمان” في حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وفي عام 2015 شكل تحالف حرم جامعي يتكون من أعضاء هيئة التدريس والطلاب والمنظمات الطلابية؛ يحث جامعة نيويورك على سحب استثماراتها من الشركات التي تسهم في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتتربح منه، وقد ترأس جمعية دراسات الشرق الأوسط (MESA) ذات الشأن الكبير في هذا المجال البحثي في الدراسات الأكاديمية بالولايات المتحدة. ولم تتسم آراء “لوكمان” في نقد إسرائيل بالهدوء المتوقع من باحث غربي موضوعي حينما يبحث في الشأن الفلسطيني، فهو لطالما يصف دولة إسرائيل بمشروع صهيوني استعماري، كما أنه لم يخش التلويح بجريمة معاداة السامية وشبه “بن غوريون” رئيس الوزراء الأول لإسرائيل بأدولف هتلر حين قال: “لا توجد وثيقة تقول أن بن غوريون قال اطرد كل الفلسطينيين، لكنني لست متأكد من أنك بحاجة لواحدة كما أنك لست بحاجة لوثيقة تقول أن هتلر قال اقتل كل اليهود، فالنقطة المهمة هي أنك لا تحتاج دائمًا إلى أدلة وثائقية لاستخلاص النتائج”.
تلك هي خلفية الكاتب، الذي قدم كتابه في وقت لم يكن هناك من الكثيرين من يجرؤ على الكلام، في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وإبان غزو الولايات المتحدة للعراق، حيث نُشر الكتاب عام 2004 حين كانت تتهم أصوات الأكاديميين من أمثال لوكمان بأنهم يحاولون تقويض السياسة الخارجية لوطنهم ويعملون ضد الوطن بوضوح.
من أوروبا المستعمرة إلى أوروبا الاستعمارية
في مقدمة الكتاب يلفت “لوكمان” النظر إلى أنه يتوجه بكتابه إلى المثقف الأمريكي غير المتخصص حين يقول: “كتبت هذا الكتاب لأنني شعرت أن من الضروري للأمريكيين -خصوصًا بعد 11 سبتمبر 2001 – أن يكتسبوا فهمًا أكثر نقدية وتاريخية سياقية لأنواع المعرفة بالشرق الأوسط والإسلام؛ التي أنتجها وينتجها ويتداولها الباحثون والصحفيون والمعلقون والمسئولون الحكوميون وغيرهم، وآمل أن يساعد الأمريكيين على فهم كيف تدعم تلك التفسيرات المختلفة سياسات بعينها؛ تعكس واقع ممارسة بلادهم قوتها الهائلة في العراق وفي غيرها لهؤلاء الذي تمارس عليهم هذه القوة وكيف يشعرون بها، وفي هذه الفترة الكئيبة التي يدّعي فيها قادة الولايات المتحدة أنهم منشغلون بشن “حرب على الإرهاب” تبدو بلا نهاية، وتبدو لجانب كبير من بقية العالم محاولة لتحقيق سيطرة عالمية دائمة“. [2]
ومن هنا ينطلق لعرض تطور رؤية الغرب تجاه الشرق منذ فجر التقائهما وعمق تلك الرؤية الغريبة السلبية للمسلمين والعرب في سبعة فصول تتسلسل تاريخيًا، ويبدأ الفصل الأول بتناول بداية المعرفة لدى المسيحيين الذين عاشوا في العصور الوسطى فيما يعرف اليوم بأوروبا الغربية التي يتعرفون بموجبها إلى الإسلام، أي تلك العقيدة الجديدة التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية خلال العقد الثالث من القرن السابع الميلادي، وانتشرت بسرعة تفوق نظائرها من الأديان عبر مناطق واسعة من العالم الذي كان معروفًا لهم آنذاك، إذ رأت التصورات المسيحية عن الإسلام في ذلك الوقت أنه دين وثني، وهناك من رأوه بمثابة هرطقة داخل الديانة المسيحية لأن تعاليمه تحمل كثيرًا من التشابه مع تعاليم المسيحية، وقد مُزجت تلك الرؤية برؤية عرقية إلى العرب بحد ذاتهم بصفتهم حاملي هذا الدين وحكام إمبراطوريته، وحتى نهاية القرن الثاني عشر ظلت تلك الأفكار المشوشة هي الفهم السائد عن الإمبراطورية الإسلامية الواسعة المزدهرة.
ويقف “لوكمان” على احتكاك الغرب بالشرق من خلال تزايد التجارة والحج والغزوات التي وصل بها المسلمون إلى أوروبا ذاتها وأقاموا دولهم في إسبانيا وصقلية، فمنذ نهايات القرن الحادي العشر بدأ بعضٌ من المسيحيين “المتُعلمين” ورجال الدين الوقوف على تطوير صورة أكثر وضوحًا عن الإسلام دينًا والعرب شعبًا، ولكن لم يكن لتلك الصورة -التي لم تكن دقيقة على كل حال- أن تشكّل تيار الفهم السائد لدى مسيحيي أوروبا عن الإسلام والعرب، فقد ظلت الروايات الشعبية والأشعار والأزجال تنشر تصورات أكثر غرائبية عن الإسلام ونبيه، ويلفت الكاتب النظر إلى أن تلك التصورات ما زالت تعيش في مخيّلة الغرب عن الشرق حتى اليوم، إذ ترى صورة المسلم المتعطش للدماء والنساء، والغارق في روحانية وورع كاذبين تنتشر في الأفلام والمسلسلات الهوليودية والكاريكاتيرات الصحفية في المجلات.
تغيّر الأمر قليلًا مع بداية القرن الرابع عشر، وتلك المرحلة يرصدها “لوكمان” في الفصل الثاني من الكتاب، حين كان عصر الحملات الصليبية قد انتهى وباءَ بالفشل من حيث الجوهر؛ فلم يبقَ عند المسيحيين الأوروبيين الغربيين اهتمام أو طاقة تذكر لمزيد من الحملات لاستعادة الأرض المقدسة من أيدي “الكفار”، وتراجع التهديد الذي يشكله الإسلام عسكريًا وإيديولوجيًا، وأقيمت العلاقات السلمية بسبب التجارة التي ازدهرت عبر البحر المتوسط الذي سيطرت عليه دويلات المدن الإيطالية. ومع بزوغ عصر الدولة العثمانية في القرن السادس عشر بدا أن لدى الأوروبيين الغربيين أسباب قوية لاعتبار العثمانيين الذين كانوا يسمونهم “الأتراك” -وقد ظلت تلك اللفظة تستخدم مرادفًا للمسلمين فيما بعد- تهديدًا خطيرًا، فقد مرت فترات طويلة بدا أثناءها أنه لا يوجد جيش أو دولة أوروبية تستطيع أن تقاوم القوات العثمانية التي بدت لا تُقهر حينها، ولكن برغم أن الدولة العثمانية كانت دولة مسلمة رسميًا؛ لم يعتبر التهديد الذي مثلته لأوروبا تهديدًا دينيًا أو أيديولوجيًا؛ برغم أن التحالفات التي تشكلت لمواجهتها كانت تقوم باسم المسيحية وكانت البابوية تدعمها، ففي الواقع؛ كانت الروح الصليبية قد ذابت في أوروبا منذ زمن، وحلّت محلها سياسات السلطة المتعلقة بنظام دول صاعد كان العثمانيون منغمسين فيه بعمق رغم اعتبارهم مختلفين ثقافيًا، وكانت علاقتهم بدول أوروبا المسيحية محكومة بسياسة المنفعة ومصلحة الدولة، ومن طرف بعض الأوروبيين، كان اعتناق الإسلام يفتح أبوابًا للتفوق والأحلام من خلال المحاربة في جيوش العثمانيين، وفي ذلك الوقت الذي ترافق مع عصر الإصلاح الديني البروتستانتي وانقسام المسيحية إلى كنائس متناحرة فيما بينها؛ لم يعد الإسلام قضية ملتهبة في حد ذاته ولذاته، لكن كان بالأحرى شيئًا تستعمله جماعة ما من المسيحيين للهجوم على مسيحيين أُخر، فمارتن لوثر -كمثال- قد تهجّم على الإسلام في بعض دعاويه لكنه لم يكن بالنسبة له العدو الرئيسي للمسيحية بقدر ما كانت الكنيسة الرومانية الفاسدة التي يرأسها البابا، وقد أصر لوثر على أن العالم المسيحي لن يهزم الإسلام إلا بهزيمة العدو المسيحي في داخل الديانة واستعادة الإيمان الحقيقي أولًا. وفي تلك الحرب قد تورط العثمانيون بعض الشيء في حلف مع البروتستانت (فرنسا وبعض الدويلات البروسية)، إذ كان عدوهم المشترك هو الإمبراطورية التي تحكمها أسرة الهابسبورج حصن الكاثوليكية. وفي ذلك الوقت؛ ورغم انتشار بعض الروايات الشعبية عن شناعة وقسوة العثمانيين وتعطشهم للحريم والسبايا؛ كان هناك بعض من الدبلوماسيين الذين حاولوا أن يفهموا تلك الدولة فهمًا أهدأ، بل مدحوها، مثل المؤرخ الفرنسي “جان بودان” و”أوجير دي بوسبيك”. ولكن تلك الجهود لفهم الإسلام والدولة العثمانية سرعان ما خفتت مع انحدار الدولة العثمانية، وبدء تغيّر الإدراك الأوروبي للإمبراطورية العثمانية وتفسير مشكلاتها بنشوء صورة أوروبا عن نفسها وليس بما كان يحدث فعليًا داخل الإمبراطورية، ففي أواخر القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر أصبحت الدول الأوروبية القائدة أكثر مركزية وبقرطة وقوة؛ تحت تأثير الإصلاح الديني والحروب الدموية التي شكلت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، الأمر الذي دفع رجال الدولة والفلاسفة والسياسيين الأوروبيين إلى البحث عن طرق لإضفاء المعنى على ذلك العالم الذي يتغير بسرعة من حولهم، من خلال ما عُرف بعصر التنوير الذي اعتبر الدولة العثمانية نموذجًا للاستبداد لا ينتمي إلى التاريخ الحضاري لأوروبا، وصُنفت فيما بدأ يُعرف بـ”نمط الاستبداد الشرقي”، ولكن في نفس الوقت، وبسبب مذكرات بعض الرحالة الأوروبيين في البلاد الإسلامية ومستعمرات الدولة العثمانية؛ تم تقديم منظور مختلف عن الشرق لدى الأوروبيين من غير الأميين؛ يرى الحياة في الشرق الإسلامي حياةً إنسانيةً لها محدداتها التي تتماثل مع حياة الإنسان الأوروبي. وبسبب ظهور منهج علمي ونقدي أصبحت تظهر بعض الدراسات الجادة عن فهم الإسلام والمسلمين، وستشهد الفترات التالية تقدمًا عظيمًا في الدراسة الغربية للإسلام والشرق الأوسط، ولكن التطورات التاريخية -بما فيها تغيّر علاقات القوى بين أوروبا والشرق الأوسط- سوف تعزز مصادرًا وأشكالًا جديدة لسوء الفهم والتشويه.
ويقف لوكمان في الفصل الثالث على ظهور “الاستشراق” بوصفه فرعًا بحثيًا مجسدًا في مؤسسات ومسارات مهنية مُحددة جديدة، وانتشار ترجمات كثيرة ومنشورات بحثية كانت “فرنسا” أحد أهم مراكزها منذ أن أقيمت مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس عام 1795 وكان بها قسم لتدريس اللغة العربية، وتزامن هذا كله مع الاهتمام المتزايد بالشرق الذي يصل إلى حد الولع أحيانًا، فكثير من المفكرين والكتاب المنتسبين للحركة الرومانتيكية في الأدب والفن الأوروبيين في العقود المبكرة من القرن التاسع عشر، الذين رفضوا عقلانية التنوير وأكدوا على العواطف، قد رأوا في الشرق مستودعًا للحكمة لم يكن متاحًا في أوروبا، ففي هذا السياق أنتج المسرحي الألماني “يوهان فون جوته” أشهر أعماله المسرحية الشعرية “فاوست” والذي يقتبس بشدة من الخيال والموضوعات الإسلامية، ويقلد الأساليب الأدبية العربية والفارسية، بالإضافة إلى أعمال لشاتوبريان وغوستاف فلوبير، ولكن تلك الأعمال قد ساد فيها تصور عن شرق تحتجب فيه الحريم، ويظهر فيه المسلم شهوانيًا وعنيفًا ومنحرفًا جنسيًا، وقد اتخذت المرأة المسلمة دورًا هامًا في ذلك العصر، حتى أن الباحث نورمان دانييل في كتابه “الإسلام والغرب” يقول: “ما من موضوع مرتبط بالإسلام اعتبره الأوروبيون أكثر أهمية من حالة المرأة المسلمة”. وذلك الافتتان بما يجري في “الحريم” هو ما أنتج صورًا ولوحات عن نساء مسلمات عاريات أو نصف عاريات سادت لوحات الرسامين المستشرقين آنذاك، فكان الطابع الجنسي والغرائبي هما محددا النظرة إلى الشرق الإسلامي التي سادت آنذاك. وإلى جانب ذلك كتب العديد من المفكرين نظرياتهم عن الشرق الإسلامي مثل كارل ماركس وماكس فايبر، متأثرين بمعارف مشوهة عن الشرق. وبظهور “الداروينية” في أواخر القرن التاسع عشر أصبح هناك تفسير سائد بوجود “إنسان إسلامي” له تركيب ذهني ثابت يختلف جوهريًا ويتناقض مع التركيب الذهني للإنسان الغربي، وبناء على ذلك التفسير الدارويني توسعت الدول الأوروبية الاستعمارية مثل “فرنسا وبريطانيا وبلجيكا” التي تقول بأن تفوق الغرب السياسي والثقافي ليس فقط نتيجة للقيم والمؤسسات المتفوقة لتلك الحضارة، ولكن نتيجة للصفات البيولوجية المتفوقة للإنسان الأبيض على غيره من الأعراق، وكان هذا محور دراسات “إرنست رينان” الفيلسوف الفرنسي.
الاستشراق الأمريكي
كانت الفصول الثلاثة في بداية الكتاب هي الأهم في التأسيس، لتتبع مفهمة صورة المسلم والشرقي التي انتهت إلى تفوق أوروبي ذي طبيعة بيولوجية ستنشأ نتيجة عليه مجالات للبحث العلمي، وبدايةً من الفصل الرابع ينتقل الاهتمام بمجال البحث الاستشراقي من أوروبا الاستعمارية إلى “الولايات المتحدة الأمريكية” التي ورثت المستعمرات الأوروبية بعد حربين عالميتين أصبحت أمريكا في نهايتهما القوة العظمى الأهم، ما أسماه الكاتب “القرن الأمريكي”. وقد أخذت الولايات المتحدة في دعم توجه الاستشراق والإنفاق عليه لفهم التغيرات الاجتماعية والسياسية السريعة التي تحدث في منطقة الشرق الأوسط، التي أخذت بلدانها في التحرر من الاستعمار وبدأت في بناء دول علمانية، مثل: حكم البعثيين في سوريا والعراق، وبورقيبة في تونس، وعبد الناصر في مصر، والشاه بهلوي في إيران. وبسبب ذلك الاهتمام الذي وُلد بدوافع الأمن القومي الأمريكي؛ يكشف الكتاب بدءًا من الفصل الرابع كشفًا غير مباشر عن مدى التقارب بين اليمين الأمريكي ودراسات مستودعات الأفكار التي تدعمه “Think Tank” وقد ظلت السيادة في مجالات البحث العلمي حتى نهاية السبعينيات للأصوات العنصرية من أمثال “برنارد لويس” و”هاملتون جُب” و”صامويل هنتجتون” صاحب نظرية “صدام الحضارات”. ورغم ذلك كانت هناك بعض التيارات المناهضة لذلك التيار السائد للفهم، والتي ظهرت في سياق حركة الحقوق المدنية وحرب فيتنام في السيتينات، وهذا موضوع الفصل الخامس، لكنها لم تُزلزل مجال البحث الاستشراقي حتى ألقى إدوارد سعيد قُنبلته عام 1978م، والذي يخصص “لوكمان” الفصل السادس لدراسة أثر الكتاب في الحقل العلمي ونقده والصدى الذي أحدثه عربيًا وعالميًا، ويفرد فيه مناظرات ومعارك أدبية خاضها إدوارد سعيد مع متعصبين من أمثال “برنارد لويس”. وفي الفصل السابع والأخير، يفرد الباحث آثار منهج إدوارد سعيد في الدراسات الاستشراقية اللاحقة على كتابه وكيف أحدث كتابه زلزالًا في حقل البحث الاستشراقي رغم ما به من مشكلات منهجية في البحث.
تنبع تلك الدراسة من إحساس من الكاتب بالمسئولية عن أن يُجيب للقارئ الأمريكي عن سؤال: “لماذا كان هناك من العرب من تعاطف مع بن لادن في فعلته؟” أو “لماذا يكرهوننا؟” إذ يؤكد “لوكمان” أن هناك أنواع فهم معينة للعالم تعمل، وأشكال بعينها من المعرفة يمكن أن تؤدي إلى إدراك مشوه للواقع وعواقب غير متوقعة وكارثية، فالأطر التفسيرية التي يجري إنتاجها وإعادة إنتاجها داخل سياقات سياسية وثقافية معينة؛ شكلت بدرجة كبيرة فهم صنّاع السياسة وكثيرين في الغرب للإسلام والشرق الأوسط، من خلال الدور الذي لعبه التصوير الاستشراقي للإسلام بوصفه حضارة واحدية في مرحلة انحطاط، وتصور نظرية التحديث لطبيعة ومسار التغير الاجتماعي والثقافي والسياسي في العالم الثالث والتراكيب المختلفة منهما، أدوار مهمة في تشكيل طريقة المسئولية ووسائل الإعلام والجمهور في إضفاء المعنى على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، والتأثير عن طريق ذلك في السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة في هذا الجزء من العالم، بالإضافة إلى المصالح الاجتماعية والمطامع الإمبريالية. أو بمعنى آخر، كتب “لوكمان” هذا الكتاب على حد ادعائه لأن المجتمع الأمريكي لم يعد يستطيع أن يتحمل ثمن “عدم المعرفة”[3]. فتكاليف فقدان الذاكرة التاريخية والجهل الإرادي وسوء الفهم الفج بشأن بقية العالم الذي ينتشر في المجتمع والثقافة والسياسية الأمريكية لا يُحتمل إلا أن يزيد إذا استمر، والأبرياء في كل مكان في العالم هم الذين سيدفعون الثمن بأرواحهم وجثثهم.
المصادر
[1] تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط، زكاري لوكمان، ترجمة: شريف يونس، دار الشروق 2007، ص(307).
[2] تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط، زكاري لوكمان، ترجمة: شريف يونس، دار الشروق 2007، ص(29).
[3] تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط، زكاري لوكمان، ترجمة: شريف يونس، دار الشروق 2007، ص(426).
تعليقات علي هذا المقال