يجادل هذا الملف بمقدمته ومقالاته الأربعة بأن السياسة في مصر الآن تصنع من فواعل جديدة بجوار القديمة منها، وتتحدد ملامحها بخصائص جديدة ومن مادة جديدة، وتصاغ أشكالها وترسم تفاعلاتها في مجالات جديدة وبقضايا لم تكن مطروحة من قبل.
وهكذا فإننا في مصر -كما في العالم من حولنا- نشهد إعادة تعريف للسياسة من مداخل جديدة؛ أعادت تحديد خصائصها وفواعلها وخطابها ونوعية الأولويات فيها.
تتقاطع مساحات السياسة بين عوامل ثلاثة: طبيعة الدولة في أدوارها ووظائفها المعاصرة، واقتصاد السوق أو الرأسمالية في مرحلتها التي تطورت إليها ذات الطبعة النيوليبرالية، وأخيرا البعد الديني/الثقافي.
التفاعل بين هذه المحددات الثلاثة يرسم أوضاعا جيو-استراتيجية مستجدة ومتغيرة دائما.
يتعامل البعض مع هذه العوامل باعتبارها مجالات منفصلة، وقليل من يدرك أن التطور فيها جميعا جوهره واحد؛ وهو المراوحة بين الوحدة وبين التجزئ أو التفسيخ، في الوحدة نتكلم عن السيادة المطلقة للدول والسوق الواحد الذي تصنعه الدولة القومية والخطاب الديني الصحيح الذي يتضمن فهما وتفسيرا وحيدا للنصوص الدينية.
وفق منطق التجزئ والتفسيخ فنحن مع سيادة ناعمة أو تلاشي للسيادة بالكلية بحكم العولمة وسلاسل التوريد ودور أكبر للمؤسسات المالية الدولية، وأسواق متعددة لا سوق واحدة، منها ما هو مندمج بالكلية في الرأسمالية والأسواق الدولية، ومنها لا يزال تقليديا يقدم خدماته لجمهور محلي ضيق.
أما الخطابات الدينية فانتفت منها عبارات القول السديد والقول الصحيح ليتقدم القول المناسب الذي يتضمن التغير والتبدل والاختلاف على حسب أحوال الناس، لكن الأهم أن ما يحكمها هو النفع والعملية وفق منطق الإجابة على أسئلتهم العملية والمباشرة، ويلاحظ أن جزءًا معتبرا من حالة التدين -كما في الدولة والاقتصاد- يسوده منطق الاستهلاك، وعندما تتحدث عن الاستهلاك فأنت لا تتحدث عن مواطن في علاقته بالدولة ولكن عن مستهلك أو زبون في علاقته بجهة الاستهلاك، ويتم وفقا له تسليع الرموز الدينية؛ حين يجري استهلاكها كبقية السلع المادية.
يتضافر مع هذا -بما يعمق التجزئة- أن العالم ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين لم يعد يتعامل وفق منطق الأيديولوجيات الشاملة؛ ولكن قواه وموارده الآن تتوزع على ملفات أو قضايا واضحة ومحددة: حقوق الإنسان، البيئة والتغير المناخي، النوع الاجتماعي، مناهضة الفساد، والعنصرية …إلخ ، وهي قضايا وإن تحولت إلي منظور متكامل إلا إن لكل منها منطقه الذاتي الذي يختلف عن القضايا الأخرى، والأهم أنها أنشأت ما بات يطلق عليه في أدبيات المجتمع المدني “أصحاب المصلحة” -أي الأطراف المهتمة والمتأثرة بالقضية مباشرة أو بطريق غير مباشر- وهو ما سنناقش تأثيره في السياسة لاحقا.
ولكن كيف لهذه المقالات الأربعة أن تساعدنا في فهم بعض من ملامح إعادة تعريف السياسة الجارية في مصر الآن؟
انتفاء الحدود الفاصلة بين الداخل/الوطني وبين الخارج/الدولي والإقليمي
مثلت سياسات الدولة المصرية الخارجية نموذجا للاعتماد على الأطراف الخارجية بشكل كبير لحل أزمات داخلية بالأساس، ما مثل إغراقا في التبعية والاندماج في شبكات مصالح اقتصادية واجتماعية محلية هي نتاج لسياسات اقتصادية إقليمية ودولية وقد تمت ترجمتها إلي أدوار أمنية.
ترى مقالة “من يصنع السياسة الخارجية” بحق أن “طلب المساعدات الخارجية هو أحد أهم أنشطة نظام الحكم في مصر” لأنها تحولت للأسف كأحد المكونات الأساسية لاستقرار نظام الحكم واستمراره؛ فهذه الموارد يتم تعبئتها لخدمة النظام السياسي وتعويمه لأكبر فترة ممكنة، بالإضافة إلي خدمة شبكات الامتياز المحلية والدولية والإقليمية، وقد نتج عن ذلك أن الخارج بات أكثر تأثيرًا في مجريات السياسة الداخلية المصرية وبشكل متصاعد.
كثرة الفاعلين السياسيين وتداخلهم
تقدم لنا مقالة حقوق الإنسان مثالا تتداخل فيه العديد من المستويات والفاعلين في رسم مشهد حقوق الإنسان في أية دولة؛ “فثمة بعد محلي حاضر بقوة يتمثل في إرادة وقدرة النظام السياسي، وقوة وتأثير حركة حقوق الإنسان والديمقراطية الوطنية؛ ولكن يتداخل مع ذلك جوانب إقليمية ودولية تؤثر في مجريات الأمور عبر أدوات قانونية وسياسية متعددة.”
وكما تنتهي المقالة: فإن الأنظمة التسلطية -كما النظام المصري- تجد نفسها محاصرة على الساحة الدولية بالانتقادات الحقوقية من جهات عديدة تشمل آليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، وحكومات الدول الغربية، وأخيرا منظمات وحركات حقوق الإنسان الدولية، ويتشابك تأثير الجهات الثلاثة مع نضال حركة حقوق الإنسان المحلية لاكتساب أرضيات جديدة كل يوم.
لكن دلالة موضوع حقوق الإنسان لا تقتصر على كثرة الفاعلين السياسيين وتداخلهم؛ ولكنها نموذج يمكن أن يطلعنا على عديد من السمات والخصائص للسياسة في القرن الواحد والعشرين.
سياسة لا أيديولوجية
بمعنى اختفاء المنطق الشامل الذي ميز الأيديولوجيات التي سعت لتقديم إجابة على الأسئلة الكبرى التي تفسر سر الوجود الإنساني وغاياته الكبرى.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي ومع انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة شهدنا -كما قدمت- تراجعا في الأيديولوجية لصالح مدخل جديد بات سائدا منذ ذلك التاريخ يقوم على القضايا، وهي قضايا وإن تحولت إلى منظور متكامل إلا إن لكل منها منطقه الذاتي الذي يختلف عن القضايا الأخرى، والأهم أنها أنشأت ما بات يطلق عليه “أصحاب المصلحة”.
يتسم أصحاب المصلحة بالتغير وعدم الثبات وفق كل قضية، ولا ينفي ذلك التقاطع بينهم في بعض الأحيان، فأصحاب المصلحة في قضايا حقوق الإنسان يختلفون وقد يتقاطعون مع أصحاب المصلحة في قضايا البيئة؛ بل إن كل قضية فرعية تحت التصنيف العام يختلفون أيضا؛ فمن يهتم بحرية التعبير قد يختلف ويتقاطع مع من يهتم بحرية الانتخابات برغم أنهم جميعا يخدمون حقوق الانسان، وخبرات هؤلاء ومهاراتهم بالتأكيد قد تختلف.
في هذه الملفات تذوب الحدود الفاصلة بين الداخل والخارج؛ فالتمييز لم يعد بين إطار وطني وغير وطني، ولكن بين المهتمين بنفس القضية والمتأثرين بها في العالم كله، وفاعليتهم في خدمة القضية تتأتى من قدرتهم على بناء الشبكات العابرة للحدود الوطنية والأيديولوجية، وما يجمعهم القيم والتقاليد والقواعد التي تحكم هذا المجال؛ فالحركة المصرية لحقوق الانسان -مثلا- تضم ناشطين من خلفيات أيديولوجية متعددة، لكن القاسم المشترك بينهم هو ما يسود في هذه القضية من مرجعيات تحكمها.
ما نحب أن نؤكد عليه أن السياسة لم تعد تصنع في المؤسسات السياسية التقليدية فقط من أحزاب أو برلمانات أو حكومات، ولم يعد ينفرد فيها الرئيس وزمرته الضيقة بالتقرير؛ بل تشترك فيها قوى وأطراف عديدة في الداخل والخارج.
والملاحظ أن أصحاب المصلحة يقومون بالعديد من الأدوار التي اختصت بها المؤسسات السياسية التقليدية؛ من صياغة للقوانين والتشريعات واقتراح للسياسات، والضغط لمنع إصدار قوانين أو اتخاذ إجراءات.
السياسة المستندة إلى أصحاب المصلحة تؤدي إلى نتيجتين هامتين، هي من خصائص السياسة في المستقبل:
الأولى: مزيد من المجموعات المشاركة في صنعها؛ كأخوة يوسف الذين يدخلوها من أبواب متفرقة لا من باب واحد.
في سياسة أصحاب المصلحة، التحالفات عابرة ومؤقتة ويتم إنشاؤها لسبب معين، ويجري فيها تهميش الأيديولوجية، ويتحول النقاش أو يغلب عليه الجانب التقني أو الفني وإن تلبس بلبوس قيمي؛ حيث الحديث في الأساليب الصحيحة لإدارة الاقتصاد، أو مشاكل الفساد وانعدام الشفافية، وليس حول اقتصاد اشتراكي في مواجهة آخر رأسمالي.
وأخيرا؛ فإنه يشكل خطوط صراع سياسي جديدة، وقدرته على طرح بديل متكامل تظل محدودة لأنه يقدم سياسات وإجراءات محددة لما يعترض عليه؛ ففي حملة إنترنت غير محدود التي دشنها عدد من الشباب المتخصص بالتكنولوجيا لمعالجة مشاكل الإنترنت في مصر، تم تقديم بدائل واضحة للسياسة المطبقة مثل تقليل سرعة الإنترنت بعد انتهاء الباقة، وغيره من المقترحات التي تعالج المشكلة بشكل مباشر، ولم يحدث أن تم ربط ذلك بقضايا أكبر من قبيل نمط تعظيم الربح في الرأسمالية، كما تظهر في شركات الاتصالات، ولا طبيعة العلاقة بين هذه الشركات وبين شبكات الامتياز المحلية والإقليمية، ولا حتى الاحتكار الذي تمارسه.
الملمح الثاني: أننا نلحظ بروز استقطابات جديدة بخلاف الاستقطاب الإسلامي – العلماني الذي ساد على مدار العقود الأربعة الماضية، صحيح أن هناك من يريد أن ينفخ في الأخير لبقاء واستمرار وظيفته ومكانته وللتغطية على الاستقطابات الأخرى؛ ولكننا نجد أن الاستقطابات تنشأ وفق منطق كل قضية وليس وفق الاعتبارات الأيديولوجية -كما كان سائدا من قبل، وهي ظاهرة يمكن أن نطلق عليها تشظي وسيولة الاستقطابات، وهو ما نتناوله في النقطة التالية.
تشظي وسيولة الاستقطابات
سيطر علينا ولا يزال لعقود أربعة أو يزيد الاستقطاب الإسلامي – العلماني؛ في وقت نشهد فيه -واقعيا- تشظي الاستقطابات وتشرذمها إلى فئات عديدة، ليس استنادا إلى أسس أيديولوجية مستقرة، ولكن حسب القضية المطروحة أو المعروضة، ومع كل قضية نجد أن مواقع الأطراف فيه تختلف؛ فيتقارب من تباعدوا من قبل، ويتباعد من تقاربوا من قبل.
يمكن الإشارة إلى عديد الأمثلة: فتعديل قانون الأسرة؛ لم يعد الانقسام فيه بين إسلاميين وعلمانيين، ولا بين متدينين ونسويات، ولكن توزعت أطرافها بين هؤلاء وأولئك، وأضيفت إليهم مجموعات عديدة من “أصحاب المصلحة” من أمثال الرجال الذين أطلقوا صفحات كثيرة لتأكيد حقهم في الرؤية -رؤية أطفالهم بعد الطلاق- أو لمعالجة بعض الآثار والتداعيات السلبية عليهم.
مجالات جديدة تظهر من خلالها السياسة
يلفت نظرنا مقال التخطيط العمراني إلى البواعث الكامنة وراء همة نظام يوليو ٢٠١٣ في إعادة هندسة الحيز العام والمساحات التي يحيا فيها المصريون، من خلال شق الطرق وبناء الكباري والمدن الجديدة؛ بما فيها العاصمة الإدارية الجديدة، بالإضافة إلى المشاريع الكبرى.
“تهدف تلك المشاريع إلى حاجة واحدة وهي كسب مزيد من الأموال وتمكين الجيش وسلطة الدولة من البلد، كما صرح السيسي قبل ذلك أنه يود عمل شبكة طرق “تمسك البلد” وأشار بقبضة يده، وفي تصريح آخر ذكر أنه مستعد لأن ينشر الجيش في البلد كلها في غضون ست ساعات فقط، لذا كان من الضروري أن يعمل على إعداد شبكة طرق رئيسية ومتشابكة وواسعة تربط مصر كلها في آن واحد.”
إضافة إلى أن عنف التخطيط العمراني في مصر هدفه الأخير هو إبعاد المصريين عن الحيز العام بما يضمن تمويت السياسة وانتزاعها حتى لا تتكرر يناير مرة أخرى.
نحن هنا بإزاء سياسة لم تعد تصنع في المجالات التقليدية فقط من أمثال تناقضات علاقة مؤسسات الدولة ببعضها البعض، كما جرى في يناير التي أبرزت التناقض بين مشروع التوريث بشبكة مصالحه وبين مصالح المؤسسة العسكرية وإدراكها لدورها، ولم تعد تصنع فقط من طبيعة الاقتصاد السياسي الذي قام في جزء كبير منه على الريع المتحصل من العقار وبيع الأراضي وتصدير المحروقات؛ السياسة الآن تصنع في مجالات جديدة مثل التغير المناخي وزيادة تحضر المدن والمجال الديني والتخطيط العمراني، كما تتأثر بما يجري داخل الأسرة من عنف يقوم على النوع وما يجري في المجال العام من تحرش وعنف لفظي ومعنوي، هذه الظواهر جميعا تدعم استراتيجية النظام في تمويت السياسة وانتزاعها بشكل دائم ومستمر.
من السياسة إلى السياسات
تلفت نظرنا مقالة المصريون في الخارج إلى ظاهرتين متكاملتين في السياسة المعاصرة:
الأولي سبق وأشرنا إليها في النقطة السابقة، وهي اتساع المجالات التي باتت السياسة تظهر فيها، يفسر موجات الهجرة بين الشباب في مصر بمعادلة “عدم توافق مخرجات التعليم وسوق العمل”، وهنا يأتي التصور الأول للدولة -كما تشير المقالة- وهو أن الهجرة تعمل كوظيفة للحد من الضغط الواقع على سوق العمل الداخلي، خصوصا مع الزيادة السكانية، أحد دلالات التوازن ذاك الذي تتبناه مؤسسات الدولة المصرية؛ “فهجرة مجموعة من المصريين سنويا ضرورية لإحداث توازن في بنية السوق التي لا تحتمل مزيدا من الخريجين”.
النقطة الثانية؛ وهي أننا نشهد تحولا من السياسة باعتبارها عملية مؤسسية يضطلع بها نخبة محدودة، هي عادة الرئيس ومجموعة ضيقة حوله أو ما يطلق عليه النخب السياسية، إلي عمليات سياسية متعددة يقوم بها أصحاب مصلحة كثر، ولا تدور حول قضايا محدودة أو موضوعات محددة، وإنما كثير من القضايا والموضوعات التي تتأثر بها حياة المواطن اليومية من الخبز إلي سد النهضة.
الملاحظ في هذه السمة: أنه يجري مساءلة القضايا والموضوعات وفق عدد من المفاهيم والقيم التي باتت من صلب الخطاب السياسي المعاصر مثل: الشفافية والحكم الرشيد وأولويات الإنفاق العام والمساواة والشراكة في صنع السياسات وتطبيقها وحوكمتها.
سياسة المعاش
ورثنا عن السياسة في الانتفاضات العربية -قبلها وبعدها- عددا من الخصائص التي باتت سمة لصيقة لقطاع كبير من الفعل السياسي في الزمن المعاصر، وقد سبق وأطلقت عليها من سنوات “خطاب المعاش”؛ فهي:
- سياسة محلية، جذرها في الشبكات المحلية في الريف والمدن الصغرى.
- مطالبها مباشرة (الحد الأدنى للأجور-الامتحانات- مقرر الفصل الرابع الابتدائي -تحسين خدمات الإنترنت).
- لا تترجم نفسها بالضرورة في إصلاحات وطنية عامة مثل الديموقراطية أو إصلاح نظام التعليم.
- تهمش الأيديولوجية ولا تستند إلي خطاب قومي أو طبقي أو ديني بالضرورة.
- هي بلا قيادة ويلعب المنسق أو المنسقون الدور الأساسي بها، لأنها تتميز بالعفوية أو المبادرات المحددة الأهداف والمدة.
- تستند إلي شبكات لامركزية لا إلي المنظمات الهرمية.
إلى آخر ما هنالك من صفات توفرت عليها عديد الدراسات من خلال مفهوم “ما بعد السياسة”.
- الصراع حول المصالح الاجتماعية/الاقتصادية
أخيرا وليس آخرا؛ فإن السياسة نجد جذرها الأعمق في الصراع حول المصالح الاجتماعية/الاقتصادية لفئات اجتماعية متباينة، وهو ما أظهرت بقوة حقبة الربيع العربي بموجاته المتعاقبة، تدلنا هذه الحقبة على أمرين مرتبطين: الأول أن الدولة ليست كيانا مصمتا يسمو فوق المجتمع، ولا يمكن مصادرة الصراع الاجتماعي حول المصالح بخطاب قومي أو وطني أو ديني، الأمر الثاني أن السياسة لم تعد شأنا ثقافيا -كما أدركته كثير من نخبنا- تدور حول العلاقة بين الإسلامية والحداثة.
مرتكزان جديدان
هذه الخصائص جميعا ترتكز في جوهرها على سمتين أساسيتين للسياسة الجديدة:
الأولى: انتفاء فكرة التمثيل؛ فالدولة ومؤسساتها الوسيطة مثل البرلمان والنقابات والأحزاب تقوم على شرعية الوكالة عن أعضائها في تمثيل مصالحهم، وهو ما لم يعد موجودًا الآن، حيث انقسم الجمهور إلي مجموعات تتباين مصالحه وتختلف وقد تتقاطع في أحيان.
النقابات المهنية -على سبيل المثال- تضم مستويات مختلفة من الدخول (أطباء ومهندسون فاحشي الثراء في مقابل المستورين) بما يخلق تفاوتًا شديدًا بين الأعضاء في المصالح وأولويات المطالب.
إذا انتفى التمثيل والوكالة؛ فلابد أن تتغير الوظائف والأدوار، فتنتقل من التحكم والسيطرة إلى دور الوساطة/الحكم والإدارة.
فعلى سبيل المثال؛ تغير دور الرئيس؛ فبدلًا من أن يقود هياكل الدولة بأكملها وبيروقراطيتها لتحقيق وظائف الدولة التنموية والرفاهية -كما جرى في فترة عبد الناصر (١٩٥٤-١٩٧٠)؛ أصبح موازنًا وحكمًا بين مصالح طبقة رجال الأعمال وبين المصالح الاجتماعية العامة، ويحكم بين مؤسسات الدولة المتباينة في توجهاتها – كما في فترة مبارك (١٩٨١-٢٠١١).
وهنا يجب أن نلاحظ أن مبارك امتلك من الأدوات وقتها ما ساعده على لعب هذا الدور؛ فقد كانت الدولة تملك بقايا قطاع عام قوي يمكن أن يستخدمه لإحداث التوازن المطلوب، ولكن في ظل سعي دولة ٢٠١٣ الآن للتخلص من ملكياتها وإعادة التموضع في قطاعات اقتصادية بعينها، هل يمكن أن تظل تلعب دور الموازنة بين المصالح المتعارضة أم ستترك ذلك لقوى السوق؟
وإذا انتفى التمثيل والوكالة فلا بد أن تبرز فواعل “سياسية” جديدة بخلاف ما ألفناه، فمن قاد حملة إنترنت بلا حدود -كما قدمت- شباب تقني غير مسيس، اقترح بدائل وسياسات وحلول فنية للتغلب على المشكلة، واستطاع أن يحشد خلفه أصحاب المصلحة، لا طبقات أو فئات اجتماعية واضحة، ولم يدع تمثيل أحد منهم، فما جمعهم المصلحة المباشرة الواضحة، ويرتبط بذلك دور أكبر لمؤسسات وأشخاص وأدوات كالسوشيال ميديا لم نكن نعهدها تلعب أدوارًا سياسية برغم تأثيرها السياسي المباشر وغير المباشر.
يمكن الإشارة إلى البنك المركزي ومحافظه الذي قبل أن يرحل ترك لنا رسالة نشرت بالأهرام محملة بمضامين سياسية مباشرة وإن تلبست بلبوس اقتصادي.
الثانية: عند الاحتجاج أو الاعتراض على سياسة ما؛ فإن المحتجين والمعترضين يعبرون عن الطرف المشكو في حقه بشكل مباشر؛ فالحكومة صاحبة عمل وليست سلطة سياسية تمثل المجتمع، والإضراب هو ضد صاحب الشركة باعتباره مالكها وليس على القطاع الخاص أو رأسمالية المحاسيب، والإنترنت اللامحدود هو اعتراض على شركة we مقدمة الخدمة.
نحن بصدد سياسة ديناميكية باستمرار تتغير مواقع الأطراف المختلفة فيها، وكذا شكل الخطاب ليناسب وظيفته المباشرة وليس المنطق السياسي (ضد السلطة العامة)، أو الرأسمالي (رأسمالية المحاسيب)، أو الأيديولوجي (إسلاميين وعلمانيين) الذي يستند إليه.
ما يجري في الواقع إذن هو إعادة تعريف السياسة في وقت لا نزال نفكر فيها بمنطق قديم، ونبحث عنها في مواضع قديمة مثل: الأيديولوجيات والطبقة والحركات الاجتماعية وعند الإسلاميين وبين هياكل الدولة فقط التي تآكلت وتغيرت وظائفها وانفك تماسكها …إلخ.
السياسة الآن تصنع في أماكن أخرى، ومن مادة جديدة، وبفواعل جديدة، وفي مجالات جديدة، ووفق قضايا جديدة.
تعليقات علي هذا المقال