مع مرور عقد على اندلاع احتجاجات الربيع العربي، ووصول المشهد العام في مصر إلى انسداد غير مسبوق، وفشل النظام الحاكم الحالي في النهوض بأوضاع المصريين بالتوازي مع تبنيه لنهج القمع وفرض الجبايات، تزداد الحاجة لدراسة الأحداث السابقة لأخذ العبر منها من أجل المستقبل الذي نتوقع أن يكون ممتلئا بالمستجدات في ظل حقيقة أن نظام يوليو أُصيب بالشيخوخة في عهد مبارك، وفقد مشروعيته في عهد السيسي، وأصبح يدافع عن وجوده منذ اندلاع ثورة يناير.
وفي هذا المقال أتناول مدى تأثير المثقفين في تحديد مسار ثورة يناير، وإمكانية أن يكون لهم دور في توجيه مسار الأحداث مستقبلا، وأسعى لتقديم تحليل للاستقطاب (الإسلامي – العلماني) الذي ازدادت حدته بعد ثورة يناير، وأناقش هل كان استقطابا حقيقيا لابد منه أم مصطنعا من الممكن تجاوزه، وصولا إلى كيفية إدارته مستقبلا.
أولا:المثقفون وثورة يناير
بعض تعريفات المثقف، تجنح إلى أنه (كل من يعمل في مجال يتصل بإنتاج المعرفة أو نشرها)، ويذهب إدوارد سعيد إلى أن المثقف فرد (ينهض بدور معين في الحياة العامة بمجتمعه… فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما.. وتمثيل ذلك باسم المجتمع). وهو تعريف يتسع ليشمل مفكرين وكتاب وإعلاميين وشعراء وأدباء وخطباء وما شابه. يلعب المثقفون دورا مهما في توجيه المجتمعات. فالمثقف الجاد مفترض أن يساهم في تنوير عقول الآخرين، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم، وشرح العقبات التي تعترض نهضتهم. ومن ثم عادة ما يتصدر المثقفون موجات الحراك الجماهيري، بل ويسبقونها بخطوات عبر التنظير للتغيير والثورة وانتزاع الحقوق. ولذا يقول سعيد أنه (لم يحدث أن قامت ثورة كبرى في التاريخ الحديث دون مثقفين).
لكن في الحالة المصرية، لم تندلع ثورة يناير على خلفية تنظيرات ثورية طرحها المثقفون، حيث خلت الساحة الثقافية تقريبا من منظرين بارزين يدعون لتثوير المجتمع، ويمكن القول بأنه منذ تنظيرات سيد قطب في منتصف القرن العشرين لم تبرز تنظيرات ثورية في المشهد المصري. إنما تبنى بعض المثقفين مقاربات تدعو النظام للإصلاح، أو عدم توريث الحكم مثلما يتجلى في نموذج حركة كفاية.
عمليا، كانت جموع الشعب أسبق من الشرائح المثقفة في توسيع نطاق الدعوات التي أطلقها النشطاء السياسيين للاحتجاج في يناير، فحولوها إلى ثورة شعبية في ظل أجواء انسداد سياسي توجتها عملية تزوير موسعة لانتخابات مجلس الشعب في نهاية 2010 بالتوازي مع تصاعد الحديث عن توريث الحكم لجمال مبارك فضلا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتزايد وتيرة التراجع في حالة الحقوق والحريات وصولا إلى حادثتي قتل الشابين خالد سعيد وسيد بلال، وعدم قدرة مؤسسات الدولة على تلبية احتياجات الشعب الأساسية بتوفير معيشة آدمية وتعليم جيد ومنظومة صحية لائقة مما انعكس سلباً على حياة المواطنين.
كذلك لم يكن هناك دور مؤثر للمثقفين في توجيه الثورة بعد حدوثها مقارنة بدور قادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وشبكات رجال الأعمال والنخب السياسية وقادة الجماعات المنظمة. بل يمكن القول بأن طبقة المثقفين لعبت دورا سلبيا عبر إبراز وتعزيز الاستقطاب الثقافي (الإسلامي – العلماني) الذي ساهم في إعاقة مسار ثورة يناير، والتمهيد لانقلاب يوليو 2013.
ثانيا:الاستقطاب الثقافي (الإسلامي – العلماني)
اتسم عهد مبارك بوجود استقطاب إسلامي علماني تأجج في مطلع التسعينات خلال حقبة صراع النظام مع بعض الجماعات الإسلامية، وتحتفظ ذاكرة تلك الحقبة بندوات شهدت حضورا جماهيريا واسعا، وشارك فيها د. محمد عمارة والشيخ محمد الغزالي ود. محمد سليم العوا و د. فؤاد زكريا والكاتب فرج فودة فضلا عن الكتب التي كان يهاجم كل طرف فيها الآخر.
عقب ثورة يناير، عاد الاستقطاب الإسلامي العلماني للمشهد بحدة لأسباب موضوعية ومصطنعة. فالجزء الموضوعي يتعلق باختلاف تصورات كلا الفريقين عن شكل الدولة المنشود بعد الإطاحة بنظام مبارك، وخشية كل طرف من انفراد الآخر بصياغة شكل الدولة وفق أيدولوجيته.
وفي ظل الشعبية الكبيرة للقوى الإسلامية خشيت أغلب القوى العلمانية من تداعيات الاعتماد على الممارسات الديموقراطية، فحاولت أن تدعم في 2011 جهود القوات المسلحة لفرض مبادئ عليا فوق دستورية في وثائق علي السلمي ويحيى الجمل، ثم حين رأت أن العمليات الانتخابية التي حدثت بعد الثورة كافة فاز فيها الإسلاميون مثل انتخابات مجلسي الشعب والشورى والرئاسة فضلا عن رجحان الكفة التي دعمها الإسلاميون في استفتاء مارس 2011 او الاستفاء على الدستور في 2013. رفضت تلك القوى الإقرار بتبعات نتائج الانتخابات، وتحالفت مع القوات المسلحة تحالفا وفر واجهة سياسية لانقلاب يوليو 2013، وقامت بذلك الدور جبهة الانقاذ بشكل أساسي قبل أن تتفكك لاحقا بعد نجاح الانقلاب.
توهمت أغلب القوى العلمانية وبالأخص الممثلة في كيانات حزبية مثل (الوفد، الدستور، المصريون الأحرار، المصري الديموقراطي الاجتماعي، الكرامة، التحالف الاشتراكي) أن إزاحة الجيش للإخوان من الحكم ستفتح لها الطريق كبديل عن الإخوان، وتزايدت تلك الطموحات مع تعيين محمد البرادعي نائبا لرئيس الجمهورية عقب الانقلاب، وتشكيل حكومة برئاسة حازم الببلاوي وبعض المحسوبين على الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي، لكن سرعان ما لفظتهم القوات المسلحة وشكلت حكومات لاحقة غير مسيسة. ويمكن القول بأن أغلب القوى العلمانية فضلت في فترة مفصلية نار العسكر على حكم مدني يقوده إسلاميون، وتوهمت أنها ستحقق تحت بنادق العسكر ما لم تحققه عبر صناديق الاقتراع. والاستثناءات من ذلك موجودة لكنها محدودة، ومن أبرزها الاشتراكيون الثوريون وبعض الأفراد الذين رفضوا الحكم العسكري، ولم يقبلوا خيار الانقلاب العسكري على رئيس منتخب.
وفي المقابل، أثارت بعض القوى الإسلامية وبالأخص السلفية معركة مصطنعة حول قضية الهوية، فبعد تنحي مبارك مباشرة، سارع عدد من الدعاة إلى عقد سلسلة من المؤتمرات الجماهيرية تحت شعار (الحفاظ على المادة الثانية من الدستور). والملفت أنه في ذلك الوقت المبكر الذي دُشنت فيه تلك المؤتمرات لم تكن هناك دعوات تستهدف تغيير تلك المادة من الدستور، وهو ما يضع علامات استفهام على دوافع منظمي تلك المؤتمرات، وبالأخص مع استصحاب عدم مشاركتهم في ثورة يناير ثم اختفائهم من المشهد عقب الانقلاب. وعمليا ساهمت مجهوداتهم في تعزيز حالة الاستقطاب الإسلامي العلماني، كذلك ساهمت التصريحات العفوية لبعض الدعاة في توفير بيئة خصبة للاستقطاب كما في التصريح الشهير للشيخ محمد حسين يعقوب بعد الاستفتاء على الإعلان الدستوري في مارس 2011 (وقالت الصناديق للدين نعم).
كذلك ساهمت الاتهامات الموجهة من بعض الحركات الشبابية مثل حركة 6 إبريل لجماعة الإخوان بالتحالف مع المجلس العسكري، بالتزامن مع مواقف الإخوان الرسمية من بعض الأحداث مثل أحداث محمد محمود، في دعم جهود بعض القوى العلمانية لتكريس صورة أن الإخوان خانوا الثورة بعد أن قفزوا عليها، وهو ما شجع بعض الحركات الشبابية لاحقا على التحالف مع القوات المسلحة لإزاحة الإخوان من الحكم.
هل من آفاق لتقليل حدة الاستقطاب الإسلامي العلماني؟
الاستقطاب العلماني الإسلامي توافرت له أسباب ذاتية ومصطنعة، وتقليل حدة هذا الاستقطاب مستقبلا يتطلب مراجعات جادة من الطرفين.
فالقوى العلمانية تحتاج أن تراجع مدى تمسكها بمبادئها المعلنة واحترام إرادة المواطنين، وطبيعة علاقاتها بالقوات المسلحة، ونظرتها للقوى الإسلامية، حيت أن العديد من الرموز العلمانية لا يتصورون مكانا للإسلاميين سوى في السجون أو على مقاعد المعارضة، ويرفضون ابتداء وجود الإسلاميين في مقاعد السلطة.
في حين بالمقابل تحتاج الأوساط الإسلامية إلى مزيد من التوعية السياسية، وتجنب فتح معارك وهمية لإثبات الوجود، والابتعاد عن دغدغة مشاعر الجماهير بتصريحات عنترية، وإقامة جسور تواصل مع القوى غير الإسلامية التي تحترم خيارات المواطنين وترفض العيش في كنف الاستبداد.
وهنا يأتي دور المثقفين عبر تزايد احتكاكهم بقضايا المجتمع وتسليطهم الضوء عليها، وتوعيتهم للجماهير بحقوقها المسلوبة وإحيائهم لمعاني رفض الظلم، بعيدا عن نموذج مثقفي السلطة الذين يوظفون الثقافة لخدمة الاستبداد وتبرير جرائمه وتجاوزاته أو نموذج المثقفين المنفصلين عن الواقع ممن يركزون على قضايا سفسطائية جدلية بعيدة عن اهتمامات ومشاكل الناس.
وإن تغيير تراتبية الحكم في مصر، والذي تقبع القوات المسلحة على رأسه، يتطلب اصطفافا وطنيا حقيقيا يقوم على احترام إرادة المواطنين وهويتهم بعيدا عن الأفكار الوصائية الاستعلائية التي ترى أن النخبة السياسية تدرك مصالح الجماهير أكثر من الجماهير ذاتها أو تتبنى مقاربة إقصاء أكبر مكون جماهيري شعبي متمثل في الإسلاميين من حقه في شغل مقاعد السلطة في حال اختيار الشعب لهم.
ومن نافلة القول التأكيد على أن تراجع حدة الاستقطاب الإسلامي العلماني وتحقيق الاصطفاف لن يتحقق عبر شخصيات تخدم أجندات مرتبطة بالنظام الاستبدادي أو قوى دولية وإقليمية، إنما يتطلب شخصيات وطنية حرة نظيفة اليد والسمعة، مستقلة القرار، تعلي الصالح العام على مصالحها الشخصية والفئوية الضيقة، وتراعي أنه في حال تجاهل عوامل نجاح الاصطفاف، ستستمر حالة الاستقطاب بين المكونين الإسلامي والعلماني، مما يصب في صالح قوى الاستبداد.
المصادر
- إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، ط1 (القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2006) ص40.
- المصدر السابق، ص43.
- المصدر السابق، ص42.